مضى جمال عبدالناصر كما يمضي غيره. قراءته المنصفة لن نبتغيها من خصومه ولا من مريديه، وثورته لن يقدر على تقويم منجزاتها، ولن يحرر اخفاقاتها، ولن يرصد تحولاتها سوى الذين يقرأون التاريخ بعين الفاحص الناقد المحايد الذي يضع الحقيقة والحيدة نصب عينيه مجنبا اهواءه مزالق الاحكام المتعجلة، او التي لا ترى العالم الا بعقل احادي الرؤية. هنا قد تغيب مظلة القراءة الموضوعية، وتنتحي العقلانية جانبا، لتحتل المساحة الاوسع العاطفة القومية الجامحة، وربما أحكامها المتعجلة. لجمال عبدالناصر دوره وفعله وتاريخه وتأثيره، كما لغيره في طول التاريخ وعرضه من الرموز ادوارهم وتاريخهم، بكل ماتحتمل تلك الادوار من نجاح واخفاق ومن ارتقاء وانحدار. ومن العبث المزري ان يصطرع البعض استماتة في الدفاع عن شخصيات طواها التاريخ في ذمته، وكأنها هي التاريخ، بل نهاية التاريخ، بل كأنها هي الصياغة - الحل - لاخفاقات الحاضر وجنوح الحاضر وتواضع انجاز الحاضر. وهي لم تكن في الماضي سوى مرحلة انتجت ظروف ولادتها عوامل زمانية - مكانية. ومن العبث ان يتصدى لهم البعض الآخر ايضاً في محاولة مستميتة للاجهاز على تلك الرموز باسم الحقيقة، ومن عجب ان تلك الحقيقة يغيب وجهها مع كل طالب لها متوسل بأن تمنحه شيئا من وهجها. وعندما تصبح تلك المرحلة - مرحلة الناصرية - هي الأكثر جدلا كما هي الأكثر توهجا في تاريخ العرب الحديث. ندرك اي معنى ينساق خلفه البعض عندما يريد ان يظل هذا الجدل غير المنتج هو الفعل الظاهر على سطح الاحداث الثقافية، بينما الأولى بحث المأزق الحضاري الذي اوصلتنا اليه بعض الطروحات القومية بابعادها التاريخية والسياسية وغيرها، بانساقها التي تمثلتها النظم العربية التي حكمت ومازالت تحكم في بعض البلدان العربية. الطهورية الثورية ما عادت محتملة في خطاب ثقافي عام يريد ان يؤسس لوعي قومي حديث يتجاوز اشكال الماضي وخطاب الماضي وتحالفات الماضي، فالشارع السياسي العربي الذي انتابته التحولات الكبرى خلال العقدين الماضيين، لم يجعل من الهم القومي سوى احد الابعاد التي ينشغل بها، وهي ابعاد ظلت نخبوية الطابع - من حيث الممارسة والتبشير - وتوارت مفرداتها في خطاب اجيال عربية ربما وجد بعضها في التيار الاسلامي العريض الملامح والتكوينات حلمه المنشود - الذي عانى هو الاخر تشويهات الحاضر - بينما ظل التيار العريض يسبح بلا هوية بانتظار حلم قادم ينتشله من مأزق الحيرة والضياع والعوز. وعندما تأتي رياح التبشير بالحل القديم، متلبسة اسطورة المخلص، تلك الاسطورة الضاربة الجذور في الفكر الشعبي، نعود لنكتشف انها ربما كانت ضاربة الجذور ايضا في الفكر القومي، بل انها عندما تكون من اهتمامات مؤسسة فكرية قومية عربية مستقلة - ك"مركز دراسات الوحدة العربية" - فان من المناسب التوقف لتأمل تلك الحالة الفكرية التي ربما تذهب لتؤسس ابعاداً جديدة في الممارسة الفكرية والعمل الثقافي العربي. فقد انشأ مركز دراسات الوحدة العربية، وهو مركز فكري مستقل نذر نفسه للبحث العلمي حول مختلف نواحي المجتمع العربي والوحدة العربية، بعيداً من كل نشاط سياسي أو ارتباط حكومي أو انتماء حزبي، انشأ جائزة باسم "جائزة جمال عبدالناصر" تمنح مرة كل عامين لشخصية عربية ذات اسهام مشهود في العمل القومي العربي، وقد منحت هذا العام لمحمد حسنين هيكل. عندما يتولى مركز فكري ثقافي عربي مستقل ك"مركز دراسات الوحدة العربية" جائزة كهذه فكأنما يؤسس لمرحلة جديدة في تاريخه، حيث يرسخ في الذهنية العامة انه يتحول من مركز دراسات فكرية عربية مستقل يحاول ان ينأى بنفسه عن العملية السياسية ليؤسس لخيار ثقافي استراتيجي عربي يتلمس تعميق شروط الوحدة العربية بابعادها الثقافية والاقتصادية والفكرية، الى مركز فكري عربي يبدو منحازا الى تجربة عبدالناصر السياسية والتنموية والثقافية، وهي تجربة بكل تحولاتها لا تعدو ان تكون تجربة لها ما لها وعليها ما عليها... وربما لم تكن في يوم من الايام النموذج الذي يجب ان ينحاز مركز دراسات الوحدة اليه ليقدم جائزة، نعلم علم اليقين انها لم تكن أكثر من لمحة وفاء لشخص عبدالناصر من قبل المتأثرين بتجربته والمعاصرين لفورة الناصرية بل والمندمجين عضويا في تلك التجربة. هذا الخيار يلزمه بعض الوقفات، لا من حيث انه تجاوز للعمل الفكري العروبي الابداعي فحسب، بل ولانه ربما يؤسس في الذهنية العامة حالة من الربط غير المشروع بين تجربة سياسية لها ظروفها وتحولاتها وبين نمط فكري دراسي بحثي ظل يعمل له المركز منذ انشائه ونحن احوج مانكون اليه. ليست المشكلة في ابتداع جائزة باسم عبدالناصر أو غيره، انما المضامين الحيوية لمثل هذا التحول تعني ان من الممكن ان يتصور المرء ان مراكز الدراسات الفكرية العربية المستقلة ربما تفقد تأثيرها في طرح رؤاها وافكارها وانتهاج سياستها المستقلة تجاه مشكلات العرب الفكرية والثقافية والتحولات القائمة في الساحة العربية، اذا هي ربطت نفسها بمثل تلك الادوار. ومن الممكن ان يَسِم هذا التبني تلك المراكز بالتابعية الفكرية او الايديولوجية. وهنا ليس من الغريب ان تفقد تلك المحاولات الجميلة والرائدة بعض بريقها الثقافي والفكري، اذا ما وجد انها تعود الى الوصاية الفكرية التي نبذتها في حينها وأخضعتها لمشرط النقد والتحليل... حتى ولو تبدّى ذلك من خلال رعاية ومنح جوائز. الفترة الناصرية فترة اضطراب وتفكك واجهاض للحلم الديموقراطي عند البعض، كما هي فترة انجاز وتحقيق للحلم القومي عند البعض الآخر. والخوض في غمار هذه التجربة وتحولاتها يفرز المزيد من الخصوم - لا للفكرة بل للانحياز الى خياراتها - يبدو المركز في غنى عن مواجهتها، بل وكان الاولى الاندماج أكثر في منظومة اهدافه الثقافية التي جاءت بوحي من نقد نفس الظواهر التي افرزتها تلك المراحل التي عاد ليحتفل برموزها، فلم يضر الفكرة القومية العربية شيء قدر الانحياز الى خيارات سياسية طرحتها الانظمة التي تعلقت بالفكرة وعاشت تستمد شرعيتها منها... ثم اوردت هذه الفكرة من مواطن الافتتان الى مزالق الكفر بها عندما تنكرت تلك لحقوق الانسان وراحت تقمع الانسان، مرة بحجة حماية الثورة، ومرة بحجة ان لا صوت يعلو على صوت المعركة، ومرة تحت ذرائع العمالة للاستعمار واذناب الاستعمار ومخلفات الاستعمار. ان المرحلة الناصرية لم تكن نموذجا متكاملا لحلم الانسان العربي - المصري وان كانت مكنت لهذا الانسان من بعض حقوقه وتجاوبت مع بعض حاجاته. ومن الخطورة ان تتحول الفكرة الحية المتجددة التي تستمد وهجها من الانحياز الى رابط العروبة وتأكيد حقوق الانسان العربي في تكريس خياراته القومية والانسانية، بما فيها اشاعة التعددية الفكرية والسياسية... ومحاولة الاقتراب من الآخر ضمن حقوق المواطنة الحقيقة، والبحث في وسائل التنمية والتجديد الحضاري... ان تتحول تلك العلامات الجميلة في تأكيد الخيار الحضاري المنشود الى الاقتراب أكثر من مرحلة تاريخية ليست قطعا هي الاجمل والاكمل في التجربة العربية... ليتبنى مركز مثل "مركز دراسات الوحدة العربية" جائزة - قد تعبر عن الوفاء لشخصية تاريخية عربية نالت من الشهرة في حياتها ما لم تنله شخصية عربية معاصرة، كما طُمِرت بستار كثيف من النسيان والتجاهل بعد وفاتها وفي عقر دارها - ربما كانت تلك لمسة وفاء من المركز، إلا ان مضمونها الفكري يصب في مصلحة تيار نخبوي ربما يتمنى اعادة العجلة للوراء، وربما تجسد ذلك بانحيازه الى خيار تلك الجائزة. لا شيء يحجب الفضاءات المفتوحة لمناقشة إشكال الانسان العربي كما يفعل الانحياز المسبق لتجربة لا تخضع الجميع للاعتراف بنقائها أو صلاحيتها أو حتى مستوى انجازها، وربما هذا ما ينطبق على أي تجربة انسانية أخرى... وربما يصنع ذلك البعد حاجزا في المشهد الثقافي العام يحول دون تحرير الخيارات الفكرية والقراءات النقدية من وصاية الحرس القديم، وهذا سيحول دون ضخ دماء جديدة في الجسد المنهك الذي بدا - في أكثر من مشهد - وكأنه ناد نخبوي يستقطب بعض الرموز القديمة التي ربما يجمعها من مرارة الرفض أكثر من وحدة الرؤى والاهداف. واذ جاءت تلك الجائزة على ذلك النحو الذي ربما أثر على النظرة العامة للمستوى الفكري للمركز باعتباره المؤسسة العربية المستقلة الفاعلة في الدراسات الوحدوية الفكرية العربية... الا ان منح تلك الجائزة لمحمد حسنين هيكل أيضاً ربما يثير العديد من الاسئلة التي على المركز ان يجهد للاجابة عنها، فهيكل محسوب على التجربة الناصرية، وكسب الكثير من المجد الشخصي والاهمية المهنية باعتباره مرشد الجهاز الاعلامي الناصري وأمين سر عبدالناصر والأداة الاعلامية والسياسية الفاعلة والوثيقة الصلة بكل الادوار الجيدة والرديئة التي خاضتها التجربة الناصرية، فاذا كانت شخصية عبدالناصر وانجازاته تستحق من مريديه ان يبتدعوا جائزة باسمه، فربما كان من غير المناسب ان تذهب رؤى مانحي الجائزة الى أحد مسؤولي العهد الناصري ومن الذين كسبوا مجدهم الشخصي والمهني على وتائر العهد وتحولاته، وهي بحد ذاتها مهمة مارسها هيكل بكثير من البراغماتيه السياسية ولو على حساب الحقيقة احياناً. وعند ذلك نجد حجم الاذى الذي يمكن ان تخلفه فكرة كتلك التي تظل تؤكد على اهمية قراءة التاريخ قراءة منصفة، وإعمال المزيد من النشاط الذهني والعقلي لبحث الإشكال العربي يبرز أكثر ما يبرز في القمع والتغييب والحكم الشمولي والتسلطي، ليأتي مركز دراسات الوحدة العربية مانحا جائزة - تحمل مضامين تتصادم كما سلف مع الوسيلة التحريرية للمضامين الفكرية لمهام المركز الثقافية - لأحد رموز العهد القديم. وتأمل ما يمكن ان يحدث من تخريب للذهنية العامة التي تتطلع الى بعد تنويري يجسد اشكالات المرحلة ويحمل المسؤولية لكل الاطراف المعنيين بها، لا ان يصك صك البراءة والغفران عن تجاوزاتها، بل ان يمنح احد رموزها جائزته؟ ما من اعتراض على محمد حسنين هيكل كمفكر سياسي وصحافي عربي متميز له ما له وعليه ما عليه، انما الاعتراض على غلبة الفكرة الطهورية التي جسدت في رأي البعض ان ذلك الانحياز هو انحياز الى تلك المرحلة تعبيرا عن خيارها الحضاري... بينما الخطاب الكبير في المشروع الثقافي العربي ظل يتناول بالبحث والدراسة والتأمل المسألة الثقافية والفكرية وإعادة قراءة خياراتها الحضارية برمتها... دون اضفاء اي نوع من القداسة على اي تجربة انسانية كائنة ما كانت. وكان الأولى التورّع عن ذلك الخيار الى خيار اوسع يجسد مهمة هذا المركز وغيره الى مخاطبة الشرائح العربية الاوسع لإشراكها في العملية الفكرية في سبيل تأسيس وعي عربي اشمل يُخضِع كل التجارب للقراءة النقدية، ويسعى جاهدا لابتداع طرق ووسائل تنمّي الحس الحضاري في البحث عن حلول أكثر ملاءمة لمجتمع عربي ما عاد من الممكن ان يتنازل عن خياره الحضاري المتجسد في ثقافته الاسلامية العربية كما لا يمكنه الرجوع الى تجارب غيبت هذا البعد ولم تضعه في حسبانها بل وربما مارست اضطهادا للانسان... لا يمكن لاحد ان ينكر وجوده او ان يحجب بأي ذريعة حصوله. وربما كان من الاجدى للمركز تطوير فكرة منح جوائز عديدة - باسمه - لدعم البحوث والدراسات في مجالات اهتمام المركز، وهذا بدوره سيعزز التصاقاً أكبر بنشاط المركز من قِبَل تيار أعرض من المستفدين والباحثين... كما انه سيشيع روحاً جديدة بين عناصر الشباب التي ربما احتاج اليها المركز لدعم نشاطاته اكثر من اي وقت مضى. * كاتب سعودي.