الملفت للانتباه بصدد الموقف من الديموقراطية ان الجميع يكيل لها المدائح تلو المدائح ويقدمها على أنها أفضل نظام سياسي للحكم أو أقل أنظمة الحكم سوءاً. في منتصف هذا القرن كانت الديموقراطية تقترن بالليبرالية وبالبورجوازية حين كانت الفكرة الاشتراكية المهيمنة تعتبرها نظاماً سياسياً للبورجوازية، وتنظر اليها كشيء كمالي. فالشعب يحتاج الى العدالة القائمة على توزيع الخيرات، يحتاج الى الخبز والى العمل والى ضمانات العيش، أكثر من حاجته الى المساواة الصورية بين الناس في الترشيح والانتخاب. وفجأة، مع انهيار المنظومة الاشتراكية، بدا وكأن الديموقراطية هي الحل الأمثل لقضايا الشعوب، كما بدا ان افتقاد الاشتراكية للبعد الديموقراطي في السياسة نقيصة لا تغتفر، بل ظهر كأن فشل الاشتراكية يعود بالضبط الى افتقادها الديموقراطية والى احتقارها لها. وتحت تأثير هذا السياق الذي انتعشت فيه الفكرة الديموقراطية تم تقديم هذه الأخيرة وكأنها الحل السحري لكل المشاكل، وتم التناسي والتغاضي عن عورات الديموقراطية ونقائصها ومثالبها، في اتجاه تمجيدها وإضفاء الصبغة اليوتوبية عليها. والحال ان تاريخ الفكر الفلسفي والسياسي طافح بالمآخذ والانتقادات للديموقراطية، وذلك منذ نشأتها كفكرة، وكنظام، الى الآن. أول من وجه انتقادات لاذعة للديموقراطية هو الفيلسوف الاغريقي افلاطون في القرن الخامس قبل الميلاد. ومضمون نقده ان الديموقراطية هي التي أتاحت الفرصة للسفسطائيين المهرجين الذين يتقنون فن الخطابة، ويمتلكون بذلك القدرة على استمالة الجمهور وتعبئة الغوغاء، للوصول الى السلطة. أما في العصور الحديثة فإن أكبر أعداء الديموقراطية هو الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. فالديموقراطية بالنسبة الى نيتشه هي سياسة القطيع، والفكرة الديموقراطية هي الوريث الفكري والروحي للمسيحية في العصر الحديث. فهي استبدلت المساواة أمام الله بالتساوي أمام القانون، كما استبدلت الخلاص الروحي السماوي بالخلاص الأرضي المتمثل في تحقيق السعادة الأرضية في دولة سيدها هو القانون. ان قيم الديموقراطية بالنسبة الى نيتشه هي نفسها القيم المسيحية القائمة على الثالوث المقدس بدوره: الحرية والمساواة والاخوة. وبالتالي فالدولة الديموقراطية في الغرب هي قائمقام الكنيسة وخليفتها. "ان تصاعد الديموقراطية في أوروبا حلقة ضمن مسلسل من الأدوات الوقائية الكبيرة التي هي من وضع الأزمنة الجديدة، وهذا ما يفصلنا عن العصور الوسطى" نيتشه: المسافر وظله. ان الديموقراطية بالنسبة اليه هي أكبر خدعة سياسية في العصر الحديث. عيب الديموقراطية الأساسي هو ارتكازها على وتكريسها لفكرة المساواة. والمساواة تسطيح، وتخريف من الخرفان، وسياسة قطيع، لأنها تسمح لكل من هب ودب بأن يصبح مواطناً له كل الحقوق، أي فاعلاً سياسياً له الحق قانونياً في أن يصبح ناخباً، أو ممثلاً للشعب، أي حاكماً، وبالتالي مسؤولاً أو وزيراً. والمساواة تعني التماثل، وتوحيد الشكل Uniformitژ، والمغفولية Anonymat، وحكم الإجماع Consensus. لكن من مستتبعات المساواة ان يعطى الحق للتفاهة والرداءة mژdiocritژ، من خلال اسناد الحقوق السياسية للحثالة ولقعر المجتمع. كما يوجه نيتشه ضربات مطرقته النقدية الراديكالية للدولة نفسها حيث يعتبرها أبرز المسوخ الحديثة لأنها "ليست الا القبضة الحديد التي ترغم المجتمع على التطور بالقوة" من: "مقاطع بعد الموت". لقد اختلست الدولة سمة القدسية من الكنيسة وجعلت الناس ينظرون الى حاكمهم وكأنه الههم بالذات. وأقامت هيبتها على أساس أكذوبة كبرى هي: أنا الدولة، أنا الشعب! الدولة في نظر نيتشه عبارة عن آلة استبداد كبيرة متعددة الرؤوس. وظيفتها الأساسية اضطهاد الشعوب وتدمير الحياة. فحيثما وجدت الدولة وجد الاضطهاد. ولا وجود على وجه الأرض لسلطة أو لدولة عادلة لأن السلطة شرسة بطبيعتها واضطهادية من أصغر مستكتب في الاقاليم الى أكبر مستوزر. ولا مكان للرحمة أو للشفقة في قلوب رجال السلطة اللهم إلا رحمة الذئب بخرافه، والسياف بضحاياه. ونيتشه لا يقل عن ذلك حدة في نقده للسياسة عامة وللانسان السياسي. فالعالم السياسي في رأيه هو مسرح نزهات وأكاذيب لا نهاية لها. والانسان السياسي هو نموذج المكر والبهلوانية والحربائية. لذلك فالساحة السياسية مليئة بالمهرجين الصاخبين Bouffons tapageurs والحثالات والفضلات Superflus. ولم تسلم الاشتراكية، التي لا تخلو من صلة بالديموقراطية في وجهها الاجتماعي، من لهيب النقد النيتشوي. فالاشتراكية عبارة عن حسد صريح، وهي أكثر غباء من الديموقراطية نفسها. وهذا ليس إلا غيضاً من فيض، وليس الا شظايا من النقد النيتشوي لكل من الديموقراطية، والدولة، والاشتراكية. لكن الغريب في الأمر هو أن العديد من فلاسفة السياسة في العصر الحديث في الغرب وجهوا انتقادات لاذعة للديموقراطية وللنظام الديموقراطي من دون أن تأخذ هذه الانتقادات طريقها الى التداول الواسع. وأبرز من انتقد الديموقراطية في الفكر الفلسفي السياسي المعاصر تيار فلسفي يدين لهيدغر بتوجهه الفلسفي المضاد للنزعة الانسانية، من أشهر رواده ليوستروس وحنة آرنت. فقد انتقدت هذه الأخيرة الانحرافات التي شهدتها الديموقراطية في القرن العشرين ودفعت بها الى اكبر كارثة سياسية شهدها هذا القرن والمتمثلة في الأنظمة الكليانية النازية والشيوعية. رأت ارندت في الظاهرة الديموقراطية شكلا سياسياً يمارس نوعاً من التفتيت للعنصر الاجتماعي، وذلك لأن النزعة الفردانية، التي هي أساس الديموقراطية، تقوض الرابطة اللاحمة للمجموعة البشرية. فهذه النزعة تحذف العصبيات والفروق التي تشد كل أشكال التراتب الاجتماعي، وتجعل المطالب الديموقراطية تنتقل بالتدريج من الدائرة السياسية، التي هي موطنها الأصلي، الى الدائرة الاجتماعية. وهذا ما يفسر استفحال خطاب "تقليص الفروق" السائد اليوم. ان الناس عندما يتساوون ويغدون متشابهين، فانهم سيصبحون غرباء عن بعضهم البعض، وسينغلق كل فرد على نفسه معتقداً انه مكتف بذاته. ان التفتت الفرداني الملازم للديموقراطية - كما ترى حنة ارندت - سيقود الى نشوء مجتمع من دون نتوءات، مجتمع مستو، متجانس، مكتلن وأجوف. بل ان تأثير الأهواء الفردانية لا يقتصر على تغيير طبيعة المجتمع، بل سيصيب السياسة نفسها بالتكلس. وبذلك فإن التوحيد الشكلاني الديموقراطي سيقضي على التعددية التي هي أساس السياسة. ان الديموقراطية في نظر حنة ارندت تقترن بعصر سيادة الجماهير والكتل البشرية حيث تذوب الحدود وتنتصر روح الحشود. معظم هذه الانتقادات يصدق على المجتمعات التكنولوجية المتقدمة، أما في البلدان المتأخرة فإن الديموقراطية لا ترتبط فقط بالسوقية بل بالسوق أيضاً. فبالنظر الى انخفاض المستوى الاجتماعي والثقافي وضآلة الثقافة السياسية للمواطن، وبالنظر الى أن هذه المجتمعات تنخرط بعنف في رأسمالية متوحشة تقحم الجميع في السباق المحموم من أجل الارتقاء الطبقي، فإن الديموقراطية نفسها تصبح بضاعة تباع وتشترى. فالمواطن يبيع صوته، والمرشح المؤهل للنجاح يساوم على ترشيحه، والأحزاب تشتري الترشيحات، وكلما ارتفع مستوى المسؤولية في سلم "الديموقراطية" أصبح الثمن كبيراً، لأن الجميع يعلم ان المنتخب قادر على جمع ثروات طائلة بمجرد تحمله المسؤولية التي لن يجني منها النفوذ السلطوي الفعلي فقط ولا الحظوة الاجتماعية، بل أيضاً مراكمة رأس مال مالي وعقاري يقيه ويقي أحفاده عوادي الزمن. وكثيراً ما تتحول الديموقراطية الى دمية أو حجاب يستر العورات، حيث ينزوي الحاكم وقوى وجماعات الضغط وراء ستار المسرح السياسي لإدارة اللعبة بما يوحي بالاستقلالية والنزاهة. * كاتب مغربي.