لم أر بين الكائنات "الدونية" مخلوقاً "متسلقاً"... مثله. ولو أردنا أن نصفه - باختصار - لقلنا إنه حشرة تعيش في الأعماق النتنة، الرطبة، المظلمة. لكنها "تتسلق" طريقها إلى السطح بكل الغباء والعفونة والانتهازية اللزجة التي يتفرد بها "الصرصار" من بين مخلوقات السطح والأعماق. ف"الصرصار" يولد وينشأ بين أحشاء الظلمة، وعلى جدران "البلاليع" و"البيارات"، وفي أجواف "المجاري"، وبين أكوام القاذورات والفضلات. ولذلك فقد اكتسب كل المهارات اللازمة للتعامل مع الظلام والعفونة. فجسده البيضاوي "المفلطح" اللزج يسمح له بالمرور بين "الثغرات" الضيقة، والطفو فوق الاسطحة السائلة، والتحايل على تيارات "النظافة" الجارفة القادمة من الأعالي. و"أقدامه" الشوكية تساعده في تسلق الاسطح الناعمة مهما بلغت شدة انحدارها. و"رأسه" المنحني الى الخلف - على خلاف الحشرات جميعها - يعطيه الفرصة لكي ينظر - باستمرار - الى "الصاعدين" وراءه، ليركلهم في اللحظة المناسبة، لأنه يعلم أن "المنافذ" العلوية ضيقة ومحدودة، وأن السطح لا يتسع ل"صراصير" كثيرة. "قرونه" الاستشعارية تعمل مثل رادار "الاواكس" في جميع الاتجاهات، فتجعله يحس - على الفور - بحركة "القادمين" و"الذاهبين" و"الصاعدين" والمنحدرين"، وتعطيه فرصة "الكرّ" و"الفرّ" و"الظهور" و"الاختفاء". تلك هي بعض "مهارات" الأعماق التي تحترفها وتتقنها "الصراصير" الملوثة. لكنها "مهارات" عالم "دوني" كئيب لا تناسب الحياة في عالم "الاسطحة" المشرقة. ان "مهارات" المجاري الملتوية لا تصلح للطرقات النظيفة المستقيمة. وأخلاق العفن الدامس لا تلائم النظافة الناصعة. و"استعدادات" "التزحلق" والتسلق والنفاذ من الثغرات الضيقة لا تعدّ ميزة كبرى في ساحات أفقية رحبة. لكن الغباء "الصرصاري" الموروث لا يساعد الصرصار في تغيير سلوكه ليلائم أوضاع "السطح" وظروفه. ولذلك تفقد الصراصير توازنها عندما تنجح في الصعود الى "الاسطحة" ليصيبها ما يمكن أن نسميه "جنون" الاسطحة الذي يفقدها احساسها ب"الزمان" و"المكان" و"المناسبة"، فنجدها تغادر فتحات "البلاليع" لتتجول وتتصدر الأماكن الطاهرة النظيفة. ونجدها - في "هَوس" التسلق المسيطر عليها - تصر على اخراج قرون استشعارها من الثقوب وبالوعات المغاسل... فتثير القرف والغثيان و"التوجس" من موجات القذارة التي تنبئ عنها و"تبشر" بها. ولهذا لا تعمر "الصراصير" في الأعالي طويلاً. ف "الترعة" الإنسانية النظيفة - التي لم ينزعها الله من الكون بعد - لا تحتمل "الصراصير" وأخلاقها النجسة. وسرعان ما تلقى "الصراصير" مصيرها المحتوم عندما تسحقها الأقدام وتلقي بها الى "المزابل" و"المراحيض"... من حيث أتت. وربما كانت هذه "حسنة" الصرصار الوحيدة، عندما يستثير في الإنسان "مشاعر" التطهّر والنظافة، ويكرّس فيه احساس "القرف" من الأذى و"النجس"، ويدفعه الى اتخاذ موقف ايجابي عندما يسحق "صرصاراً"، ويلقيه بعيداً، وفي الأعماق.