انهمرت الدموع من أعين مشاهدي عرض فيلم "نسيم الروح" رابع افلام المخرج السوري عبداللطيف عبدالحميد. وهذا الفيلم هو من احدث انتاجات المؤسسة العامة للسينما، والتي تعاني في سنواتها الاخيرة من ارتباك واضح في تفعيل قدرتها على الانتاج، وتشغيل مخرجيها وفنييها الذين سعت الدولة الى تأمينهم لها كبنية تحتية حقيقية للحصول على انتاج أوفر كماً ونوعاً. من هنا بدت دموع المشاهدين وكأنها تبكي سينماها المحلية، وطاقاتها المنتظرة فرصاً للتواصل مع جمهور يحبها ويحترمها... بل وينتظرها. على عادته لا يدخل عبداللطيف الى مسألته الساخنة عبر قصة كلاسيكية ذات خطاب مباشر، وانما يلجأ الى منطقة يستطيع من خلالها تأجيج المشاعر ليصبح المشاهد معنياً بطريقة ما... كي يتجاوز العبرة الخيرية، او الحديث بنبرة رمزية مباشرة تنقل الفيلم من مستواه الحياتي الى مستوى تنظيري، على الرغم من ان ما قدمه عبداللطيف عبدالحميد في فيلمه ينزع الى فانتازيا حلمية تغوص في الحياة كاشفة عن مستوى آخر لفعالية الفرد وعلاقته بالجماعة. ومن هنا فإن الصدى النقدي الذي أثاره الفيلم ذهب في اتجاه شجن قصة حب شفافة ومستحيلة، في امتدادها المتخيل، معبراً عن هذا العطش الشديد تجاه الحب بصورته الفردية الرومنطيقية كما في اجتماعيته المتكاملة. على حبل مشدود يصر عبداللطيف عبدالحميد كعادته على ان يمشي ونمشي وراءه على حبل مشدود منصوب بين عالمين، عالم البساطة المنفلت من عقال المصالح، وعالم العمق الانساني الذي يعطي للشخصية الانسانية القدرة على المواجهة الصريحة مع الذات ومع الآخر، معبراً بذلك عن اغتراب القيم النبيلة وسط ظرف حياتي هاصر، متجاوزاً بذلك حالة الفرد المفرد منتقلاً الى الفرد - الجماعة في علاقته مع الحب كفعالية شخصية. فسامر، الشاب الذي تيتم مبكراً، هو ابن المجتمع، وهو ما فتئ يعبر عن نبله عبر حالة الكرم على المستوى الشخصي والعلاقات الشخصية بحيث لا تهدأ فيه حركية العطاء، الا لكي ينتقل الى مستوى آخر جماعي، هو العزف على آلة القانون بحيث يشيع حالة من الفرح في المحيط عبر لغة الموسيقى، مظهراً العطاء كحاجة انسانية تعمق ذاك الحضور النبيل داخل الجماعة. لكن هذا يظهره بسيطاً على المستوى الفردي، الى درجة انه يتنازل عن حبيبته "لقريب لها أراد الزواج منها، وقرر الانتحار اذا لم يحصل عليها"، معتبراً انه يقدم له حياته كهدية من حب لا يعرفه هو على المستوى الاناني، وانما على مستوى تتفجر فيه طاقة الحياة، والحب بمعناه الواسع، ولكنه لا يتجاوز السؤال عن السبب الذي يؤدي الى هكذا حالات مطلاً على المجتمع في اكثر لحظاته تقليدية. رجل يفعّل الحب في هذا الفيلم يقترح عبداللطيف عالماً يذهب اصحابه الى أقصى الصدق الانساني بمعناه الفردي ولكن بامتدادات اجتماعية اجبارية، معتبراً ان المجتمع هو الحقل الذي يجب ان تفوح فيه روائح الزهور المزروعة. فبطل الفيلم سامر قام بالدور بسام كوسا لا يشعر بالحب فقط وإنما يفعّله عبر مجموعة متوالية من الافعال التي قد تبدو جزافية في زمن تظهر فيه الحياة كمجموعة من المصالح المتشابكة. ولكن سامر يحول هذه الممارسة الى مصلحة شخصية عبر مفهومه للحب الذي لا يتجزأ. فاستمرار حبه لحبيبته التي تنازل عن حقه بالزواج منها انقاذاً للآخر، هو استمرار لفعالية الحب الفردي ولكن في الجماعة او استمرار لحبه للحياة بكل مكوناتها، غير عابئ بالقضايا الاحتياجية التي تواجهه كفرد، وهذا يبدو واضحاً عبر استخدام المخرج للأغنية بكثرة في شريطه المنسوج بحساسية الحلم او الأمنية. فالأغنية التي تخرج من منجم معبرة عن أعمق ما فيه تتحول الى ملكية جماعية، يتشارك الكل في النهل منها في دورة تعيد الى الجماعة ما غرسته داخل الفرد المبدع، مقارباً بين الفرد المبدع والفرد العادي في قيمة العطاء الاجتماعية، بحيث تبدو السعادة الفردية كجزء لا يتجزأ من سعادة المجتمع. ومن هنا يبدو ان تنازل سامر بطل الفيلم عن حبيبته، يؤدي الى نتائج كارثية على مستوى الجماعة في حال تم النظر اليه عبر سكونية الاحكام التقليدية. فهذا التنازل قتل ثلاثة اشخاص بدلاً من انقاذ فرد واحد على الرغم من نبل المقاصد، وذلك عبر استعادة لقيمة تقليدية تظهر فيها المرأة وكملكية عائلية توزعها كيف تشاء. وهذا التماس الساخن بين الحب كقيمة معاصرة والحب بمعناه التقليدي الامتلاكي حوله عبداللطيف الى سؤال قاس يطبع الفيلم بقسوته: كيف نستطيع ان نوفق بين حاجات الفرد وطاقات المجتمع في لحظة تبدو فيها المعاصرة ضرورة انسانية وقوة اجتياحية قاسرة. او باختصار اشد كيف نستطيع ان نفعّل الخير الذي زرعه المجتمع فينا في مواجهة حاجات ووسائل تتناقض مع تقليديته؟ أبهذا الحجم من البساطة... أم بهذا القدر من العمق الانساني؟ والى اي مدى يستطيع الخير المراهنة على الفرد في ممارسته للصدق النهائي مع ذاته ومع الآخر؟ هذا السؤال الذي يعبر فيه المخرج عن مأزق اللحظة الانسانية في مجتمع يحاول الولوج الى العصر، صائغاً ادواته بالتجريب والخطأ... والزمن يمضي ويتجازو. ادوات طالعة من الحياة يلجأ المخرج الى الحياة لصياغة أدواته الفيلمية، صائغاً من العادي والمتداول ادوات اليفة تنقل المشاهد الى بؤرة الحدث. فالديكور ومواقع التصوير والأغاني والمهن وحتى الاحداث التي اختارها، تبدو وكأنها تدور في محيط المشاهد وفي مرمى فعاليته لذلك بدت الفانتازيا في الفيلم كفعل مألوف رغم غرابتها كنوع فني. فسامر الشاب المندمج مع قيمه النبيلة، يبدو منغرساً في المحيط اللاهث وراء اليومي، لكنه ورغم استثنائيته يبدو حقيقياً وجميلاً وحتى كأمنية في ممارسته لهذه القيم، بحيث يستغني عبداللطيف عن الاشارات الحرفية المباشرة ليقدم للمشاهد فسحة ربما لإنشاء او تخييل خيار التواصل العضوي مع الجماعة، او ليجرب آليات سرد سينمائية بطريقة جديدة تتقاطع مع الواقع بفقره وغرابته واحتمالات غناه، او ربما فرصاً مقترحة لإغنائه، مستدلاً اليها بروح فياضة بالحب والمشاعر المرهفة، كمحطة اولى للانطلاق الى العملي التغييري، معبراً عن قناعاته الفنية بعدم اللجوء الى الخطابية المباشرة من جهة او الولوج الى تعقيدات السرد الثوري الايديولوجي من جهة ثانية. وكأننا به يبحث عن معادل سينمائي محلي هارباً من أفخاخ اساتذة السينما المكرسين. وهذا البحث لا يستهدف التكلفة النقدية فقط وإنما أيضاً التوازي مع ثقافة اجتماعية بحاجة الى جسور كثيرة تربطها مع المعاصرة، من هنا أيضاً بدا الفيلم كلحظة مواجهة بين العصر بتركيبته المذهلة وبساطة أدوات المجتمع رغم عمقها الانساني. في نظرة جامعة الى اعمال عبداللطيف عبدالحميد نلحظ هذه المواجهة بين المجتمع والعصر، عبر ارتباك الفرد في التعامل مع استحقاقاته وأدواته لتحقيق غاية ما. بحيث يبدو "نسيم الروح" جزءاً في سلسلة يبحث عبرها هذا المخرج عن ذاك الانسجام بين الانسان والمجتمع علّنا، عبر هذا الانسجام، نستطيع تلافي الخيبات والانكسارات، والتي تلوح من مكان قريب دائماً. ببساطة ان "نسيم الروح" دعوة دون ادلجة للبحث عن الانسان المجتمع، ولكن في المعنى المعاصر جداً.