جال الرئيس التركي سليمان ديميريل في الأسبوعين الماضيين في كل من الأردن وإسرائيل ومصر. الهدف المعلن للجولة كان توثيق التعاون وتوطيد العلاقات السياسية مع هذه الدول، ولكن نسب إلى مصادر في أنقرة قولها إن تحركات ديميريل في الشرق الأوسط تستهدف السعي لدور في عملية السلام في المنطقة. في الحقيقة أن دور تركيا في المنطقة، بما في ذلك "سلامها"، أكبر من ذلك، بل نكاد نقول إنها لاعب رئيسي غير معلن في شؤون الشرق الأوسط منذ التوقيع على اتفاقي السلام بين كل من منظمة التحرير الفلسطينية والأردن مع إسرائيل 1993 و1995 على التوالي. فبعد نزع فتيل التوتر مع دمشق بسبب الزعيم الكردي عبدالله أوجلان وميليشياته في لبنان وسورية سابقاً، الذي لعبت فيه القاهرة دوراً بارزاً، استطاعت تركيا تجاوز المعوقات التي كانت تعترض سبل تحسين وتعزيز علاقاتها العربية، إذ لم يعد هناك من يناوئها العداء بين العرب، فها هو العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين يتمنى أن تكون علاقات بلاده مع تركيا "نموذجاً لما يجب ان تكون عليه العلاقات العربية - التركية". وقال العاهل الأردني أثناء استقباله ديميريل قبل أسبوعين في العاصمة الأردنية إن التغيرات التي تشهدها المنطقة "تملي على الأردن أن يتخذ علاقاته مع تركيا بعداً استراتيجياً". أما على صعيد العلاقات المصرية - التركية، فإن الرئيس التركي وقع أثناء زيارته الأخيرة إلى القاهرة ثمانية اتفاقات وبروتوكولات، أهمها إقامة منطقة تجارة حرة بين البلدين والتوقيع على بروتوكول استيراد حوالى عشرة بلايين متر مكعب من الغاز الطبيعي المصري سنوياً، إضافة إلى 8 بلايين متر مكعب تستوردها تركيا حالياً من روسيا وخمسة بلايين من الغاز المسيّل من الجزائر. زيارة ديميريل إلى إسرائيل كانت مناسبة للتعرف على رئيس وزرائها الجديد ايهود باراك وتجديد الثقة وتعزيز العلاقات الوثيقة بين الدولتين، لا سيما في مجال التعاون التقني والحربي الذي أثار انتقادات حادة في العالم العربي قبل تسوية النزاع مع سورية. والعلاقات التركية - الإسرائيلية قديمة، خصوصاً في مجال التعاون العسكري والتدريب، إذ ان البلدين من أقرب حلفاء الولاياتالمتحدة. فعدا عن علاقات إسرائيل التاريخية والوثيقة مع الولاياتالمتحدة، فإن هناك ثمة روابط متينة تجمع أنقرة وواشنطن جراء الدور التاريخي والبارز الذي تلعبه تركيا في إطار منظمة معاهدة حلف شمال الأطلسي ناتو منذ نصف قرن على الأقل، وعندما يتحرك الرئيس التركي يحمل معه هذا الارث عاكساً بذلك شعور المؤسسة الحاكمة في تركيا - خصوصاً بعد الدور الرئيسي الذي لعبته إلى جانب الغرب المنتصر في حرب كوسوفو - بحقها في أن تلعب دوراً على مسرح الأحداث في العالم، ليس في الشرق الأوسط فحسب. ولا يوجد في تركيا حالياً سياسي أفضل من ديميريل لقيادة سياسة بلاده الخارجية، بل يكاد يكون السياسي الوحيد بين زعماء تركيا اللذين هم على قيد الحياة القادر على الجمع بين دعم الشارع التركي له، ورضى الجيش عنه، واحتكام الأحزاب التركية المتناحرة إليه. صحيح أن فكره لم يصل بعد إلى مستوى رؤى الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال الذي ورثه عام 1993، إلا أنه باجماع المهتمين بالشؤون التركية "أفضل" ما لدى تركيا من السياسيين. شعبيته تتسع وتتزايد، إذ بدأت بعض الصحف التركية تقترح على البرلمان تعديل الدستور لتمكين ديميريل من تمديد رئاسته التي تنتهي في شهر أيار مايو المقبل، لدورة سبعة أعوام أخرى. وعلى رغم الاعتقاد الراسخ بأن الديموقراطيات الغربية وبدرجة أقل الولاياتالمتحدة لن توافق على عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي قبل تحقيق تقدم في المسألة الكردية وقضية قبرص، فإن تأثير ديميريل الكبير في الشؤون الخارجية وقيادته سياسة بلاده الخارجية قد تساعدان أنقرة على إحداث اختراقات - ولو ضئيلة - في الجدار الأوروبي. الرئيس التركي في ظل التوازنات التركية المحلية زعيم محوري في بلاده. فهو يقف في وسط خط في أحد طرفيه جنرالات الجيش الذين يعتبرون أنفسهم حماة دستور الدولة العلمانية التي أسسها كمال أتاتورك والمحكمين في الخلافات الحزبية، وبين أحزاب قلقة تفتقر للقاعدة الشعبية الحاسمة والقيادات الكارزمية المسلط على رقابها سيف الانقلابات العسكرية التي بلغت ثلاثة منذ عام 1960، وكادت هذه تصبح أربعة عام 1997 لو لم ينجح ديميريل في إقناع أول حكومة إسلامية في تركيا المعاصرة بالتراجع والاستقالة أمام ضغط الجنرالات. وقد اكسب هذا الدور ديميريل احترام مؤسسة الجيش وقيادات الأحزاب والرأي العام في الداخل، وتقدير الديموقراطيات الغربية التي رأت في "الحل الوسط" الذي قدمه الرئيس التركي انقاذاً للتجربة الديموقراطية الهشة في تركيا. فانهيار هذه الديموقراطية، على رغم هشاشتها، كان سيغلق الباب لفترة طويلة من الزمن على فكرة انتماء تركيا إلى النادي الأوروبي. وديميريل في الوقت نفسه 74 عاماً صاحب تجربة في الحكم لا مثيل لها في بلاده. فبعد اكتشاف الجناح اليميني في حزب العدالة التركي مواهبه السياسية عندما كان موظفاً في دائرة الزراعة والموارد المائية، انطلق ديميريل مع مطلع الستينات إلى الحياة العامة وأصبح رئيساً للوزراء في عام 1965 وهو لم يزل بعد في التاسعة والثلاثين من العمر، مسجلاً بذلك كونه أصغر رئيس وزراء تركي سناً حتى الآن. وحقق ديميريل رقماً قياسياً آخر بتعيينه رئيساً للوزراء ست مرات منذ ذلك الحين. وتجربته مع جنرالات الجيش فريدة من نوعها أيضاً، فقد قام هؤلاء بانقلاب ضده عام 1980 وأقالوا وزارته ومنعوه من العمل السياسي مدة عشر سنوات، ولكنه سرعان ما عاد إلى الحياة السياسية وفاز في الانتخابات مرة أخرى بعد رفع الحظر عنه، وأصبح رئيس الوزراء في عهد الرئيس أوزال الذي ورثه ديميريل بعد وفاته. تعلم ديميريل كيف يتعامل مع العسكر بواقع التجربة، وقد ساعده في ذلك إيمانه بأن مستقبل تركيا السياسي ورخاءها الاقتصادي مضمون أكثر من خلال استمرار علاقتها وعضويتها في الناتو، على رغم دعمه المطالبين بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. والذي يزيد من أهمية ديميريل شرق أوسطياً هو أنه صاحب مشروع تطوير ثروة الموارد المائية في تركيا. فديميريل المهندس، كان رئيساً لدائرة الاشغال الهيدرولية الرسمية لسنوات عدة قبل دخوله مضمار العمل السياسي، حيث وضع الخطط الطموحة لاستغلال الثروة المائية من خلال تبنيه سياسة بناء السدود المثيرة للنزاعات مع كل من سورية والعراق. ويقول المقربون منه إنه لا يوجد شيء في الحياة يثير ديميريل "أكثر من مشهد السدود حسنة التشييد". وإذا أخذنا في الاعتبار أهمية تركيا الجيو - سياسية في المنطقة في ظل غياب العراق حتى أجل غير مسمى، واستمرار الجدل غامض النتائج في إيران بين تيار الاصلاحيين وتيار المحافظين، فإن التأثير التركي على مجريات الأمور في المنطقة مرشح للاتساع، خصوصاً في مرحلة ما بعد السلام. أنقرة تتطلع نحو حصة كبيرة من "كعكة" التنمية المتوقعة في هذه المرحلة، ودور أكبر في أمن المنطقة.