Jean Jacques Plucart. La Crise Corژenne. الأزمة الكورية. L'Harmattan, Paris. 1999. 260 Pages. مصطلحان فرضا نفسيهما في التعامل مع النموذج الكوري للتنمية: "المعجزة" و"الأزمة". المعجزة أولاً للإشارة الى واقعة خارقة للمألوف في تاريخ المجتمعات البشرية المعاصرة، ألا وهي الارتقاء الصاعق لبلد غير غربي من المستوى المتخلف للعالم الثالث الى المستوى المتقدم للعالم الأول، وقفزه في مدى أقل من ثلاثين عاماً الى المرتبة الحادية عشرة في عداد الدول الأكثر تصنيعاً في العالم. فبين 1961 و1990 سجلت كوريا الجنوبية نمواً صناعياً هو الأعلى من نوعه في العالم: 4،14 في المئة سنوياً مقابل 8 في المئة لدى سائر "التنانين" الآسيوية و2،4 في المئة في اليابان و3 في المئة في عموم العالم الغربي. وبين 1949 و1997 تضاعف الناتج القومي لكوريا الجنوبية من 2 بليون دولار الى 510 بلايين، مما يعني أن مستوى دخل الفرد فيها ارتفع خلال نصف قرن من النمو السريع من 70 دولاراً في السنة الى 11000 دولار. ولا تكتمل صورة هذه "المعجزة الكورية" ما لم نأخذ بالاعتبار بعض المؤشرات الرقمية الإضافية. فعلى حين أن تعداد السكان الكوريين لم يتضاعف خلال فترة نصف القرن تلك سوى مرة واحدة، فإن تعداد القوة العاملة قد تضاعف نحواً من أربع مرات، إذ ارتفع من 5،5 مليون شخص عام 1949 الى 21 مليوناً عام 1997. وفي تلك الحقبة طرأ تحول جذري على بنية الإنتاج: فقد تدهور موقع الزراعة في الناتج القومي الإجمالي من 2،47 في المئة الى 8،7، بينما ارتفع موقع الصناعة من 10 في المئة الى 3،39. كذلك ارتفع حجم الصادرات من 1،0 بليون دولار الى 7،119 بليوناً. وقد تراجعت حصة الصناعات الخفيفة في هذه الصادرات من 68 في المئة عام 1970 الى 20 في المئة عام 1996، وهذا لمصلحة الصناعات الثقيلة من السيارات والسفن والفولاذ والبتروكيماويات والأجهزة المعلوماتية. وفي عقد التسعينات توجهت الشركات الكورية العملاقة المعروفة باسم "جيبول" نحو تبني استراتيجية التوظيف المباشر في البلدان الاجنبية. وفي 1995 كان حجم التوظيفات الكورية في الخارج قد ارتفع الى 11 مليار دولار، ليقفز في العام التالي الى 17 مليارا، ثم في 1997 الى 26. وابتداء من 1994 اندفعت كوريا الجنوبية نحو التوظيف في ميدان البحث العلمي. فتحت شعار "الاول في العلوم" اعطى "بلد الفجر الهادىء" - وذلك هو المعنى الاشتقاقي لاسم كوريا - أولوية قومية للتوظيف في مجال البحث العلمي بهدف التحرر من التبعية للتكنولوجيا الغربية واليابانية. وبعد ان كان لا يخصص للبحث العلمي سوى 28 مليون دولار في 1961 32،0 في المئة من الناتج القومي الاجمالي و500 مليون دولار 81،0 في 1981، ارتفعت هذه الميزانية عام 1994 الى 6،7 مليار دولار 3،2 في المئة من الناتج القومي والى 2،12 مليار دولار عام 1995، ثم الى 3،15 مليار 79،2 في المئة عام 1996. وعلى هذا النحو احتلت كوريا الجنوبية المرتبة الثالثة في العالم من حيث كثافة الباحثين: 6،28 باحثاً لكل 10000 من السكان مقابل 6،36 في الولاياتالمتحدة و5،52 في اليابان. لكن ما كان لا يتم تعقّله حتى 1997 الا بمفردات "المعجزة"، بات لا يُتَعَقّل، ابتداء من آب أغسطس من ذلك العام، الا بمفردات "الأزمة". ففي يوم 2 تموز يوليو 1997 ضرب اعصار مالي هائل جملة بلدان "النمور" و"التنانين" في آسيا الشرقية على اثر توقف الحكومة التايلندية عن التدخل في الاسواق لحماية معدلات صرف العملة الوطنية ازاء الدولار. وابتداء من ذلك اليوم توالت سلسلة من الانهيارات في بورصات جنوب شرقي آسيا، وسقطت قيمة العملات الوطنية بمعدلات مذهلة، وأعلنت المئات من الشركات العملاقة والمصارف افلاسها. وفي ما يتعلق بكوريا الجنوبية حصراً، سجلت بورصة سِيول انهياراً مفاجئاً بمعدل 38 في المئة، كما فقدت العملة الوطنية الكورية الوون نصف قيمتها في مقابل الدولار. وأشهرت الآلاف من الشركات الكورية افلاسها، وبلغت المعدلات الشهرية للإفلاس 6000 حالة، وارتفع رصيد المصارف الكورية من القروض المشتبه في امكانية تحصيلها من 80 بليون دولار الى 415 بليوناً. واضطرت الشركات العملاقة الخمس الأولى - وهي هونداي وسامسونغ وديوو وغولدستار وسونكيونغ التي تتحكم وحدها بثلثي الصادرات الصناعية الكورية وتنتج بمفردها ما يعادل 33 في المئة من الناتج القومي الكوري - الى تسريح ما لا يقل عن 600 ألف من عمالها. وقد عاشت كوريا "يوم عار" حقيقياً عندما أعلن صندوق النقد الدولي، في 3 كانون الأول ديسمبر 1997، عن خطة عاجلة لإنقاذ الاقتصاد الكوري من الانهيار، عن طريق تخصيص "مغلف من الاعتمادات" بحجم 3،58 بليون دولار على سبيل الإسعاف العاجل. وقد اعتبر الكوريون هذا التدخل بمثابة صفعة إذلال للكرامة القومية، لا لأنه اتخذ شكل "إسعاف" فحسب، بل لأنه فرض أيضاً على الشركات العملاقة الكورية أن تتخلى عن سياستها في التشغيل مدى الحياة لعمالها، وعلى أن تفتتح رساميلها للمساهمات الأجنبية، وعلى أن تقلص نشاطها التوسعي في الخارج. وقد وُجد من يتحدث بهذا الصدد حتى عن "مؤامرة دولية" تستهدف "تجلية" الشعب الكوري الذي استطاع في أقل من نصف قرن أن يجعل من "بلد الفجر الهادىء" ياباناً ثانية. ما أسباب الأزمة الكورية؟ لقد أعطى المراقبون الأولوية في التفسير للعامل المالي. ف"المعجزة الكورية" قامت، مثلها مثل سائر "المعجزات الآسيوية"، على معدلات مرتفعة للغاية من المديونية. ففي نهاية 1997 كانت ديون جملة الشركات الكورية قد بلغت 585 بليون دولار. كما أن ديون الشركات العملاقة الخمس الأولى قد بلغت وحدها 6،217 بليون دولار، موزعة على النحو التالي: هونداي 4،61 بليون دولار، سامسونغ 7،54، غولدستار 5،42، ديوو 8،34، سونكيونغ 2،24. وهذه المديونية في ثلثيها داخلية، وفي ثلثها الثالث خارجية. والحال أن الرأسمال التسليفي سواء كان قومياً أم عالمياً، "جبان" بطبيعته وسريع الهرب من الأسواق المالية حالما يساوره الشك وعدم الثقة. وحالة الذعر التي دبت في البورصات الآسيوية أدت الى سحب مئات البلايين من الدولارات. ورغم تدخل المصارف المركزية، فقد انتهى الأمر بمئات الشركات الى اعلان عجزها عن الدفع أو حتى الى اشهار افلاسها. وقد قدر حجم الديون التي أعلنت كوريا الجنوبية عن عجزها عن تسديدها ب112 بليون دولار. ولكن بالإضافة الى هذا العامل المالي المباشر، ثمة عوامل بنيوية تتصل بطبيعة الرأسمالية الكورية بالذات. فالرأسمالية الكورية كانت - ولا تزال - رأسمالية "عائلية" والجيبولات أو الشركات العملاقة الكورية كانت - ولا تزال - شركات "عائلية"، أي شركات تديرها وتملك غالبية ر أسمالها وأسهمها عائلة واحدة يتوزع أفرادها ما بين أجداد وآباء وأبناء وأحفاد واخوة وأخوات وأصهار. وهذا الطابع العائلي المغلق يتنافى بطبيعة الحال مع ما تقتضيه العقلية الرأسمالية الحديثة من انفتاح ومن تقديم لمنطق السوق المغفلة الهوية على منطق الهويات المقفلة والعصبيات بأنواعها، بما فيها العصبية العائلية، وكذلك الاثنية. والحال أن الرأسمالية الكورية تضيف الى طابعها العائلي طابعاً اثنياً قومياً. فقد قامت من البداية على "تواطؤ" ما بين العائلات والدولة، وتطورت في ظل من حماية السلطة السياسية التي كانت في الغالب من طبيعة عسكرية واستبدادية. ولكن تطور الحركة المطلبية والديموقراطية في الداخل، وتطور الرأسمالية الدولية نحو العولمة في الخارج، حشرا الرأسمالية الكورية في نوع من زاوية ضيقة. فهي ما عادت تستطيع أن تبقى "أبوية" تجاه اليد العاملة الكورية، ولا "قومية" إزاء الرأسمالية المتعولمة. وإنما على هذا الصعيد تحديداً نستطيع أن نضيف الى الشبكة التفسيرية للأزمة الكورية، عاملاً ثقافياً. فالنموذج الكوري في التجلية التنموية موسوم بعمق بميسم الديانة والثقافة الكونفوشية. وقد كان ماكس فيبر لاحظ منذ مطلع القرن ان كونفوشية آسيا تقف عائقاً دون تمخض نظام رأسمالي آسيوي لأن "العقلانية الكونفوشية تقوم على التكيف المنطقي مع العالم على حين أن العقلانية الرأسمالية تقوم على السيطرة العقلانية على العالم". ولكن "العائلات" الكورية التي استنسخت بنجاح التجربة اليابانية استطاعت، على العكس من توقعات ماكس فيبر، أن توظف الثقافة الكونفوشية نفسها في خدمة التنمية الرأسمالية السريعة. فالكونفوشية، كديانة مجتمعية، تقوم على مبدأين أساسيين: تقسيم العمل على أساس تراتبي، والطاعة الى حد التضحية بالذات. وقد أمكن للرأسمالية الكورية أن تضمن لنفسها على هذا النحو نمواً سريعاً عن طريق توظيف "تايلوري" مشتط ليد عاملة طيّعة وقانعة. ولكن الارتباط الصميمي بين التطور الرأسمالي والتقدم التكنولوجي في ظل العولمة خلق، على العكس، حاجة الى اطلاق مبادرة قوة العمل على نحو لا تسمح به الأطر الصلبة للثقافة الكونفوشية التقليدية. ولئن قامت التجلية الكورية على استنساخ التكنولوجيا الغربية، فإن استمراريتها بالإيقاع نفسه كانت تتطلب الانتقال من التقليد الى مستوى الإبداع التكنولوجي. وهذا ما كان يقتضي من الرأسمالية الكورية أن تعيد النظر في كل موروثها. وقد جاء انفجار الأزمة ابتداء من النصف الثاني من 1997 ليشير الى أن النموذج الكوري للتطور قد أدرك حدوده. وهذه الأزمة لن تكون قاضية إلا بقدر ما تعجز الرأسمالية الكورية عن أن تتخذ من الأزمة بالذات عتلة لتقدمها، صنيع ما فعلت الرأسمالية الغربية مع أزمة 1929، وهذا الوعي بإمكانية تحويل لجام الأزمة الى مهماز هو ما يبقي سيناريو المستقبل في كوريا مفتوحاً.