حينما نتطلع إلى المشهد السياسي العراقي بماضيه وحا ضره نجد انفسنا أمام السؤال المركزي: هل أزمة العقل السياسي العراقي مرهونة بشخص "صدام" أم هي أزمة اجتماعية سياسية شاملة؟ إن كسل - وربما جهل - النخبة السياسية، ومعها مجموعة الكتّاب المهتمين بالشأن السياسي، أودى بهم إلى السقوط في شراك التبسيطات الساذجة القائمة على التعليقات السريعة على النتائج والابتعاد الغريب عن الدخول في العمق من أجل معرفة أسباب الأزمة التي يعيشها العراق. فالأزمة الراهنة للعقل السياسي العراقي لم تكن وليدة اللحظة، ولا هي مرتبطة بشخص صدام حسين. والذي يستقرئ التاريخ السياسي للعراق الحديث يجد أن هذا البلد منذ مطلع القرن الحالي ومع بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لم يعش فترة استقرار اجتماعي سياسي حقيقي، ولم يستطع المجتمع العراقي انتاج تجربة سياسية سليمة نامية تقوده إلى تأسيس مؤسسات المجتمع المدني. كانت الممارسة السياسية في العراق - سواء لدى السلطة أو لدى المعارضة - قائمة - غالباً - على التفكير والسلوك الاعتباطي العشوائي الذي ينوء بأثقال التراكمات التاريخية والاجتماعية المتخلفة، فهناك الكثير من التشوهات التي تعوق تصاعد عملية التنمية الاجتماعية السياسية، وقد اخفق الصراع الاجتماعي - السلمي والدموي - في انتاج تطور نوعي ملموس، وما زال التخلف يعيد انتاج نفسه. والأزمة التي يعاني منها المجتمع العراقي هو تعبير عن خلل بنيوي في تكوين الشخصية العراقية لم يجد بعد العقول النيرة، والإرادات الشجاعة لتشخصيه والعمل على معالجته. فالشخصية العراقية - المعارضة والموالية لنظام صدام على حد سواء - عاشت نمطاً من الحياة الاجتماعية السلبية باكراهات تربوية أسرية، ومناهج وصيغ تعليمية في المدارس والجامعات غير علمية، إضافة إلى ممارسات اجتماعية صارمة متشنجة، وتراجع ملحوظ لدور العقل، مع بروز واضح للتعصب الحزبي، والطائفي، والعرقي، على حساب مصلحة العراق. وأهم مرض أصاب الشخصية العراقية هو هزال "النمو الوجداني" - النفسي - فالفرد هنا، وبحسب مفاهيم علم نفس الأعماق الذي أسسه يونغ، تراه ذكياً ومثقفاً، إلا أنه يعاني من "الطفالة" النفسية المتمثلة بغياب النضج العاطفي، مما يمنعه من التعامل مع الأفكار، والأشخاص، والأحداث تعاملاً سليماً قائماً على التوازن والموضوعية واحترام المبادئ، ومصالح المجتمع... ولعلها مأساة حقيقية للشخصية العراقية حينما نلاحظ أوجه التشابه ما بين المعارضة ونظام صدام، فعلى رغم اختلاف النوايا والخطاب، إلا أن النتيجة الكارثية واحدة، فكلا الطرفين اثبت عدم احترامه لقيم الحرية وتقبل الآخر المختلف والعمل معه على أساس خدمة مصالح الوطن، وإذا كان نظام صدام قام بارتكاب مجازر دموية ضد الآخر المختلف، فإن فصائل المعارضة العراقية تعاملت مع الآخر المختلف من فصائل المعارضة نفسها باسلوب القتل الرمزي، عبر القيام بعمليات تشويه معنوي للآخر المختلف بواسطة الهجمات الاعلامية المتبادلة والأساليب الأخرى. إن أزمة العقل السياسي العراقي الراهنة لا يكفي مطلقاً اسقاط نظام صدام حلاً لها، إنما هي في حاجة شديدة إلى ثورة شاملة اجتماعية، سياسية، ثقافية، تبدأ من نظام الأسرة مروراً باسلوب ومناهج التعليم في المدارس والجامعات، وانتهاء بالاطر الثقافية التي تتحكم في مسارات الفرد والجماعة، وهي في أمس الحاجة إلى جهود الناس الشرفاء من أجل تأسيس مؤسسات المجتمع المدني الذي يربي الأفراد والجماعات على احترام مبدأ العدالة الاجتماعية، والسلوك الديموقراطي الحضاري، والتضحية بالمصالح الشخصية، والحزبية، والطائفية، والعرقية، اكراماً لمصالح الوطن. * كاتب عراقي مقيم في الولاياتالمتحدة الأميركية