بعد قيام الوحدة في 22 شباط فبراير 1958 بين مصر وسورية، طرحت قيادة "حركة القوميين العرب" على نفسها السؤال الحرج التالي: ما الذي تبقى أمام الحركة بعد ان تبلورت قيادة جمال عبدالناصر كزعامة عربية قومية؟ ان نقاشات حقبة ما بعد الوحدة بقليل، ثم بعد سنوات من اخفاقها، تفصح عن مستوى من الارتباك حيال النتائج والتي اسفرت عنها تلك اللحظة من العثور على المخرج من "ظلام المدفن الجماعي"، الذي آل اليه "المجتمع المؤمن" ونظامه التضحوي الصارم والحديدي. فإذا كانت الحركة قد اكتشفت نفسها مع ظهور عبدالناصر في المسرح السياسي، وتبنيها العلني والصريح لخطابه وسياساته وحتى معاركه المحلية والاقليمية، فإن البقاء على مسافة متأرجحة بين الاندماج والاستقلال عن مشروعه، لم يعد أمراً مبرراً ومقبولاً، خصوصاً مع حدوث تبدل كلي في صورة المجتمع المؤمن الذي جهدت في تأسيسه، اذ لم يعد عصبة مختارة ومنتقاة من خيرة الشبان المضحين، بل غدا حيزاً سياسياً شديد الاتساع يجد فيه كل معجب بعبدالناصر، نفسه وقد عُدّ قومياً وحركياً ربما. المواجهة العنيفة وبقدر ما لاح ظل الزعيم بوصفه "المخرج" الرمزي من الأزمة، فإنه لاح كذلك بوصفه شكلاً جديداً من أشكال تجليها داخل المجتمع العقائدي. وهذا ما يفسر الكثير من أسباب الارتباك في الإجابة عن السؤال الآنف، والذي خرجت منه الحركة بتسوية جديدة، توفيقية الطابع، حفاظاً على تماسك العصبة المؤمنة المؤسسة. تلخصت هذه التسوية بتقديم جواب يقول بأن التجربة الناصرية تفتقد لوجود تنظيم سياسي خاص بها، باستثناء وجوده في مصر، أما على مستوى العالم العربي، فإن عبدالناصدر يفتقر الى حزبه الخاص به، ولذا فمن الضروري الاستمرار في الحفاظ على استقلالية الحركة تنظيمياً عن عبدالناصر، ولكن مع الاندراج كلياً - تقريباً - في استراتيجيته، وحتى تبني معاركه السياسية، أي عملياً الحفاظ على المسافة المزدوجة تعبيراً عن "اللغة المزدوجة": لغة ماضي الحركة و"كتائبها الفدائية" ولغة عبدالناصر. كان هاجس الحفاظ على المجتمع العقائدي الصغير، يعمل بقوة لا نظير لها باتجاه الإعلاء، حتى أقصى درجة ممكنة، قدسية، من شأن هذا المجتمع، وجعله في المرتبة ذاتها التي يحتلها المجتمع الحقيقي في مشروع عبدالناصر. بكلام ثانٍ، أصبح هاجس الحفاظ على المجتمع العقائدي، "التجريدي" أكثر أهمية من "المجتمع الواقعي" الذي يجري مشروع التغيير في قلبه آنئذٍ، وبفضل هذا الهاجس أمكن للحركة ان تبادر الى احباط كثرة من المحاولات الرامية الى حل تلك العقدة في السلوك الانتهازي للمجتمع العقائدي الصغير، الطامح الى العيش في بيئة الجماهير الناصرية متشبعاً من عطر اغرائها، وفي الآن ذاته، ان يحافظ على انغلاقه وانطوائيته على نفسه، حين يتعلق الأمر بعلاقته مع الزعيم السياسي لمشروع التغيير. لنعد الى الوراء قليلاً لتبيان نوع الإشكالية القائمة. في 10 نيسان ابريل 1957 تم حل حكومة سليمان النابلسي الوطنية في الأردن. كان ردّ فعل الحركة ببساطة: المواجهة العنيفة، اذ راحت تقوم بتنفيذ سلسلة من خطط التفجير بالقنابل. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني ذلك ببساطة ايضاً، ان الحركة، عشية الوحدة المصرية - السورية، التي وفرت لها أكبر فرصة للتوسع الجماهيري، بادرت الى استرداد ماضيها المسلح مع أول اشتباك سياسي، متخلية عن كل ما اكتسبته من مفردات وأفكار جديدة، ومن أداء سياسي لفكرتها البسيطة والعفوية حتى انها الآن تستعيد طفولتها وتتذكر على المستوى الرمزي، حالتها ككتائب فداء، بما يقتضيه ذلك من استرداد مماثل للخطاب القديم. لقد استعادت "حركة القوميين العرب" لغة الماضي، في اللحظة التي كان فيها عبدالناصر يستعد لنقل العرب من عصر التجزئة الى عصر الوحدة بأسلوب سلمي. في الواقع العملي لم يتكرس الطابع الناصري للحركة مع حقبة الوحدة المصرية - السورية، ولكن فريقاً من داخلها هو الذي راح يحث على اللحاق بالتجربة والاندراج في استراتيجيتها. كان ثمة من يحاكي هذا النداء الملح، ويحاول تجربة امكانية التماهي الانتهازي مع لغة عبدالناصر. وفي المآل الأخير، بدا ان لغة قديمة تعود للانتصار مع عصر الوحدة: لغة "السحق" و"القبض بزمام من حديد" و"خنق التحركات البورجوازية". لا بد ان هذه اللغة كانت تلائم روح كتائبيي الفداء العربي القدامى، الذين كانوا يشعرون بالحنين لماضيهم المسلح وقد رغبوا في استرداده، وها هم يحثون عبدالناصر الذي صنع الوحدة مع سورية سلمياً، على اللجوء الى "السحق" و"الخنق"، ويا للمفارقة، وكأنهم بذلك يعبرون عن حقيقة انشدادهم الى ماضيهم. وعندما صدر المرسوم 12 من آذار مارس 1958، أي بعد شهر واحد فقط من الوحدة، والذي قضى بحل كافة الاحزاب السياسية في سورية، طفقت الحركة عبر اللغة المنتصرة، تتحدث عنه باعتباره "خطة مهمة لبناء منظمة سياسية صالحة للدفاع عن الوحدة". الى الماضي، لا المستقبل في تلك الآونة نسيت الحركة انها من تحدث عن "هيئة التحرير" التي طرحها عبدالناصر كبديل عن الاحزاب المصرية، بلغة شكاكة، حذرة ومتحفظة. اذن: طرأ تغير مثير على تفكير الحركة، قطع عليها فرصة التطور والانتقال من حزب "لجماعة مؤمنة" منغلقة على المؤثرات الخارجية، كما أراد مرشدها الروحي علي ناصر الدين، وزعيمها جورج حبش، الى حزب سياسي منفتح على علاقات المجتمع الحقيقي وتياراته ولغته التي يفهمها، وهو تغير سيكون من شأنه في مرحلة تالية - كما سنرى - ان يعيد العلاقة مع عبدالناصر، ورمزياً مع الأب السياسي للحركة، الى لحظة من التوتر تنتسب الى الماضي وليس الى المستقبل، انها منذ الآن تكرس نفسها كمنظمة حديدية مهمتها حراسة تجربة جديدة بأدوات قديمة. وكما حدث لها من قبل، حين انفعلت بالحدث الهلعي الفلسطيني، فإنها تنفعل بالحدث الناصري دون ان تعطي لنفسها حق الإصغاء الى النداء الصادر عن رغبة مجتمعها المؤمن، بتأسيس وضعية مفارقة جوهرياً لا شكلياً. لم تكن هناك - في ضوء هذا الانفعال بتجربة عبدالناصر والانتشاء بها - أية بوادر فعلية لإنشاء خطاب مفارق، يبادر الى الدفاع عن المجتمع الحقيقي المحروم تواً، وعبر مرسوم آذار مارس، من حق امتلاك حياة سياسية حزبية في ظل دولة الوحدة، بل على العكس من هذا، كانت هناك رغبة أكيدة في تبرير سلوك "الأب" حيال مجتمعه، باستخدام اللغة الرمزية في فهم اشارات السياسة. إن زعامة عبدالناصر نفسه سوف تكون إغراء من نمط مغاير يفرض ايقاعه على "الابناء" الحركيين، بحيث يمكن اعادة انتاج صورته في المستقبل. هذا ما سيحدث تالياً، عندما تتحلل حركة القوميين العرب، الى عناصرها الأولية، وتنهض على انقاضها "كتائب فداء جديدة". وهذه المرة في صورة فصائل فلسطينية مسلحة، تستخدم المفردات عينها وربما الهوية نفسها، فكل فصيل سيطلق على نفسه اسم "الجبهة" ويقودها "الزعيم" نفسه، ولكن وقد تخفى وراء اسم "الأمين العام". هذه الفصائل ستتيح تركيبتها التنظيمية والسياسية، ان يلعب الفرد - داخل الجماعة الجديدة - التي انتقل اليها، وفي ضوء خبرته وقدرته على استعادة صورة الزعيم "الأب" وايقاع نفوذه وخطابه الانشائي الحماسي، دور الزعيم بكل ما يتطلبه ويستلزمه ذلك من تماهٍ مع الصورة المأخوذة مباشرة من "الذكرى القديمة" لعبدالناصر. سوف تقوم الفصائل الفلسطينية الخارجة عملياً من رحم حركة القوميين العرب، بانتاج زعامة فلسطينية، هي صورة طبق الأصل تقريباً عن ذكرى الأب. رمزياً ستجري عملية مموهة ببراعة لتمزيق صورة "الأب"، الزعيم القديم الذي قدّم نفسه رمزاً لخلاص الأمة، لكي تتوزعها "جماعات مؤمنة" منغلقة ومسلحة، فتغدو كل جماعة ممتلكة لعبدالناصر ها الجديد، ولكن ليس عبدالناصر الناصري، بل الماركسي، وشبه الماركسي، المتلعثم بالماركسية، وشبه البعثي او القومي. وبطبيعة الحال لعبدالناصر آخر يصعب نسبه لايديولوجيا بعينها. انه خليط من أفكار ومفهومات نظرية وسياسية مشبعة بخطاب انشائي، حماسي، يصعّد من فلسطين شعرياً حتى أقصى درجة ممكنة، بحيث لا تعود وعياً بل جملة مقدسة. ان "الجبهة" الديموقراطية لتحرير فلسطين، و"الجبهة" الشعبية لتحرير فلسطين و"الجبهة" الشعبية - القيادة العامة، و"جبهة" التحرير، و"جبهة" النضال الشعبي، و"الجبهة" العربية، أي اجمالاً، كل "الجبهات" الخارجة من رحم الحركة، لا تقوم باستنساخ الاسم ذاته، ولا صورة "الأب" ذاته، وانما شكل المجتمع المؤمن ايضاً، ذلك المجتمع الذي كانت تعيش في كنفه "طفولتها" المعذبة وهي تحلم بمغادرته، والفرار منه. وحين اكتشفت الطريق الى المخرج، سارعت تحث الخطى لتؤسس "مجتمعها الصغير" الجديد. كان عبدالناصر في تلك السنوات من اللقاء الحميم بين الحركة وأفكاره السياسية، مشروعاً لخلق أب يحاظ في حياته بكل التقديس اللازم، من أجل ان يكون قابلاً للالتهام من قبل الابناء، أي لافتراسه رمزياً، بحيث تحلّ روحه في نهاية المطاف في جسد الأمين العام للجماعة المؤمنة الجديدة. "عبدالناصر" هذا، الذي لاح خياله ذات يوم في طريق حركة القوميين العرب، ثم راحت أطيافه - قبل رحيله المحزن - تسهر عند مهد الجماعات الخارجة على سلطة الجماعة، أي الفصائل المسلحة الخارجة على "مجتمعها المؤمن" القديم، كان بامتياز، حلاً فعالاً استخدمته الحركة لمعالجة مأزقها وحسب. ومن هنا انعدمت كل فعالية حقيقية في جدل العلاقة معه، لأنها علاقة لم تُصمّم على أساس استلهام مشروعه كمشروع عروبي تاريخي، بل استهلامه كمشروع زعامة قابلة للمحاكاة في مجتمع عقائدي صغير، لا يني ينقسم على نفسه مع كل أزمة، لينتج في سياق حراكه السياسي، الصورة ذاتها للزعيم. إغراء الخروج من الأزمة ذلك هو عبدالناصر الوحدة المصرية - السورية، الذي ارتبطت به الحركة: انه اغراء الخروج من أزمة الجماعة عبر التوغل عميقاً في صفوف الجماهير، وهي بلا أدنى ريب جماهير عبدالناصر. ولئن بدا "اغراء" التوغل في قلب هذه الجماهير، اختراقها وجذبها الى المجتمع العقائدي، قابلاً للتصعيد الشعري والرومانسي في الخطاب الى الدرجة التي تصبح معها هذه الجماهير، كما لو كانت خالية الوفاض لا شغل لها سوى انتظار مخلّصها، يسوعها العروبي، القومي، الناصري، فإن الوسيلة المستخدمة لهذا الغرض لن تكون سوى وسيلة انتهازية مكشوفة. بكلام آخر: لم يكن ثمة تفكير راديكالي في مسألة التحالف مع عبدالناصر بقدر ما كان هناك موقف "ليبرالي" يريد التحلل او التخلص من الحركة بحجة الاندماج بالتجربة الناصرية. ثمة دلالة رمزية شديدة الأهمية تعرضها علينا وقائع هذه الفترة من التجاذب داخل الحركة، حول الموقف من التجربة الناصرية، إذ كان هناك تياران رئيسيان يتصارعان في الخفاء: تيار محسن ابراهيم وأنصاره، وتيار حبش - الهندي - الخطيب، ولطالما جرى التوصل الى تسويات توفيقية مع كل احتدام في الأزمة. بيد ان حدث الانفصال اخفاق الوحدة أصبح هو المحرك الجماهيري. وقد أخبرني محمود سلامة النقابي السوري البارز والشخصية الأدبية، ان عدد من أصبحوا في اطار فرع الحركة في سورية بعد الانفصال وليس اثناء الوحدة، في نقابة واحدة هي النسيج الخماسية السورية تجاوز الخمسة آلاف عامل، يمكن اعتبار 80 في المئة منهم من القوميين العرب. تلك هي الدلالة الرمزية المثيرة التي ابنجست امام الحركيين، فمع اخفاق الوحدة وقفت الحركة في مقدمة التيارات السياسية المقاومة للانفصال، وهذا ما أتاح لها ان تنعطف بسرعة مدهشة نحو اتجاه "شعبوي" سيكون من شأنه تغيير الطابع النخبوي لمجتمعها العقائدي بصورة غير متوقعة، ولتصبح بالتالي قوة سياسية كبيرة لا حزباً صغيراً منغلقاً. لم يعد ذلك "المجتمع المنغلق" يتسع لنخبة من أبناء الطبقات الميسورة والثرية ابناء الكزبري، القوتلي، او ابناء عائلات شامية عريقة مثل عائلة محاسن بل غدا منذ الآن يعج بأبناء عائلات مدقعة الفقر وبعمال وحرفيين وفلاحين. حدث ذلك كله في لحظة اخفاق الوحدة ولم يحدث في لحظة انتصارها. بيد ان المفارقة ما لبثت ان تبدت في شكل آخر، اذ أفضت نتائج الانفصال الى فتح باب السجال الفكري الصاخب حول خيارات الحركة الناصرية. ومسألة الاشتراكية العربية أو الطريق العربي الى الاشتراكية، كانت - بطبيعة الحال - موضة تلك الحقبة. وحين بدأت حركة القوميين العرب تتحدث بهذه اللغة اليسارية، كان جزء من جسمها القيادي النخبوي يهترئ ويتساقط خارجها معلناً رفضه الاستمرار في "مجتمع عقائدي" تبدلت عقيدته على حين غرة، وهذا الجزء من الجسم السياسي مثله أبناء العائلات الثرية، وهي اجمالاً من مثقفيها المرموقين الذين كانوا ذات يوم مثال التضحية والقدرة على نبذ إغراء الحياة الخاصة. مجتمع صغير ومغلق لماذا حدث الانعطاف في مرحلة فشل الوحدة؟ لا بد للجواب من ان يتجه الى الفكرة الاساسية التي انطلقت منها فرضية التحليل: ان أزمة المجتمع العقائدي لم تكن أزمة عابرة يمكن ان تنتهي بتسويات هنا وضغوطات هناك، وهي فوق ذلك لم تعد - مع ظهور الأب السياسي - مجرد "أزمة لغوية" تتعلق بنوع الخطاب الذي يوحد الأب والأبناء داخل المجتمع الصغير، بل أصبحت شديدة التعقيد والتراكب. بالدرجة الأولى كانت الأزمة ذات طابع بنيوي، ويمكن الإدعاء ان طبيعة تكوين هذا المجتمع هي التي تحكمت طوال الوقت في ابقائه مغلقاً وحذراً حيال المؤثرات الخارجية، وممتنعاً ايضاً عن الانفتاح والتحول، ذلك ان كل انفتاح أو توسع أو تحول في بنيته وعقيدته وخطابه، سوف يصيب الشروط المتحكمة به في الصميم، وسيعمل على جعل الصدام بين الجماعة المنغلقة والمؤثرات الخارجية صداماً مفتوحاً، وباختصار، بدا ان قدر حركة القوميين العرب كمجتمع تأسس في الأصل على شروط الانغلاق، ان تظل مجتمعاً صغيراً ومغلقاً، فهذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على مقومات جماعتها المنشودة. تالياً ستكتشف الحركة ان كل ما جرى من انقسامات وانشقاقات دمرتها في نهاية المطاف، انما انطلقت من تلك اللحظة المنسية في حياتها وتاريخها، لحظة انفتاحها المفاجئ والمباغت على المؤثرات الخارجية التي حذر منها المرشد الروحي علي ناصر الدين ذات يوم. ان تلاشي حركة القوميين العرب من الوجود، وتحولها الى فصائل وأحزاب، يصعب فهمه - كما نعلم - خارج الأسباب السياسية المباشرة، لكن هذه - كما دللت التجربة - شديدة الخداع وقابلة لأن يتلاعب بها المؤرخون كيفما شاؤوا وطبقاً لميولهم وأهوائهم ورغباتهم. وبينما يُرى الى هذه الأسباب بقدر ما من الحذر، ثمة أسباب اخرى تحجبها تقليدية تفكيرنا السياسي المعاصر، يمكن النظر اليها بأكبر قدر من الحرية، وهذا ما تتيحه القراءة السوسيولوجية للسياسة، بل والقراءة الميثولوجية - السياسية بما هي مستوى من القراءة الحرة. ما حدث للحركة من تلاشٍ عن المسرح السياسي، أو تحول يقطع معها وقد لا يعترف بها كماضٍ، يفرض على الباحث استخدام منهج مغاير. إن لحظة خروج الحركة من نخبويتها إنغلاقها الى باحة "الإغراء الجماهيري" تنطوي على معنى رمزي يتوجب فهمه والعمل على استيعابه، بوصفه المعنى الأكثر أهمية في تأسيس علاقة صحيحة بين الحزب والمجتمع، فعندما يحكم الحزب، محض حزب، على نفسه منذ البداية، بالانغلاق والانطواء على نفسه كجماعة سرية تعرض نفسها كبديل عن المجتمع، وربما تقوم بتفكيره، فإن عليه ان يدرك جيداً، ان كل محاولة منه للانفتاح على الخارج والغريب لن تعني سوى دمار شروط عزلته نهائياً وتلاشي امكانات ومقومات انغلاقه، التي تأسست اصلاً وفقاً لمنطقها، لتحل محلها مقومات اخرى قد تكون من بينها ويا للمفارقة مقومات التلاشي، ثم الانقلاب الى "احزاب" بدلاً من حزب موحّد، و"مجتمعات عقائدية" مجهرية بدلاً من "مجتمع صغير". ليس دون معنى ان حركة القوميين العرب التي عارضت الماركسية بقوة في مطلع شبابها، وقاومت تأثيراتها وجاذبيتها الثورية، وجدت نفسها تتمزق فكرياً وسياسياً ما ان باشرت بالانفتاح عليها و"مصالحتها". كانت الماركسية بما هي الخصم، الغريب، القادم من تأثيرات الخارج احد اهم أسباب التشظّي في حركة القوميين العرب. فما ان انفتحت عليها وطرحتها للنقاش كمشروع مصالحة مع "نظرية ثورية" يحتاج اليها "المجتمع الصغير" غير المسلح بالفكر، حتى كان هذا التلاقي يعصف بكيان الحركة. لقد كانت الماركسية، بامتياز، هي "الغريب" او الشيء الجديد بحسب تعبير حبش، وهو يعلّق على مواقف محسن ابراهيم في هذه الحقبة، معترضاً وقلقاً على مصير حركته. الانفتاح على "العدو" هو الذي يجلب شروط دمار كل "مجتمع مغلق". هذه هي الخلاصة التي يمكن ان يخرج بها قارئ تاريخ حركة القوميين العرب. دعوة في وجه الناصرية: بعد عامين فقط على اعلان الوحدة ثم اخفاقها وتحديداً في مطلع 1960 سيحدث تطور له مغزىً شديد الاهمية في سياق الفكرة الآنفة، وبالطبع على مستوى الاحتكاك ب "الشيء الجديد" الذي أثار حفيظة حبش شخصياً بيد انه الآن يرحب به ويدعمه نعني صدور العدد الاول من مجلة "الحرية" التي رأس تحريرها محسن ابراهيم، وذلك في 4 كانون الثاني يناير من نفس العام. سيتضح منذ الان، وبعد سلسلة تحضيرات طويلة، ان "الشيء الجديد" لم يكن سوى كناية عن "الافكار الجديدة" القادمة مع رياح الخارج، والتي راحت الحركة تصيغ السمع لها اثناء خروجها من عزلتها. "تبنّت "الحرية" منذ اعدادها الاولى مسألة الكفاح الفكري، ودعت الى خوضه، منبّهة الحركة وانصارها الى ضرورة الانغماس في الجدل السياسي الفكري والثقافي. ويُفهم من هذه الدعوة الصريحة للانصراف العملي باتجاه تطوير فكر الحركة، ان تقدماً جزئياً وهاماً حدث على شكل ادارة التلاقي مع مؤثرات الخارج، بحيث يتسنى لاعضاء المجتمع المؤمن، ان يديروا صراعاتهم الداخلية بطريقة سلمية، وباستخدام "عنف الافكار" لا عنف السلاح، وهي صراعات انصبّت - بشهادة حبش - وفي القسم الاهم منها على مسألة التحالف مع عبدالناصر، والموقف من فروع الحركة في اليمن وفلسطين. وطوال السنوات التالية ستلعب "الحرية" دوراً رائداً على مستوى العالم العربي بالفعل، في فتح باب السجال الفكري بشجاعة نادرة، وهذا امر مشهود لها خلال سنوات 1960 - 1968. ومع ذلك فمن المناسب اعادة التأكيد هنا، على ان حبش ومعه هاني الهندي ثم محسن ابراهيم، سيكونون اعتباراً من هذا التاريخ، هم صنّاع الدعوة التي اطلقتها الحركة بوجه التجربة الناصرية: ضرورة ان تكون القرارات الاشتراكية في مصر ذات طابع سلمي، وفي اطار التحالف بين طبقات المجتمع المصري. في هذه الحقبة لعبت الافكار، "الشيء الجديد" الذي فاجأ الحركة، دورها كعامل مصادرة للعنف الداخلي المُضمر والكامن في قلب الجماعة العقائدية، وذلك تمهيداً لادراجه في اضيق نطاق ممكن حفاظاً على الطابع الاصلي الذي نشأت الحركة وفقاً، وهو كما علمنا، طابع يقوم على الطلاق مع "الماضي المسلح" وبالتالي السعي لامتلاك "السياسة" كبديل للعمل العنفي. على ان هذا العامل لم يكن فعّالاً بما فيه الكفاية، لان الحركة لم تكن قد تخلصت بعد من ترددها وحيرتها. والدليل على ذلك، دعوتها عبدالناصر الى جعل قراراته الاشتراكية ذات طابع سلمي، وفي الوقت ذاته، رفضها لمبدأ الانتقال السلمي الى الاشتراكية كإمكانية نظرية! يعني هذا ان الباب - في واقع الامر - ظل موارباً امام عودة ظافرة للماضي، للغة "السحق" القديمة، بحيث يمكن استردادها في الوقت الملائم. يكشف هذا التأرجح او التشوش حيال انشاء خطاب جديد "لغة سياسية" خاصة بالحركة، متماسكة، توطّد امكانات تحولها الفعلي نحو العمل السياسي والقطع مع "ماضيها المسلح"، عن نوع الجدل الدائر في صفوف الحركة اذذاك، مثلما يكشف عن دخولها في قلب الازمة من جديد. سيكون عليها ان تترقب وتنتظر انفجارها المحتوم من دون ان تكون لديها القدرة او الاستعداد لمنعه. ولعل البحث عن جذور هذا التموضع المأسوي للجماعة الحالمة، وكل جماعة حالمة، متأهبة "لجذب الجماهير لجنّتها العقائدية"، سيكشف عن الوهم الاكبر في حياتها كما كشفه في حياة حركة القوميين العرب من قبل: ان تحافظ على "جماعيتها" وعقائديتها المتصلبة، وفي الآن ذاته الانتفاح على مؤثرات الخارج. لقد كان هذا امراً مستحيلاً الى النهاية، فعلى "المجتمع المؤمن" ان يختار بين الشكل القديم الذي تأسس وفقاً لشروطه وانطلق منه، وهذا يعني بالضرورة ان يظل مجتمعاً مغلقاً، وبين الانفتاح على الخارج حيث الافكار الجديدة والجماهير، وهذا يتطلب بالضرورة كذلك نسف البنى والشروط التي قام عليها. ولذا كان موت "حركة الناصريين العرب" امراً محتوماً، وجد فيه افراد "المجتمع المؤمن" فرصتهم في امتلاك الحل. الساخطون على الحركة لانها لم تتقبل "الماركسية" قبولاً كاملاً بعد مصالحتها او الانفتاح عليها، والرافضون اصلاً لهذا الانفتاح، كانوا على حد سواء، يشرعون فور موت الحركة في استرداد الماضي ولغته، ويؤسسون "لمجتمعات صغيرة" جديدة في سياق استعادة رمزية الصورة الاولى التي كانت عليها "حركة القوميين العرب" في طفولتها، اي صورة المجتمع العقائدي المسلح والمتأهب دوماً لصد تأثيرات كل خارج، كل شيء جديد وغريب" عن عقيدة هذا المجتمع. بهذا المعنى فإن ظاهرة الفصائل الفلسطينية - مع الاحتفاظ باحترام مكانتها عند الجمهور العربي والفلسطيني، وتقدير نضالها وتضحياتها تقديراً عالياً - هي تعبير عن ذلك الاسترداد الرمزي لصورة "المجتمع المؤمن" القديم، ولكن هذه المرة في هيئته الجديدة: "مجتمعات صغيرة" لا "مجتمع صغير" واحد و"عقائد" بدلاً من "عقيدة واحدة".