لئن كانت «ليلى» الاسم الأنثوي الذي استحوذ على مخيلة الشعراء وقصائدهم منذ العصر الأموي عند العرب، بعد القصة الشهيرة بينها وبين الشاعر قيس بن الملوح، وتحولها فيما بعد إلى رمز للأنثى الفاتنة والملهمة لقصائد الشعراء؛ فإننا اليوم إزاء اسم أنثوي «عائشة»، وهو موجود في الحياة العربية منذ القدم، لكنه اليوم يحضر جلياً ويحتل موقعاً لافتاً في نصوص الشعراء، وتزاحم «عائشة» ليلى على عرشها ويتحول اسمها إلى رمز للمرأة المحبوبة أو الأم أو الأخت... وليست المنفردة بالعشق فقط كما في حال ليلى، فتلهم «عائشة» الشعراء من زوايا عدة، وتسيطر على مخيلاتهم وتباشر تأثيرها في صناعة القصيدة، فتوجد أكثر من أي يوم مضى وتقف شامخة في غير كتاب ومجموعة شعرية. إن المعنى الذي يشير إليه الاسم «عائشة» يوحي بالبقاء والدوام، وهو معنى يخلّد حضوره في نفس مالكته ونفس شاعرها، ويظل متوارثاً، على رغم المتغيرات العصرية في خلق الأسماء وتوالدها بين الناس والتحديث المستمر لها بطبيعة الحال. من المؤكد أن «عائشة» لم تأت من فراغ عاطفي، حتى وإن سلّمنا بفكرة المصادفة في ظهورها في ديوان غير شاعر، بل تم توظيفها في النص والإشارة إليها لدلالة تعني الشاعر وحده، وربما تعرّت مشاعره في القصيدة فعرفنا المحفّز الوجيه من استسلامه لهذه المرأة وإلصاق القصيدة بها، وانقياده الحالم لها. يطرح الشاعر العربي الراحل عبدالوهاب البياتي مجموعة كاملة هي «بستان عائشة»، ويعترف في غير مكان: «إن عائشة هي الرمز الذاتي والجماعي للحب الذي اتحد كل منهما بالآخر وحلا في نهاية الأمر في روح الوجود المتجدد»، فيكتب: «تُخفي وراء قناعها وجهَ ملاك، وملامحَ الأنثى التي نضجت على نار القصائد. أيقظت شهواتها ريحُ الشمال، فتجوهرت تفاحةً/ خمراً، رغيفاً ساخناً في معبد الحب المقدس، أدمنت طيب العناق، ظهرت بأحلامي فقلتُ: فراشة رفّت بصيف طفولتي قبل الأوان، وتقمصت كل الوجوه وسافرت/ بدمي تنام». فيما يتذكر الشاعر علي الحازمي محبوبته «عائشة» في نص يحمل الاسم نفسه، ويتنقل فيه الشاعر بين حاضره وماضيه والحنين إليها لا يفارقه، فيقول: «كبرنا على الحب يا عائشة، وكدنا نضيّع قِبلتنا في الدروب المريضة بالوقت والتعب القروي، لم نكن واضحين كما ينبغي للفراش بأن يتهافت في ظلنا، كان صوتك أقرب للعشب من نفسه حين ينداح بين صفوف النخيل وينأى على ضحكة فاتنة، حين تغفو سنابل أرواحنا في هزيع سريرتها القروي يجيء هواك الجنوبي مزدحماً بالمواويل والأغنيات القريبة من تعبي، كان طيفك يبذرني في الحقول كحبة قمح تفتق وجه التراب لتفصح عن حرقة كامنة». لكننا عندما نقرأ نص «قبر عائشة» لأحمد الملا سنكتشف أن عائشة حضرت في قصيدة الشاعر بوصفها أماً حنوناً أبدعت وإلى حد بعيد في تكوين الشاعر الفكري والعاطفي والشخصي، ووجد الملا نفسه بعد رحيلها واحداً ووحيداً، لم يعد يراها أو يشم رائحة طيبها، فيمر على قبرها ويكتب: «لم تنزع من القلب غلالة الفقد، نداؤها غرز الحربة ونصلها الطويل ببطء يغوص يشق الحنين ويوسعه.. عودي واتركي رائحتك في الطريق، رائحة الضحى وهو ينزل بالحناء، رائحة ثوبك ذي الشجر كي أقتفيك، أو تذكري مرقدك التائه بشمعة صغيرة لأتوسد ضوءك وأنام». أما الشاعران عبدالرحمن الشهري وإبراهيم زولي فلم يكن لهما من بد سوى أن يهديا إلى «عائشة» ديوانين كاملين، ويعترفا بأنها «تختزل النساء في امرأة واحدة» عند زولي في ديوانه «الأجساد تسقط في البنفسج»، فيما يكتب الشهري في إهدائه ديوان «لسبب لا يعرفه» لأخته عائشة: «ماتت عائشة، لأن الموت لا ينبغي أن يعود إلى السماء بلا راكب جديد فإلى روحها هذه القصائد». هكذا إذاً تتحول عائشة إلى رمز شعري تحضر بكامل أنوثتها وبهائها، فتستحوذ على كيان الشعراء وتنفرد بقصائدهم وتؤسس لاسمها في سماء القصيدة العربية المعاصرة، وتصنع حظاً مبهجاً لكل من تحمل هذا الاسم وتلتصق به.