فعلها القمر امس حين غطى بقرصه جسم الشمس وكشف للعيان هالتها المثيرة في ابدع حالاتها. وفاجأ القمر الشمس وهي تقترب من ذروة دورة نشاطها التي تستغرق 11 سنة، فكشفت عن مكنوناتها في اوج تألقها تقذف بالزبد المغناطيسي من اعماقها. وتابع الهالة الساحرة ملايين الاشخاص على امتداد جدار الكسوف المظلم الذي اوقد النجوم فوق عشرات المدن الواقعة على طريقه في اوروبا وآسيا. ولم تستطع الغيوم حجب مشهد الكسوف عن نحو مليون سائح احتشدوا لاستقبال اولى خطواته على اليابسة في مقاطعة كورنوال. طائرات هيركليس التابعة لسلاح الجو البريطاني نقلت الى السياح ما يحدث فوقهم اولاً بأول. واندفع آلاف المراهقين الشباب والمسنين في "رقصة الكسوف"، فيما كانت شاشات تلفزيون عريضة تضعهم على اقرب نقطة منه يمكن الوصول اليها جواً. "هزّ اعطافك للكسوف وارفس بأقدامك للكسوف"، هذا ما تقوله كلمات الاغنية التي استوحاها مؤلفها البريطاني من حركات الحصان عندما يهم بانثاه الفرس… ومع النجوم اشعل الكسوف المخاوف والعواطف الهوجاء. وشهدت الحفلة الفلكية اسرافاً بلغ حد ان يدفع مسافرون على طائرتي "كونكورد" الفي دولار مقابل مشاهدة الكسوف من ارتفاع 60 الف قدم فوق الارض. واتاح تحليق الطائرتين مع اتجاه سير الكسوف بسرعة 1400 ميل في الساعة الرؤية وقتاً يعادل خمسة اضعاف ما توفر للمشاهدين فوق الارض. وتمتع المسافرون فترة 11 دقيقة بالمشهد الخلاب وتصويره، فيما هم يحتسون الشمبانيا و"يمزمزون" شرائح سمك السلمون. وفي بوخارست دفع الجمهور 200 دولار للاستماع الى مغني الاوبرا الايطالي بافاروتي يغني خلال الكسوف الذي استغرق في العاصمة الرومانية فترة اكثر من اي مكان آخر في العالم. وفي دول اوروبية عدة اشترى محبو الكلاب والقطط نظارات خاصة لهم خشية ان يدفع الفضول الحيوانات الى التطلع في قرص الشمس. لكن قنوات التلفزيون الفضائية قدمت تعويضاً مناسباً لبليوني انسان من سكان الارض حين اتاحت لهم للمرة الاولى في تاريخ علم الفلك متابعة الكسوف خلال سيره الذي استغرق اكثر من 3 ساعات. وفي ايطاليا نفدت كل بطاقات اليانصيب التي تحمل ارقام واحد و6 و71، بعدما نشرت الصحف ان هذه الارقام تمثل الشيفرة الفلكية القديمة للكسوف، فالرقم واحد يمثل الشمس والرقم 6 القمر و71 الارض. وأدى الهلع الذي اصاب كثيراً من الناس الى حوادث مؤسفة عدة. في كالي في كولومبيا قتل زوج زوجته خشية ان تحل نهاية العالم مع الكسوف، الذي لم يمر اصلاً في قارة اميركا اللاتينية. و"كسف" الكسوف، بالمعنى المصري للكلمة، اهم شخصية فلكية في بريطانيا. اذ ارتكب السير مارتن ريس، الفلكي الخاص بملكة بريطانيا، هفوة "فاضحة" حين كتب في صحيفة "ديلي تلغراف" مقالاً استهله بالقول ان اتجاه الكسوف سيكون من الشرق الى الغرب. هفوة "فتاكة" اضطر الى الاعتذار عنها بشرح علمي لاتجاه الكسوف الذي لم ينتبه احد الى غرابته لولا هفوة السير مارتن. فالمفروض ان يسير الكسوف مع حركة دوران الارض من الشرق الى الغرب، لكن الذي يحدث ان القمر يدور في الوقت نفسه دورته الشهرية المعتادة حول الشمس بسرعة تبلغ 3222 كيلومتراً في الساعة. وبسبب ذلك يمرق ظل القمر على الارض بالاتجاه المعاكس من الغرب الى الشرق بسرعة تبلغ ضعفي سرعة دوران الارض حول نفسها. مع ذلك لا تعادل عاصفة الهفوات والاهواء والتبذير التي ثارت في الحجم مثقال ذرة من بذخ الطبيعة على الكسوف. فهذه الظاهرة التي لا مثيل لها في المنظومة الشمسية استغرقت بليون سنة لتتحقق. ولا يمكن للكسوف ان يحدث لولا التناسب الفريد بين القمر والشمس التي تزيده 400 مرة في الحجم الا انها تبعد مسافة تعادل 400 مرة بعده عن الارض. لكن القمر يفقد خلال دورانه حول الارض الطاقة التي تذهب الى تحريك المد والجزر. ويذكر الدكتور بول ميردين في المركز الوطني للفضاء في بريطانيا ان هذا التبذير للطاقة ليس كثيراً، مع ذلك فهو يؤدي الى ابطاء حركة الارض، وبذلك يزداد طول النهار على حساب الليل. ويؤدي هذا ايضاً الى ابتعاد القمر مسافة بضعة سنتيمترات سنوياً عن الارض. وبعد 250 مليون سنة سيصبح حجم القمر اصغر من ان يغطي الارض بظله وينتهي الكسوف. هذه الظاهرة كانت وراء مغامرة عدد من علماء الفلك العرب والاجانب في الذهاب الى العراق لرصد الكسوف في المواقع التي تعرضت اول من امس لقصف الطائرات الاميركية والبريطانية. وعرضت القنوات الفضائية مشهد بزوغ كواكب المريخ والزهرة وعطارد في عز النهار فوق دير مار متى. ورصد العلماء حركة الكسوف من موقعهم في الدير الذي يعتقد انه من اقدم المواقع المسيحية في العالم. يقع الدير على قمة جبل مكعوب الذي يبعد مسافة 70 كلم عن مدينة الموصل. وتحدث علماء الفلك عن كسوف كلي حدث في المكان نفسه عام 136 قبل الميلاد. وشكل العثور على تفاصيل ذلك الكسوف المدوّنة باللغة المسمارية على الواح طينية نقلة في اكشتاف ظاهرة تباطؤ حركة الارض. وذكر عالم الفلك البريطاني ريتشارد ستيفنسون ان ذلك الكسوف اثار حيرة العلماء، اذ ان حساباتهم اشارت الى ان الكسوف كان ينبغي ان يمر بجزر مايوركا في اسبانيا، وليس بالعراق. لكن اعادة تركيب حادث الكسوف بواسطة الكومبيوتر حققت فتحاً علمياً حين كشفت ان دورة الارض تباطأت منذ ذلك الوقت وتغير اتجاه حركتها بما يعادل ثُمن دورة الارض.