منذ عقدين ونيف دخلت كركوك كمدينة متنازع عليها بين الحكومة العراقية والأكراد في الخطاب السياسي واغتنت من مجادلاته وتوتراته. ولكنها مع مجيء البعث إلى السلطة مجدداً في العام 1968، تحولت إلى "لوثة ايديولوجية". وشكلت بعد بضع سنوات على عقد اتفاق آذار مارس مع الملا مصطفى البارزاني أحد الأسس التي أسهمت في نسف السلام والعودة إلى حرب طاحنة بعد آذار عام 1974، انتهت بتوقيع صدام حسين اتفاق 5 آذار الشهير في الجزائر. ولكن هذه اللوثة لم تقتصر على القيادة البعثية وحدها، مع انها السبب فيها، بل انتقلت كلوثة مضادة إلى قيادات الأحزاب الكردية ولا سيما الحزبين الرئيسيين: الاتحاد الوطني الكردستاني والديموقراطي الكردستاني. فعلى مدخل مدينة أربيل كنت تجد شعارات تقول: "كركوك قوس كردستان". في هذا المجال لا يمكن المساواة بين الضحايا الأكراد ومضطهديهم، لا سيما وأن هذا الملف يشبه جرحاً نازفاً ومفتوحاً في الجسد العراقي، كما أنه يبدو الثقة اللازمة للتحضير لحل حقيقي ودائم لقضية كركوك، ولسياسة "التعريب" التي اتسعت حديثاً لتشمل مناطق مخمور وخانقين وغيرها. ففي عام 1996 سلخت بغداد قضاء مخمور من ارتباطه بمحافظة أربيل وألحقته بمحافظة صلاح الدين تكريت وباشرت سياسة ترحيل سكان الأكراد وتغيير قوميتهم. آخر اجراء بهذا السياق هو تدشين الحكومة العراقية حديثاً حملة جديدة لتعريب المناطق الكردية الواقعة تحت سيطرتها في كركوك ومخمور وبقية القطاعات. هذه الحملة أثارت مزيداً من التوتر على الأوضاع المتدهورة أصلاً بين بغداد والأحزاب الكردية التي تدير شؤون كردستان منذ 9 سنوات. وتنظر القيادة الكردية في الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني إلى هذا التطور بوصفه نذير شؤم إضافي ينسف القسط القليل من الثقة بالحكم العراقي. فوفقاً للأرقام الأخيرة التي قدمتها الادارة الكردية إلى الأممالمتحدة بلغ عدد العوائل الكردية والتركمانية المهجرة هذا العام في كركوك وخانقين وطوز وداقوق وجلولاء 15 ألف عائلة ضمت حوالى 90 ألف مواطن. كما جلبت السلطات الأمنية العراقية 15 ألف شخص من اصول عربية للسكن في كركوك ومئة عائلة أخرى اسكنت في سلاية ومحيطها. وتنهمك هذه السلطات في تغيير قومية الأكراد والتركمان إلى العربية في اجراء جديد يدعى "تصحيح القومية". وترتبط الاجراءات الجديدة بقرار رئاسي صدر في 12 كانون الثاني يناير من العام الجاري. وينص على بدء الحملة ويفصل الاجراءات التي يتعين على الوزارات والإدارات الحكومية تطبيقها. وجاء في القرار الرقم 301433 وصف عمليات الترحيل بأنها ضرورية "للظروف الأمنية البالغة الأهمية وموقع كركوك الجغرافي"، ورسم لها نظاماً أمنياً خاصاً يتضمن إلى جانب ترحيل العائلات غير العربية "حجز شخص من كل عائلة كردية مرحلة إلى المناطق الشمالية، وحجز دور التمليك للمرحلين، وحجز البطاقة التموينية، وحجز قسائم الاشتراكات في الدوائر الحكومية أي قسائم التزود بالماء والكهرباء والخدمات الأخرى". وترافقت هذه الحملة مع قصف مدفعي على مناطق التماس مع الإدارة الكردية يتصاعد وينخفض وفقاً للمناخ السياسي. ووفقاً للوثيقة المسلمة إلى الأممالمتحدة، فإن 1287 قرية كردية جرى تدميرها في منطقة كركوك بعد حرب تحرير الكويت فقط. ولكن الإدارة الكردية أعادت إعمار 662 قرية تحولت إلى سيطرتها وبقيت 625 قرية على حالها. سياسة عزل لمواجهة "المتسربين" في المقام الأخير، تصل أهداف السياسة التي تتبعها الحكومة العراقية إلى حد الفصل القومي للأكراد عن بقية البلاد، وصهر الموجودين منهم خارج اقليم كردستان في المحيط العربي. وتساهم في هذا البرنامج مؤسسات الدولة كلها فضلاً عن منظمات حزب البعث العربي الاشتراكي. وتؤكد الوثائق ان التنسيق المركزي لفعالياتها يتم بأوامر من مكتب مرتبط بالرئيس العراقي صدام حسين، أو بمكتب علي حسن المجيد عندما يتعلق الامر بتنفيذ مخطط ما. وبالنسبة لسياسة "الفصل القومي" يجري تطبيق تعليمات صارمة لمنع انتقال المواطن الكردي، بمعزل عما اذا كان مؤيداً لحزب من الاحزاب المعارضة ام لا، الى المناطق العربية. ففي تعميم الى فروع البعث في المحافظاتالعراقية حددت رئاسة الجمهورية في كتابها المرقّم 32/2333 الاساليب المتخذة لمعالجة "تسرّب الاكراد الى المحافظات المجاورة". ويلزم قرار الرئاسة "المنظمات الحزبية والاجهزة الامنية في الاقضية والنواحي والريف بمراقبة تسلل الاكراد، والاخبار عنها الى الجهات الامنية" كما ينص على محاسبة من يتستر عليهم. ويتعين على المختارين ومسؤولي الوحدات الادارية توقيع تعهد خطي منهم بابلاغ عن "كل نازح او متسرّب" كما يقضي بمعاقبة من يقدم لهم عملاً او يؤجر لهم بيتاً. اما بالنسبة ل"المتسربين" خوّلت تعليمات الرئيس العراقي سلطات للمحافظين لحجز ربّ العائلة المتسرّبة، والعوائل العربية التي تؤويهم. وحملت تعليمات الرئاسة المنظمات الحزبية واجهزة الامن المسؤولية عن ظهور أي حالة تسرّب او نزوح الى مواقع مسؤولياتهم. وأمرت بتشكيل "لجان امنية" على مستوى المحافظات تضم الى منظمات البعث ممثلين عن الامن والشرطة والمجلس الشعبي ومختاري القطاعات الجغرافية. وأكثر من ذلك يأمر بمعاقبة رؤساء الوحدات الادارية واللجان الامنية. واذا أُضيفت الى هذه الاجراءات بقية القرارات القاضية بمنع الطلبة العراقيين في المناطق الكردية من اكمال دراستهم في كل المؤسسات التعليمية، وعدم الاعتراف بالوثائق التي تصدرها لا سيما وثائق التخرّج وانهاء الدراسة، يصبح "العزل السياسي والمدني" للمناطق الكردية كاملاً. وهو ما يفضي الى اقامة جدار متين بين الاقليمين العربي والكردي، تمثله قوات الامن والشرطة على الارض، والتعليمات والتشريعات الصادرة من بغداد على الصعيد القانوني. وهي لا تميز بين حزبي ومعارض كردي ومواطن كردي او عربي غير منتمٍ الى اي حزب سياسي وهؤلاء يشكلون في اغلب الحالات المشابهة اكثرية السكان. كركوك و"لعنة النفط" والتاريخ تعود مأساة كركوك ومنطقتها الى اكتشاف النفط عام 1925. فمنذ ذلك التاريخ شهدت تركيبتها السكانية ذلات الغالبية الكردية واقلية تركمانية تحويراً مضطرداً عبر اسكان اعداد كبيرة من العرب والآشوريين والأرمن. وكان ذلك ضمن السياسة التي اتبعتها شركة النفط بإدارتها البريطانية، ولكن العمل على تغيير الحالة القومية في المدينة ومحيطها، سياسة ثابتة لجميع الأنظمة العراقية. ويفسر وجود أغنى الآبار في العالم في كركوك تضم الطبقات العليا لأحد الآبار 15 ألف مليون برميل الدور الذي لعبه النفط في السياسة العراقية، ولكن النتائج الأخرى التي جلبتها "لعنة النفط" أفسدت على الدوام محاولات الخروج بحل وسط. فالدولة العراقية، لا سيما بعد عام 1968، بدأت تدرك أنها لن تربح معركة كركوك إذا ما استندت الى الوقائع لوحدها. لذلك لجأت الى استراتيجية التفاوض والمماطلة وتوظيف العوامل الاقليمية والدولية جنباً الى جنب الدبابات والمدافع. وبالنسبة للأكراد الذين دخلوا مع النظام العراقي مفاوضات في أكثر من مرحلة، لم يجدوا على طاولة المفاوضات أو المباحثات الرسمية ما يدحض حقهم التاريخي أو حججهم. ويذكر أمين عام الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني انه وجد نفسه أمام وفد الحكومة العراقية الذي أقر بكل الاتهامات الموجهة الى بغداد، بل ان عزت الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة زاد عليها من عنده. وخلاصة الموقف العراقي من هذه القضية هو الاعتراف بالطابع الكردي والتركماني للمدينة، واقتراح ان تبقى المدينة تحت الحكم المركزي بعد تسوية نتائج سياسات العقدين الأخيرين من إبعاد وترحيل وتغيير للقومية. ويقول طالباني في حديث اجري معه حديثاً: "ان الحكومة تعتقد أن وضع مدينة تنتج كل هذا النفط بيد الأكراد سيؤدي الى تعزيز النزعات الانفصالية بين الأكراد، أو قد يرسي أساساً لهذا". ويرفض طالباني هذا المنطق على أساس ان الأكراد مستعدون وفي ظل التزامات دولية ان يعطوا ضمانات بعدم السعي الى الانفصال. لكن هذه المواقف على تواضعها تبددت مرة بعد أخرى بسبب تمسك الحكومة العراقية بأمل الاجهاز على الحركة الكردية وتعبيراتها السياسية. كما لم يوفر الغطاء الدولي والعلاقات العربية مع بغداد والأكراد الحد الأدنى من الدعم لعملية تفاوضية ناجحة، تعود تسويتها على المنطقة بالاستقرار. من الناحية العملية مضت اجراءات الحكومة الى أبعد مدى ممكن لتعريب المنطقة. فهي اقتلعت سكان المدينة من الأكراد بكل الوسائل ابتداء بنقلهم الى مناطق عربية وإحلال موظفين عرب محلهم، ومروراً بتغير اسماء الأحياء الكردية واطلاق أسماء عربية عليها. ويقول طالباني: "إن لهذه العملية وجهاً قبيحاً للغاية، اذ تتقصد الحكومة اطلاق اسماء عربية لها دلالة خاصة ونفسية لدى الأكراد، مثل استبدال اسم حي كردي باسم "حي القدس"، أو "فلسطين" أو "الكرمل" وغيرها من الدلالات التي تنعكس وجهتها عندما تكون بمثابة شكل آخر للمستعمرات الاسرائيلية". وتحولت قرى ودساكر كركوك، فضلاً عن مركزها الى ثكن عسكرية أو أراض تحيط بها السرايا والمعسكرات والأسلاك. وتشير الوقائع الى أن جميع الأقضية والنواحي التابعة لكركوك انتهى تعريبها. وهي قضاء دبس وقضاء آلتون كوبري ونواحي شوان وقره هنجير وليلان وداقوق، كما الحق قضاء تازه خورماتو الى محافظة صلاح الدين. وانشأت السلطات الحاكمة 12 مجمعاً جديداً احلت فيها سكاناً من أبناء العشائر العربية القريبة من الحكومة، وهي مجمعات الثغور والنعيمية والجهاد والشهيد وسيكانيان وكالور ويارمجة وبني آوه وكلوزي وجيمن وسيا منصوري ودوبزني. على صعيد الأرقام يمكن رؤية ما حصل من خلال مقارنة عناصر التغير في عدد السكان، فما بين عامي 1924 و1977، انخفضت نسبة الأكراد في محافظة كركوك من 42.5 في المئة الى 27 في المئة، بينما زادت النسبة للعرب من 32 في المئة الى 44 في المئة، وتقلص السكان التركمان من 23 في المئة الى 16 في المئة. ولكن الصفحة الأكثر دموية من لعنة كركوك جاءت بين عامي 87 و1989، حين حصل اثناءها فقط تدمير 775 قرية وتهجير حوالى 400 ألف مواطن. وما أن وصلنا الى عام 1989 حتى كان مجموع قرى وأقضية كردستان المدمرة 3800 قرية تقريباً. وتعيش الأقلية التي بقيت في مكانها على رغم تلك الحملات في ظل قوانين تمنع عليها التملك أو حقوق شراء اراض في المحافظة، كما لا يسمح لها بالعودة اليها اذا ما نقلت الى وسط العراق، بل انه لا يسمح لها حتى بترميم دورها. ومقابل ذلك يمنح كل عربي يرغب بتملك بيت في كركوك، مبالغ كبيرة كمنح وهدايا، أو قروض ميسرة للغاية في أحسن الحالات. هذه الاجراءات تبدو وكأنها تنسف أكثر من جسر واحد من جسور العلاقات والثقة والمستقبل المشترك، لأنها في جوهرها تعمق الهوة الفاصلة بين الأكراد والعرب، وتقيم لجهة أخرى جداراً يفصل بينهما يعمل الزمن على رفعه واعلائه.