قد لا يوجد أبلغ تعبيراً عن دور قمة كولونيا للثمانية الكبار في حياة المجتمع الدولي من تلك الكلمات التي اطلقها أسقف الكنيسة التاريخية في المدينة العريقة، وحدّدت كون الفقر معيناً لا ينضب لتفريغ العنف والفضائح والبشاعات. والأهم ان المساعدة لا تتم عبر تقديم المال وحده، بل يتم تفعيلها من خلال العمل من اجل العدالة وعبرها من اجل السلام. الاسقف مايسنر كان منهمكاً في القاء موعظة الأحد، آخر أيام القمة على اقطاب الهيمنة الاقتصادية عندما تنبه الجميع الى ان واحداً من أبرزهم لم يشأ الصلاة في هذه الكتدرائية، وهو الرئيس بوريس يلتسين، ليس لأنه مجهدٌ صحياً، وظروفه لا تسمح بالكثير من الحركة والتجوال، بل لأنه أراد استغلال الساعات الاثنتي عشرة التي قضاها في ربوع المدينة والمؤتمر، من اجل ايصال رسالة بلاده روسيا: لا بد ان تتيقنوا هذه المرة من عدم وجود البدائل لالغاء ما تم تجييره من ديون الكيان السوفياتي السابق، وموسكو لم تعد قادرة على فهم المزيد من التصريحات التي تُلحّ على المزيد من الاصلاح، والسبب هو ان العبرة حسب الزعيم الروسي المريض لا تكمن في اجترار كلام ثبت عدم واقعيته، بل باشتراع وسائل جديدة للشراكة تخرج هذه البلاد من محنتها الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية المدمّرة. حضور يلتسن الى القمة كان الأهم، لأسباب لا علاقة بها للمكانة الاقتصادية المتراجعة باستمرار لروسيا، وهي تكمن كلها تقريباً في توثيق علاقة الاتحاد الروسي مع الكبار، بعد ان اخرجتها منهم ظروف التحولات السياسية والاقتصادية المحضة... لأن استرضاء الروس حاجة ملحة للغرب. والواقع ان قمة المستشار الألماني وزعيم روسيا سبقت لقاء الأخير مع كلينتون الذي طال انتظاره، وقد كان رجل المانيا القوي غيرهارد شرودر واضحاً في استرضائه الديبلوماسي للرئيس يلتسن، فأكد له ان "عضوية روسيا في مجموعة الكبار صارت كاملة الآن، ولم تعد موضع جدل او تكهّنات" بمعنى تعادل القوة المالية مع القوة التسليحية التي ما زالت على حالها ضاربة ومدمّرة. وفي القمة ذاتها بدا ان يلتسن نجح في وضع مضيفه بشكل اوضح في صورة الاحداث الروسية، فان كان صحيحاً ان على روسيا الاذعان بأن خدمة ديونها للغرب امر لا مفر منه وإن بلغت حوالى 250 بليون دولار، أقل من نصفها انتقل من الارث السوفياتي، فان الصحيح ايضاً هو عجز الروس التام عن الوفاء بذلك وإن ردد بعضهم العكس، وذلك امر لا ينذر بمجرد عواقب وخيمة على الاقتصاد ومجتمع الدولة في روسيا وحسب بل ان الآثار تنسحب بسرعة على العديد من الاعضاء الكبار. وهكذا باتت الكماشة ممسكة بقوة لتربط بين الحقائق والأوهام فيما يتعلق بمستقبل العلاقة مع الروس، ولتلقي ضوءاً كاشفاً على مدى الاستمرار في نجاح الألمان بالامتناع عن الاستجابة لمزيد من الدعم المالي والاقتصادي لخزائن روسيا التي نضب منها حتى الروبل. وقبل هذا اللقاء بدا من غير المتوقع ان تجد المانيا المزيد من الذرائع كي تنأى بنفسها قدر الامكان عن هذه العلاقات الاقتصادية المحفوفة بالمخاطر. رغم بيانات "اتحاد الصناعيين الألمان وتصريحات أبرز اعضائه المنطلقة من الحديث عن رفض الاستجابة الى شطب ديون مقدمة في وقت سابق الى افقر الدول الفقيرة، من دون قيود تحدد آلية مثل هذه الاستجابة، ليُعنوَن ذلك تلميحاً الى القادة الروس، مع ان في يد أرباب الصناعة الألمان ورقة قوية تساعدهم في رفض معونات مالية جديدة لموسكو، وهي تحديداً عدم تصنيف روسيا ضمن الدول الواقعة على الخط الأحمر كما هو شأن 36 دولة افريقية ومن دول اميركا اللاتينية. وإذا اخذنا في الاعتبار ان مديونية الدول الافقر في العالم تقل بخمسين بليون دولار عن ديون الروس يصبح من الواضح ادراك التدخل المزدوج لكن على طريقة تفصل بين الحالتين. من المؤكد ان الاميركيين حققوا أبرز اهدافهم السياسية والعسكرية من استمرار العلاقة مع الروس خصوصاً في الأمور المتعلقة بصراع البلقان، وان لم تكتمل، وكذلك من دفع الرئيس يلتسن الى الموافقة على الاعلان رسمياً على تحديد اشهر نهاية العام الجاري موعداً لمناقشة بنود اتفاقية "ستارت 3" الرامية الى التخلص من الخزين النووي الحالي، والحد من انتشار الاسلحة النووية، وهذا بعينه هو مكمن الخشية الغربية من روسيا الضعيفة اقتصادياً. ولأن الروس حصلوا على تعهدات باستمرار مساعدة اقتصاد بلادهم فان معضلة الديون تكاد تكون وصلت الى حل وسط يكمن في العمل على فك التزام روسيا بإيفاء الديون السوفياتية السابقة وتقدّر ب112 بليون دولار. تبقى مشكلة العلاقة مع الدول الفقيرة التي اتخذت خلال السنوات الاخيرة منعطفاً خطيراً بعدما باتت على الأبواب نذر انهيار شامل في الكيانات السياسية بهذه الدول، المعروف ان معظم دول افريقيا ودولاً عديدة في اميركا اللاتينية صارت تقصر نشاطاتها على محاولة الوفاء بخدمة الديون المترتبة لصالح الدول الشمالية من دون ان تنجح في هذا او تتمكن، على الشق الآخر، من خدمة برامج تنموية لصالح تطوير الدولة والمجتمع، بعد بناء بنى تحتية مقبولة. قصة الروابط غير المتكافئة بين الشمال والجنوب قديمة وكان الجنوبيون، الأفقر، يكثرون من توجيه اللوم الى المقتدرين مالياً في محاولة سحقهم وتدمير امكانات انماء قوت شعوبهم، ما ادى قبل ثلاثة اعوام تحديداً الى تكليف صندوق النقد الدولي لبحث آلية لمساعدة الدول المحرومة من دون ان ينجح الصندوق في تلبية اي من الشروط الملحة، فكانت النتيجة ان تمكنت دولتان فقيرتان من الاستفادة من هذه المبادرة احداهما اوغندا، وإن بقيت ظروفها الاقتصادية السيئة على حالها تقريباً. ويبدو ان فشل تلك المبادرة كان الأساس وراء تكريس بعض الاهتمام على ظروف دول الجنوب وإلقاء بعض الضوء الكاشف، في محاولة للوصول الى حل سريع، يختصر روتين المال، ويتجاوز تعقيدات التعامل مع الفقراء، على اساس انعدام الضامن الذي يكفل تسديد الدين. لعل تحرك الجماعات الانسانية من جهة والكنيسة من جهة اخرى بهدف الضغط في اتجاه تصفية الديون المعلقة، ومنح الضعفاء فرصة لانجاز متطلبات بنى تحتية تضمن القدر الأدنى من الحياة الكريمة، وتضع حداً مقبولاً لتفشي الأوبئة والأمراض، ربما ليس آخرها فقدان المناعة "الايدز" الذي ورد اسمه تحديداً في البيان الختامي. وإن نجحت هذه القمة في شطب ما يصل الى ثلث ديون المعنيين، فانها لن تنجح بهذه الطريقة في نفض اليد عن الاستمرار في مد يد العون حتى يمكّنوا من النهوض مجدداً، وهذا ما أشار اليه تحديداً الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما اكد خطأ الاعتقاد بالوقوف عند خطوة شطب بعض الديون او جميعها لأن هذه الدول "بحاجة الى من يأخذ بأيديها كي تبدأ بالمطلوب منها محلياً، من الناحية التصنيعية الانتاجية، والبنائية التنموية". ويبدو ان الفرنسيين عازمون فعلاً على شطب جميع الديون التي لبلادهم على دول المستعمرات الفرنسية السابقة، وهي ما قيل ستتكلف الخزينة بحدود سبعة بلايين دولار، بينما يتأكد الآن ان الخزينة الألمانية ستتكلف عبئاً ضخماً من عملية شطب الديون في حال تبني الموضوع جماعياً من خلال آلية الاتحاد الأوروبي المعروفة، بسبب دور المانيا القيادي في الاتحاد. الأردن من جانبه كان احد ثلاث دول عربية حظيت ببعض الاهتمام في القمة، كونه يريد ان يرى اخيراً اي ثمن للسلام الذي وقّعه العاهل الراحل الملك حسين، حتى يتمكن من نفض غبار الازمة الاقتصادية التي بدا انها توشك في ان تعصف بالأمور هناك، والملك عبدالله نفسه كان خاطب الولاياتالمتحدة علناً بضرورة الانتباه الى مشاكل بلاده، ونقل الوعود السابقة بالمساعدة الى واقع، غير ان واشنطن تؤكد انها فعلت الذي عليها وألغت هذه الديون، والمتبقي لا يتجاوز 200 مليون دولار، في حين ان الحكومة الأردنية مدينة حالياً بأكثر من ثمانية بلايين دولار، وهي رغبت من حيث المبدأ بأن تتولى اليابان مثلاً امر شطب هذه الديون البالغة بحدود بليون دولار، لكن اليابانيين اصروا على الصدّ، وتجاهل هذه الدعوات. لكن تأكد الآن ان رسالة وزيري المالية والخارجية الاميركيين الى القمة، التي اقتصرت على الحديث عن مشكلة الديون الأردنية، وضرورة التعامل معها بجدية من منطلق تفهم "دور الأردن المهم في عملية السلام"، يضاف الى ذلك اللقاء الخاص الذي عقده الرئيس كلينتون مع رئيس وزراء اليابان، وتناول هذه المشكلة بالذات، ادى الى تراجع محدود للحكومة اليابانية وتأكيد رئيسها من مدينة كولونيا ان اليابان بصدد البحث عن بدائل اخرى تخفف عبء الديون عن الأردنيين، من دون ان يعني ذلك شطباً لها، من منطلق عدم انتماء الأردن للدول الفقيرة الواقعة على "الخط الأحمر" الذي يعني من دون مستوى الفقر. لا يتوقع احد ان يرضي هذا الاتفاق الوسطي طموحات الأردنيين المعبّر عنها على اعلى المستويات، ولكنّ احداً بالمقابل لم يكن يرى افضل من هذا الحل في الوقت الراهن، اذا اخذنا في الاعتبار ظروف اليابان الاقتصادية التي تدهورت خلال الازمة التي ضربت آسيا. وفي كل الاحوال يمكن القول بأن شيئاً افضل من لا شيء، فيما لو تمسكت الدول المعنية حرفياً باتفاق الخط الأحمر. البلد العربي الوحيد الذي حقق بعضاً من الفائدة طبقاً لشطب نسب من الديون هو السودان على رغم ان العديد من المشاركين كانوا يرون ان الذي اتخذه السودانيون قبل عام من انفتاح سياسي وإتاحة الفرصة امام التعددية الحزبية ما زال ناقصاً او هو بحاجة الى المزيد من التنفيذ على ارض الواقع. ولكن يبقى السؤال عما اذا كان القول يتطابق مع الفعل حول موقف الأقوياء من مسألة الديموقراطية والحريات الشخصية في الدول الفقيرة والنامية، او ان ذلك مشروط بطبيعة مصلحة هؤلاء الاقوياء والفرضيات التي يرتبها هؤلاء على الأرض.