في أفلام "وودي آلان" الاخيرة مثل "افروديت القوية"، "الكل يقول احبك"، "ذكريات هاري" نجد نفساً لاهثاً لمخرج عجوز يسابق الزمن، فيلم كل سنة تقريباً، بصرف النظر عن التكرار، يعتمد "وودي" في أكثر افلامه شكل "الكوميديا" الاجتماعية، عائلات بورجوازية غنية، خيانات بين ازواج وزوجات، أفراد يعانون من مشاكل وجودية هزلية، يأخذون على أثرها في الحديث عن الجنس والسياسة والدين ومعنى الحياة والموت. تأتي الاحاديث كرطانة سجالية مثقلة بأسماء أدباء وفلاسفة وشعراء. ويبدو التكرار واضحاً، لأن "وودي آلان" هو القاسم المشترك في افلامه، فهو كاتب السيناريو والمخرج وراوي الاحداث من خارج الكادر في بعض الاحيان. اكثر الامور إزعاجاً، والتي تجعلنا نشعر بوطأة التكرار هي تمثيل "وودي آلان" ممثل نمطي، محدود القدرات، نفس نبرة الصوت وحركات اليدين وتعبيرات الوجه، تنتقل من فيلم إلى آخر، بل تتكرر عنده كثيراً مهنة الكاتب الروائي أو السينمائي التي في الغالب يقوم هو بتمثيلها. يقتصر "وودي" في معالجة مهنة الكاتب على كليشيهات معروفة تقليدية، كأن يكون الكاتب في مصعد، فتتعرف عليه امرأة جميلة، وتحدثه عن اعماله، أو يكون الكاتب مركز الاحداث بقلقه النفسي وجنونه وجاذبيته وثرثرته الفارغة واحكامه واعترافاته كما في فيلم "ذكريات هاري"، يلعب "وودي آلان" هذا الدور، دور كاتب روائي مشهور يكتب عن علاقاته الممزقة بين زوجته وعشيقاته والغريب أن جميع الشخصيات لا تنخدع في العمل الروائي، ويجد كل واحد شخصيته الحقيقية ويتعرف عليها في العمل الفني بسهولة، لا سيما النساء، كأن "وودي" في تصوره اللاشعوري للأدب ما هو إلا التسجيل الواقعي لشخصيات عرفها مع بعض التحريفات الساذجة. ثم تأتي الشخصيات لتحاسب "هاري" على الفروق بين الحقيقة والخيال، تبدو مهنة الكتابة عند "وودي آلان" مهنة استثنائية خارقة ومفارقة للمهن الاخرى. هذه النظرة الرومانسية هي بالتحديد نظرة شعبية لمهنة الكاتب. ورغم أن "وودي آلان" يتحدث عن افراد مترفين على المستوى الذهني، إلا أن الترف الذهني مفتقد وضائع في ضباب الصورة النهائية لمهنة الكاتب، بالطبع القالب الكوميدي ينقذ "وودي آلان" من الحكم عليه بالسطحية والخفة والمراهقة. لكن ماذا لو كان شكل "الكوميديا" كله كجنس فني، هو شكل السطحية والخفة والمراهقة؟ خص "أرسطو" منذ أكثر من ألفي سنة في كتابه "فن الشعر"، "الكوميديا" بصفحات قليلة هزلية، قياساً إلى شقيقتها الفتية "التراجيديا"، وكان "أرسطو" بتلك الصفحات القليلة يؤسس لعنة "الكوميديا" إلى الأبد، باعتبارها فن العامة والسوقة وبقيت شوائب نظرة "ارسطو" الجمالية الى الآن، تسم صناعة "الكوميديا" وهزلها وخسة جنسها في مقابل رفعة "التراجيديا" وجديتها ونبل جنسها. نرى مخرجاً جاداً مثل "ستانلي كوبريك" يأخذ جانب "التراجيديا"، ومخرجاً هزلياً مثل "وودي آلان" يأخذ جانب "الكوميديا" الفنان الكوميدي يأخذ جانب الهزل عن عجز أن يكون تراجيديا، والفنان التراجيدي يأخذ جانب الجد ترفعاً وانفة عن "الكوميديا". عالج "ستانلي كوبرك" مهنة الكاتب في فيلم "شايننغ". مرة واحدة من "كوبريك" تساوي عشرات المرات من "وودي الان". "جاك نيكلسون" الكاتب في "شايننغ" عار من استعراضية مهنة الكتابة وكليشيهاتها التقليدية وضباب الرومانسية الشعبية، يقف وجهاً لوجه امام الفراغ والعجز والجنون، وببلاغة سينمائية نادرة تكتشف "ويندى" زوجة "جاك"، جنون زوجها في مشهد صامت وهي تقلب مئات الصفحات التي عكف عليها "جاك" شهوراً، فلا تجد سوى هذه العبارة "العمل بدون لهو يجعل جاك ولداً كئيباً" إن عبقرية "كوبريك" جعلته يلمس أدق ما في جنون "جاك" وهو خلل مرهف وسط سيل جارف من تصرفات طبيعية، ليس تكرار عبارة "جاك" اللانهائي هو الذي جعل "ويندي" تكتشف جنون زوجها، بل أيضاً الترتيب الهندسي المرعب بأشكاله المختلفة لنفس العبارة على مدار مئات الصفحات. مرة واحدة من "كوبريك" تساوي عشرات المرات من "وودي آلان" ينجح "وودي آلان" فقط مع "الكوميديا" عندما يقوم بحقنها بعنصر بوليسي يقيم اودها، ويمسك جسمها الخرع المائع، كما في فيلمي "منهاتن" و"ظلال وضباب". العنصر البوليسي، أي جريمة القتل تبعد "وودي آلان" عن سخافات النرجسية وهواجس قشور التحليل النفسي والراوي المعلق من خارج الكادر السينمائي على احداث الفيلم إذ في الغالب يدمر الراوي المعلق بناء الفيلم، لفقدان "الميزانسين" بين الصوت الصورة، او بالتحديد للحرية المطلقة للصورة وتكيفها اللانهائي في عشوائيته مع صوت الراوي المعلق، اكثر كوميديات "وودي آلان" الاجتماعية يقوم بناؤها على هذا الراوي الذي يسهل بناء الفيلم الى حد كبير، لأنه ايضاً يلغي التتابع الزمني للصورة، فقبل أن يتم الراوي جملته، تستطيع الصورة التنقل في اماكن مختلفة دون رابط "الميزانسين" اللهم إذا كان رابط صوت الراوي. * سينمائي مصري.