زيارة تركيا هذه الأيام أمر محبط سياسياً. ذلك ان مشاعر التطرف القومي تسيطر على الأجواء، خالقة هوساً ب"المؤامرات" التي يحيكها الاعداء في كل مكان. ويشير الكثيرون الى خريطة "سيفر" السيئة الصيت، التي جسدت خطط الغرب لتقسيم الأناضول بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وكأنها لا تزال مخططا عمليا ممكنا للتدخل الأجنبي. تركيا تبدو اليوم وكأنها شخص مشاكس في حي، لا هم له الا الشجار مع الجيران. ان سيطرة أجواء كهذه هي التعليل الوحيد لنتيجة الانتخابات الأخيرة، حيث حصل حزب "الحركة القومية" المتطرف على 18.5 في المئة من الأصوات، واصبح من الاعمدة الرئيسية للتحالف الحاكم الذي شكله أواخر أيار مايو الماضي رئيس الوزراء بولند اجاويد. وكان هذا الحزب يعرف سابقا باسم "حزب العمل القومي"، ذلك التنظيم الفاشي الذي قتل الكثيرين من أنصار اجاويد في الصراع السياسي المرير الذي اندلع أواخر السبعينات. وعلى رغم ان الحزب يحاول تحت اسمه الجديد ان يقدم صورة أنظف وأكثر سلمية مما كان في السابق فمن الصعب الاقتناع بأن اعضاءه في البرلمان، وهم في حالات كثيرة من الارهابيين السابقين، غيّروا مواقفهم فعلا. منظر شبيبة هذا الحزب - الحركة تنظيم "الذئاب الرمادية" السيء الصيت وهم يقودون سياراتهم المزدانة بالاعلام التركية في انحاء اسطنبول يثير لمراقب اجنبي مثلي ذكريات اليمة عن محاولات الحركة قبل عشرين سنة فرض سيطرتها على المدينة. لكن يبدو ان الكثيرين من الاتراك العلمانيين الذين يخشون صعود حزب الفضيلة الاسلامي الى السلطة استطاعوا اقناع انفسهم بأن ناشطي الحركة القومية يمثلون أسوأ الشرين. على رغم ذلك لا يمكن طمس الذكريات في شكل نهائي. وكانت السيدة راهسان اجاويد، نائبة رئيس الحزب الذي يقوده زوجها، اثارت ضجة كبيرة عندما طرحت الأسئلة المتوقعة، مثل "كيف يمكننا ان ننسى؟" ثم سلّطت الضوء على العلاقات الوثيقة بين "الذئاب الرمادية" والجريمة المنظمة. لا نعرف بالطبع ما اذا كانت السيدة اجاويد تعبر وقتها عن احتجاج فعلي، ام ان تصريحاتها جاءت ضمن مخططات زوجها لتشكيل التحالف. لكن المؤكد ان التصريحات اثارت مشكلة سمحت لحزب الوطن الأم، الطرف الثالث في التحالف، القيام بدور الوسيط بين اجاويد وزعيم الحركة القومية باهجيلي. وأدى هذا الى حصول حزب الوطن الأم على حقائب حكومية اكثر مما يبرره حجمه في البرلمان. وتمكن اجاويد، بفضل توسع دور الوطن الأم في التحالف الحاكم، من ابعاد الحركة القومية عن غالبية الحقائب الأساسية التي تتعلق بالشؤون الخارجية او التعليم، وهي التي كان يمكن للحركة ان تسبب فيها الأضرار الأكبر لتركيا. على رغم ذلك فقد حصل القوميون على حقائب الأشغال العامة والاسكان والزراعة والصحة والعمل، وهو ما يسمح لهم بملء الوظائف بالناشطين والمؤيدين، كما فعلت اثناء المشاركة في الحكم في السبعينات، وايضا بتوجيه الأموال الى الحلفاء والمحاسيب. الجزء الآخر من المعادلة يتضح عندما نطرح السؤال: لماذا احرزت الحركة القومية هذا النجاح؟ التعليل الأفضل، كما يبدو، هو ايديولوجية الحركة ونشاطها على مستوى الشارع. ذلك أن ايديولوجيتها تتكون من مزيج من القومية والدين، وهو ما سمح للكثيرين من ناخبي حزب الفضيلة بالتصويت لصالحها، خصوصا وهي تعلن تأييدها لرفع الحظر على الحجاب في الجامعات. كما أن موقفها المتشدد من الانتفاضة الكردية المسلحة وحرصها على المشاركة في مآتم الجنود الذين يقتلون في الشرق، وتعبيرها عن رأي تلك القطاعات التي لا ترى في عبدالله أوجلان وانصاره سوى مجموعة من القتلة والمجرمين، يأتي لها بتأييد قطاعات شعبية مهمة. يعطي كل هذا للحركة تفاؤلا بالمزيد من التقدم مستقبلا. فهي بانضمامها الى العسكريين في معارضة اي حل سياسي للقضية الكردية تضمن استمرار القتال، ما يعني المزيد من الشهداء والمزيد من مشاعر التشدد القومي. هكذا فاذا كان من السهولة النظر الى نتيجة الانتخابات الأخيرة على انها تمثل فورة آنية في المشاعر القومية احدثها اعتقال اوجلان، فان مواصلة حزب العمال الكردستاني القتال يؤمن لها قاعدة ثابتة من الناخبين. ان انتعاش الحركة القومية، متمثلة بحزبها الحالي المشارك في السلطة، يمكنه من التغلغل في الجيش وسائر الاجهزة الأمنية والبيروقراطية، اضافة الى توسيع قواعدها الشعبية. وقد تنجح من خلال هذه التكتيكات في الاستيلاء على الدولة من الداخل، مثلما فعل هتلر في 1933. ومن هنا ليس من قبيل المبالغة ان نطلق على الحركة صفة "الفاشية"، بكل ما تثيره الكلمة من قلق ومخاوف. يرتبط كل هذا، بالطبع، بمصير اوجلان نفسه. فقد اصدرت المحكمة حكمها المتوقع عليه بالاعدام، ورفع محاموه القضية الى المحكمة العليا، التي ستحيلها لاحقاً الى البرلمان، فيما بدأ الأميركيون والأوروبيون في التدخل. وعلى رغم ان تعيين قاض مدني بدل القاضي العسكري في المحكمة التركية يقطع الطريق على استئناف ثان للقضية أمام المحكمة الأوروبية في ستراسبورغ، فان هذه المداولات ستستغرق وقتا طويلا، ربما امتد الى السنة المقبلة أو حتى أبعد. لكن المهم بالنسبة الى الوضع السياسي، فإن الرابح في كل الأحوال سيكون الحركة القومية. فاذا نفذت السلطات حكم الاعدام بحق اوجلان، سيحاول الناشطون الاكراد الانتقام له، بكل ما يثيره ذلك بالمقابل في الجانب التركي. أما اذا بقي في السجن، فان قضيته ستبقى مبررا للتحريض والتعبئة القوميين. الدول، مثل الأشخاص، قد تمر بمرحلة انكفاء ذاتي، تختفي فيه مقاييس الموضوعية والاتزان امام الشعور بأنها دوماً على حق وان "العالم الشرير" يتربص بها ويحيك ضدها المؤامرات. لكن لا بد لهذا ان يتغير، لأن شعب تركيا، مثل غيره، يشمل الكثيرين من العقلاء الذين سيرفضون الاستمرار في دفن الرؤوس في رمال القومية. أما على المدى القريب، فالصورة لا تدعو الى الكثير من التفاؤل. * مدير "مركز دراسات الشرق الأوسط" في جامعة هارفرد.