من أين نبع الإيقاع، أساس الموسيقى؟ أمن ضربات القلب، أم من خطواتنا على الرمل، أم من أول لقاء لأكفنا، أم من وقع أقدامنا في البرد القارس كي ندفأ؟ "ستومب" تضع هذه الأسئلة أمامنا وفي الطبق نفسه ابتسامة وفكاهة وابتكار. منذ أيام في بيت الدين التقى الجمهور اللبناني والعربي المصطاف هذه الفرقة المذهلة التي تستعمل في "موسيقاها" كل شيء إلا الأدوات الموسيقية المعروفة. كل شيء يمكن أن يصدر أصواتاً إيقاعية مما نستعمله يومياً، مؤسلباً ليؤدي النغم المطلوب. لكن الأداة الأقوى والأبرز تبقى الجسم البشري، مصدر الإيقاع الأول. بدأتت التجربة في برايتون في المملكة المتحدة عام 1991 وفي السنوات الثلاث اللاحقة تطورت بسرعة، فعبرت المحيط الأطلسي الى أميركا حيث تخضرمت وتغذت من تجارب مماثلة حتى أدركت شعبية عالمية أوصلت أصداءها الصادحة الى استراليا وأوروبا والشرق الأقصى والأميركتين، فضربت أرقاماً قياسية على شبابيك التذاكر ومغنطت مئات الألوف من كل الأعمار والمستويات الثقافية. تمزج "ستومب" بين الفنون الاستعراضية من دون تكلّف أو سفسطة قوامها مرونة الجسم وسرعة الحركة كما في الرقص والباليه، ثم التشكيل الكوريغرافي كما في المسرح، والموسيقى الإيقاعية من حيثما قيّض لها أن تستقيها، لكن خصوصاً من حركة الحياة اليومية: كناسة الشارع، غسل الصحون، مجاميع القمامة، اشارات المرور، العصيّ، الأنابيب... بل كل ما تلمسه أيدينا ويتحرك في استعمالاتنا اليومية، حتى البراميل والقدور وأغطيتها وأكياس النيلون. ولعلّ أهمية التجربة وبالتالي سحرها أن التجاوب معها يحصل في شكل مباشر، سريع، تلقائي، من دون حاجة الى تجاوز الحيّز الثقافي. الإيماء واضح والحركة ناطقة بفصاحة باهرة. خذ مثلاً ضربة المكنسة على سطح صلد تغشاه الرمال: إششش، تتردد تباعاً في تناسق تصاعدي، يشي بصوت الموج الناعم صباحاً، الى أن يتلبس ضجيجاً صاخباً كأنه قرقعة محطة قطارات. طغى عنصر الشباب على الحضور. وكان ذلك سوء تقدير للمتعة الشفافة التي حملتها الينا "ستومب". وهي صالحتنا، ولو لوهلة، مع ضوضاء الحياة اليومية وجعلتنا نفكّر بالإنسان وراء كل صوت مهما كان خادشاً أو تافهاً في الظاهر. هناك انسان وراء كل صوت. يدان وقدمان وأصابع وأنفاس، وأيضاً أكف صفقت بحرارة لستومب في بيت الدين. ونجاح هذه التجربة "العضوية" يطرح، في المنظور الثقافي، سؤالاً طالما ترجرج في كل مناسبة حين يكون لقاء بين ثقافات مختلفة او متباعدة: هل من لغة تجتاز الجسور الاثنية والحضارة وصولاً الى قلوب وأذهان الناس حيثما كانوا؟ ويهرع الجواب البدهي المعروف: انها الموسيقى! لكن اية موسيقى؟ رأينا الجمهور منقسماً حيال اعظم المقطوعات الكلاسيكية، وهذا يكره الاوبرا وذاك لا يطيق الجاز، واذ يتدفق عشرات الالوف لحضور حفلات "البوب" و"الفولك" يقلب العالمون بالشأن الموسيقي شفاههم امام ما يسمونه بالموجات الفقاعية الآيلة الى زوال. قليلاً جداً ما نرى اجماعاً ساحقاً حول نوع موسيقي واحد. ربما لأن الاسلبة النوعية التي تخضع لها الموسيقى في الطريق الى النضج المهني تفترض اذواقاً مختلفة وتطرق "اسواقاً" متنوعة لا يلتقي واحدها بالآخر اما الايقاع الخام المنبثق من حركة الحياة وايماءات الجسم والممارسات البدنية اليومية، فمهما اختلفت اصول البشر وتباعدت اذواقهم تبقى هي نفسها في كل مكان، وتبقى المفارقات المستمدة منها لغة كونية قلّما اختلفت عليها اثنان. من هنا سمر وسرّ نجاح ستومب، عندنا وحول العالم على السواء.