} أصدر معهد بيت الحكمة - جامعة آل البيت في عمان طبعة جديدة من جريدة "العاصمة" التي صدرت في دمشق بين 1918 - 1920 باعتبارها جريدة الحكومة العربية الجديدة التي قامت بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى. وهنا عرض لأهم قضايا تلك المرحلة التي ما زالت راهنة حتى الآن. كان البلاغ الأول الذي أعلنه الأمير فيصل بعد وصوله الى دمشق في 5/10/1918 يمثل، على ايجازه، مفاصل الدولة العربية الجديدة التي كان يحلم بها الأمير والنخبة المثقفة العسكرية المدنية التي نذرت نفسها للقضية العربية. ومن المؤكد أن تكوين الأمير فيصل ومشاركته في الحياة البرلمانية - السياسية في العاصمة العثمانية، واتصالاته مع العاملين في القضية العربية ونشاطاته الديبلوماسية في أوروبا، صقلته وجعلته يتطور من سياسي يمتلك تصوراً ما عن دولة لم تؤسس بعد الى رأس دولة قائمة بالفعل. ومع أن هذه الدولة التي وجد على رأسها لم تكن كما أرادها تماماً، نتيجة للظروف الداخلية والخارجية التي أحاطت بها، إلا أنه يمكن القول إنها كانت متقدمة على وقتها... وربما لأنها كانت كذلك فقد تعثرت وسقطت. ويمكن رؤية ذلك من خلال القضايا المستجدة التي طرحت خلال تلك الفترة - المرحلة والتي تبدو الآن أنها لا تزال راهنة في الذكرى الثمانين لتأسيس هذه الدولة. حدود الدولة خلال زيارة الأمير فيصل المهمة لدمشق في آذار - أيار مارس - مايو 1915، والتي اتصل خلالها بالجمعيات والشخصيات العروبية وانضم فيها الى جمعية العربية الفتاة، سلمته الجمعية "المصور الذي يعين حدود البلاد العربية في آسيا، وهي التي يجب أن يدور السعي على أساسها لنيل الاستقلال" لإرساله الى والده الشريف حسين. ولا شك في أن مطالب الشريف حسين في مراسلاته مع المندوب السامي البريطاني في مصر سير هنري مكماهون كانت تستند الى مثل هذا التصور لحدود الدولة العربية الجديدة رسالة 14 تموز/ يوليو 1915. فقد كانت هذه الحدود تمتد شمالاً على خط مرسين - اضنة الموازي لخط 37 حتى حدود فارس، وشرقاً على طول حدود فارس حتى خليج البصرة وجنوباً المحيط الهندي باستثناء عدن وغرباً البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط حتى مرسين، أي انها كانت تشمل شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام. ولكن مع اصرار مكماهون على التوفيق بين هذه الحدود المطلوبة وبين التزامات بريطانيا مع الأطراف الأخرى، وافق الشريف حسين على التخلي عن مرسين وأضنة ووضع العراق تحت الادارة البريطانية لفترة من الوقت رسالة 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1915 وتأجيل البحث حول "بيروت وسواحلها" مع فرنسا الى ما بعد الحرب رسالة 1 كانون الثاني/ يناير 1916. وعلى هذا الأساس أعلنت الثورة العربية في 10 حزيران يونيو 1916 ودخلت قوات الثورة دمشق في 1/10/1918. ولدى وصول الأمير فيصل الى دمشق في 3 تشرين الأول اكتوبر 1918، الذي تزامن مع وصول القائد العام الجنرال ألنبي، عرف الأول من الأخير الترتيب - التقسيم "المؤقت" للبلاد الى ثلاث مناطق الشرقية والساحلية والجنوبية الى أن يبت في مصيرها مؤتمر الصلح. ومع أن هذا الترتيب - التقسيم المؤقت كان عبارة عن تطبيق لاتفاقية سايكس - بيكو 1916 إلا أن "الدولة العربية" التي بقيت سلطتها طيلة 1918 - 1920 لا تتجاوز المنطقة الشرقية كانت حدودها على الورق تنكمش باستمرار لتقرب في حدودها على الأرض كما جاءت في اتفاقية فيصل - كلمنصو التي تم التوصل اليها في كانون الثاني 1920. ومع أن المؤتمر السوري رفض هذه الاتفاقية وأعلن في 7-8 آذار 1920 استقلال سورية بحدودها الطبيعية إلا أن ذلك لم يوسع حدود الدولة العربية القائمة بالفعل بل سرع في سقوطها وتفتيتها بعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920 الى دويلات عدة دولة دمشق، دولة حلب الخ. العروبة ارتبطت الدولة العربية المعلنة بمفهوم متقدم للعروبة منسجم مع الغرب وانتهت بوطنية سورية متصارعة مع الغرب. فقد تم التركيز في الدولة على "القاعدة المتبعة في أوروبا اليوم لتعيين الجنسية القومية في اعتبار اللغة ومسقط الرأس ليس إلا"، وعلى "كل من يتكلم بالعربية يشعر بمثل هذه العواطف" وعلى "أسبقية العروبة على الدين"، كما ورد في خطاب فيصل في حلب من أن أعمال الحكومة "تدل على أن لا أديان ولا مذاهب فنحن عرب قبل موسى ومحمد وعيسى". وفي الحقيقة كان هذا التوجه العروبي ينسجم في البداية مع الغرب، على المستوى الحضاري والسياسي. فقد كان هناك ارتياح باكتشاف "استعداد وقابلية الشرق لتمثل مدنية الغرب" وموقف الحلفاء "الذين ما زالوا يعطفون على الأمة العربية في كل موقف من المواقف الحرجة". ولكن بعد التطورات على الأرض في ربيع وصيف 1919 زيارة لجنة كينغ - كراين و"برنامج دمشق" وتفاهم لويد جورج - كلمنصو في أيلول 1919 الخ، أخذت العروبة تنكمش لصالح الوطنية السورية التي تريد الدولة بحدودها السورية على الأقل، وتتصاعد معها مشاعر الاحباط والتصادم مع الغرب الذي يعرقل المشاريع العربية الوطنية. وهكذا استقال رئيس الحكومة في 22/11/1919 احتجاجاً على تفاهم لويد جورج - كلمنصو" الذي هو تطبيق معاهدة سايكس - بيكو المجحفة بحقوق البلاد والمنافية لمبدأ الحلفاء وتصريحاتهم الرسمية ووعودهم من حيث منح الشعوب المحررة حق حياتها واستقلالها وفقاً لرغائبها"، وعبّر المؤتمر السوري في بيان له حينئذ 22/11/1919 عن احباطه لأن حلفاء العرب قد نكثوا عهودهم مع العرب وبدأوا بتقسيم الشعوب وتهيئة أسباب استعمارها حسبما تقتضيه مصالحهم الاستعمارية. وقد بقيت هذه المشاعر تتصاعد في نهاية 1919 وربيع صيف 1920 حتى انتهت بصدام مسلح مع القوات الحليفة الفرنسية والانكليزية في أكثر من مكان. وبالاستناد الى هذا يمكن القول إن المشروع العروبي على الورق كان يستلهم الغرب وينسجم معه، ولكنه انتهى الى تعارض سياسي وصدام عسكري معه على الأرض. الديموقراطية في بلاغه المشهور في 5/10/1918 "إلى أهالي سورية" أعلن الأمير فيصل عن تشكيل "حكومة دستورية عربية شاملة لجميع البلاد السورية". وفي انتظار التئام مجلس تأسيسي ووضع قانون أساسي دستور للبلاد يحدد نوع نظام الحكم الجديد كانت الديموقراطية من التعابير الجديدة التي راجت في العهد الجديد. ولكن يلاحظ هنا أن الديموقراطية في البداية ارتبطت بمظاهر معينة وليس بمفاهيم سياسية محددة، حتى ان المأدبة التي أقامها الأمير زيد في حديقة الأمة في دمشق خلال نيسان ابريل 1919 وصافح فيها المدعوين واحداً واحداً اعتبرت "مشهداً من مشاهد الديموقراطية" وبعثاً لما كان عليه ملوك العرب من "البساطة والتساهل والامتزاج بأفراد الأمة وتفقد الشؤون بأنفسهم"، بينما "الديموقراطية العربية ستبدو بأجلى مظاهرها يوم يرون جلالة الملك يصافح أبناء الأمة العربية على سنة أجداده". وفي هذا الاطار كان يشار الى ما كان عليه الخليفة عمر بن الخطاب والى ان هذه "الروح الديموقراطية هي التي نشرت لواء مجد العرب في الاصقاع الدانية والقاصية". وهكذا تصبح الديموقراطية في الدولة العربية الجديدة انما هي من باب "هذه بضاعتنا ردت إلينا". ولكن هذا المفهوم المبسط للديموقراطية العربية سرعان ما اختلف بعد التئام المؤتمر السوري البرلمان وانشغاله بوضع قانون أساسي دستور للبلاد على نمط الدول الأوروبية المتقدمة. وهكذا أصبحت الديموقراطية ترتبط بمظهرين أساسيين كما "في الديموقراطية الغربية": 1- وجود "السلطة العامة بيد الشعب والتصرف فيها بواسطة نواب ينتخبهم لينوبوا عنه في وضع القوانين ومراقبة تنفيذها. 2- أن تكون قوانين البلاد وأنظمتها مبنية على قواعد الحرية والعدل والمساواة". وفي اشارة بليغة على هذا التحول في فهم الديموقراطية يؤكد محب الدين الخطيب في افتتاحية "العاصمة" ان "المبادئ الديموقراطية مبادئ جليلة عم القول بها كل الدول الراقية... وأخذ بها أكثر حكومات الأرض، وأما الباقي من الحكومات فإنه سائر في هذا الطريق". الدستور أعلن الأمير فيصل في بلاغه الأول في 5/10/1918 عن تشكيل "حكومة دستورية" في سورية، وساهمت التطورات اللاحقة في تسريع وضع أول دستور للبلاد. وفي الحقيقة لقد ارتبط ذلك بقرار مؤتمر الصلح بإرسال لجنة لتقصي الحقائق لجنة كنغ - كراين. الا أن الأمير فيصل حين افتتح هذا المؤتمر في 7 حزيران 1919 وسع من مهامه حين ذكر في كلمته الافتتاحية "ان مهمة المؤتمر تنحصر في تمثيل البلاد أمام اللجنة الأميركية، وفي سن القانون الأساسي ليكون دستور سورية المستقبل". وبعد اعلان الاستقلال في 8 اذار 1920 قدمت الوزارة بيانها الأول الى المؤتمر حيث تمنت فيه الاسراع في وضع القانون الأساسي وقانون انتخاب نواب الأمة. وقد ألف المؤتمر لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الاتاسي واستغرق عملها اسابيع عدة، درست خلالها دساتير الدول المختلفة، ووضعت مشروع الدستور على أساس النماذج الديموقراطية في الدول الأوروبية. وقد بدأ المؤتمر بمناقشة مواد الدستور والمصادقة عليها منذ مطلع تموز 1920، حيث صاق على المواد السبع الأولى حتى 14 تموز 1920 قبل أن تعلق جلساته بسبب اقتراب الخطر/ الجيش الفرنسي من دمشق. وتجدر الاشارة الى أن الأمير فيصل كان قد تمنى في كلمته الافتتاحية للمؤتمر السوري حين يضع الدستور ان "يحفظ حقوق الأقليات"، ولذلك نجد أن مشروع الدستور أعطى الأقليات امتياز ان ينتخبوا من النواب عدداً أكبر من نسبتهم لكي يضمنوا حضوراً أقوى في المجالس القادمة. ومن ناحية أخرى فقد أوضحت لجنة وضع الدستور في مضبطة الأسباب الموجبة لوضع القانون الأساسي الدوافع وراء وضع المادة الأولى المتعلقة بنوع نظام الحكم ملكي مدني نيابي، حيث ذكرت أنه "أريد بذلك أن تكون البلاد نيابية مدنية تتجلى فيها حاكمية الأمة وأن لا يترك للعوامل الدينية البحتة مجال في السياسة والأحكام العمومية مع احترام حرية الأديان والمذاهب في البلاد دون تفريق بين طائفة وأخرى". التعليم بعد وصوله الى دمشق واعلانه عن تشكيل "حكومة عربية" قام الأمير فيصل بجولة في البلاد فزار حماة في 9 تشرين الأول 1918 حيث استنهض "همة الأهالي بالعلم وافتتاح المدارس" في اطار ما كان يعتبره "المشروع الهام: مشروع العلم روح البلاد". وقد عاود التركيز على هذا الموضوع في خطبته المهمة في حلب 11 تشرين الأول 1918 التي كانت أقرب الى برنامج سياسي لمواجهة التحديات أمام الدولة العربية المعلنة. ففي هذه الخطبة رسم الأمير فيصل لوحة قاتمة ولكن واقعية عن الوضع: "لقد خرج الأتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل الصغير: لا حكومة ولا جند ولا معارف، والسواد الأعظم من الشعب لا يفقه معنى الوطنية والحرية ولا ما هو الاستقلال". وفي مثل هذا الوضع اعتبر فيصل أنه من المهم جداً للسكان العرب ان يلمسوا "قدر نعمة الاستقلال" ولذلك طالب بالسعي الى نشر لواء العلم لأن "الأمم لا تعيش الا بالعلم والنظام". ومن هنا ركز الأمير في نهاية هذه الخطبة على أمرين مهمين فقط: حفظ النظام، وترقية المعارف. ويبدو في هذا المجال، كما في بقية المجالات، استحضار التجربة الغربية في جريدة الحكومة. وهكذا تذكر "العاصمة" ما كانت عليه الشعوب الأوروبية في الماضي وما أصبحت عليه بعد انتشار العلم الذي يولد حب الوطن، ولذلك فإن الأمة العربية كغيرها يمكن لها مع انتشار العلم ان تنعم بالنهضة. وبعبارة أخرى فإن "العاصمة" تربط بوضوح ما بين الاستقلال - المستقبل وانشاء جيل جديد متمسك بالوطن بواسطة التعليم تربية جديدة وطنية لأن الاستقلال "لا يقوم بالمال والرجال بل ان أقوى دعامة له هي حب الوطن". وربما، مع كل هذا الاهتمام بالتعليم منذ الأيام الأولى، يمكن القول إن أهم نشاط/ اسهام للحكومة العربية انما كان في هذا المجال. فقد انشأت الحكومة "ديوان المعارف" منذ تشرين الثاني 1918 وقامت بانشاء المدارس المختلفة الثانوية والزراعية والعسكرية ودور المعلمين ونواة الجامعة السورية معهد الحقوق والمعهد الطبي مع الاهتمام بتعريب المناهج. إلا أن كل هذا الاهتمام لم يغيِّب حقيقة مهمة منذ الشهور الأولى للحكومة العربية. فقد أوضح فخري البارودي في مقالة له في "العاصمة" خلال آذار 1919 وهم الاتكال على الحكومة فقط في هذا المجال، لأن الحكومة مهما انشأت المدارس "لا تقدر ان تفي بحاجة الأمة، كن وارداتها لا تمكن من النفقة على المعارف بقدر المطلوب"، ولذلك "إذا اتكل الشعب على حكومته في كل الشؤون الخاصة والعامة نكون قد نلنا استقلالاً سياسياً وعشنا عيشاً اتكالياً". ومن ناحية أخرى، وبعد كل هذا الحماس للتعليم والتعريب، جاءت الذكرى الأولى لإعلان الحكومة العربية 1 تشرين الأول/ اكتوبر 1919 لتبرز أن البلاد بحاجة إلى نوع آخر من التعليم. فقد أوضحت المقالة الافتتاحية ل"العاصمة" ان المدارس الجديدة لا تخرج سوى موظفين، ولذلك ازدحمت أبواب دوائر الحكومة بطلاب الوظائف، وانها "قاصرة على شيئين: النظريات والمحفوظات" بينما "يجب أن تكون برامج المدارس مؤسسة على ضرورة التعليم العملي". الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي في زيارته الأولى لحلب، بعد عشرة أيام من اعلان الحكومة العربية في دمشق، اكتشف الأمير فيصل واعترف علانية بأن "السواد الأعظم من الشعب لا يفقه ما هو الاستقلال" وانه لا بد لهذا السواد الأعظم ان يلمس "قدر نعمة الاستقلال". ومع كل الاهتمام والحماس لنشر التعليم والتعريب خلال الشهور الأولى، التي جعلت الشعب "يتنعم" بالاستقلال، إلا أن الاتفاق على هذا التعليم طرح من جديد معنى ومغزى الاستقلال. وهكذا كشفت المقالة الافتتاحية ل"العاصمة" ان "الاستقلال لم يكن في أمة من الأمم غاية للنهوض وإنما هو من وسائله". وبعبارة أخرى فقد أوضحت "العاصمة" أهمية تطوير الزراعة والصناعة في البلاد لأن "الاستقلال السياسي ليس سوى وسيلة لغاية عظيمة الشأن هي الاستقلال الاقتصادي". ويذهب محب الدين الخطيب في توضيح هذه العلاقة الترابطية بين الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي إلى استعراض تجربة الأمم الأخرى الأوروبية التي "كانت تتمتع بحرية الاستقلال السياسي يثم ما لبثت ان ايقنت بأنه لا يغنيها من النجاح شيئاً إلا إذا أقامته على دعامتين، إحداهما مادية وهي الاستقلال الاقتصادي والثانية معنوية وهي الاخلاق الشخصية والاجتماعية والسياسية". ولذلك يرى الخطيب أن "التدرج في الاستقلال الاقتصادي شرط أساسي للاستفادة من الاستقلال السياسي"، ويحذر بحدس استشرافي من أنه "إذا لم يبادر افرادنا وجماعاتنا، عامتنا وخاصتنا، حكامنا وطبقات شعبنا، إلى ايجاد هذه النهضة الاقتصادية بقدر ما تحتمل طاقة الأمة، نكن متباطئين ومتهاونين في تقوية بنيان الاستقلال السياسي الذي ارهقت صفوة شبيبتنا دماءها لأجله على المشانق وفي الخنادق". * مدير معهد بيت الحكمة - جامعة آل البيت - الأردن.