هل هما فيلمان لهما اسم واحد؟ هل هو فيلم واحد بنسختين؟ أم نحن أمام فيلمين يحملان موضوعين متشابهين حققهما يوسف شاهين في عامين مختلفين: 1968 و1972؟ هذه هي الأسئلة التي كان في الامكان طرحها قبل أسابيع حين بدأ بعض الصالات الباريسية يعرض فيلماً ليوسف شاهين بعنوان "النيل... ذات يوم" أو "النيل والحياة". في "الملحق" تحدثنا يومها عن ذلك العرض وأشرنا الى أن الفيلم هو نفسه "الناس والنيل" الذي نعرفه ونذكره دائماً في قائمة أفلام شاهين. ولكن سرعان ما تبين أن الأمر ليس على ذلك النحو. وان ما عرض في باريس هو النسخة الأولى - المختفية تقريباً - من الفيلم الذي كان حققه شاهين لتمجيد الصداقة المصرية - السوفياتية، وتعاون المصريين والسوفيات من حول مشروع بناء السد العالي. لكن ذلك الفيلم لم ينل رضى أي من الطرفين المساهمين في انتاجه موسكووالقاهرة الرسميتين، ما اضطر شاهين الى تحقيق نسخة ثانية، استناداً الى مشاهد وفصول عديدة مأخوذة من النسخة الأولى ومضاف اليها مشاهد جديدة تولى بطولتها هذه المرة سعاد حسني، عزت العلايلي ومحمود المليجي، بعد أن كانت بطولة النسخة الأولى لعماد حمدي وزوزو ماضي... الخ. هنا، لمناسبة العرض الباريسي، حكاية ذلك الفيلم المزدوج، وبالتحديد كما يرويها الى "الملحق" يوسف شاهين بنفسه: أن تعرض الصالات الفرنسية فيلماً للمخرج يوسف شاهين، يبدو الأمر عادياً، فقد سبق أن عرضت له أفلاماً عدة بدءاً من "وداعاً بونابرت" وحتى "الآخر" مروراً ب"اليوم السادس" و"اسكندرية كمان وكمان" و"المهاجر" و"المصير"، أما أن تعرض له الصالات الفرنسية فيلماً انتج قبل 21 عاماً، ولم يسبق أن عرض من قبل تجارياً في أي مكان، فأمر يبدو غريباً ومثيراً للأسئلة، خصوصاً وأن الرقابة المصرية لم تجز عرض الفيلم ابداً وهو غير مسجل في دفاتر غرفة صناعة السينما المصرية. الفيلم هو ذاك الذي تعرضه الصالات الفرنسية منذ مطلع الشهر الماضي حزيران يونيو تحت اسم "النيل والحياة" وألتبس الأمر على البعض وظنوه فيلم "الناس والنيل" الذي أنتجته المؤسسة المصرية العامة للسينما بالاشتراك مع الاتحاد السوفياتي ليمجد مشروع بناء السد العالي وقامت ببطولته الفنانة سعاد حسني وعزت العلايلي وعرض العام 1972. والحقيقة أن الفيلم الذي يعرض في فرنسا حالياً هو فيلم آخر غير الفيلم السابق ويحمل اسم "الناس والنيل" ايضاً. وهو كذلك انتاج مشترك ما بين المؤسسة المصرية العامة للسينما والاتحاد السوفياتي، لكنه من بطولة عماد حمدي ومديحة سالم وزوزو ماضي، وصور في العام 1968، وكان أول فيلم مصري - سوفياتي مشترك. وتعود وقائع انتاج الفيلمين الى العام 1964، حين كلفت المؤسسة العامة للسينما شاهين بإخراج فيلم ضخم ملون يمجد مشروع بناء السد العالي، وبعد انتهاء شاهين من تصوير الفيلم الأول الذي أعطاه اسم "الناس والنيل" عام 1968، رفضته المؤسسة العامة للسينما، كما أعترض عليه الجانب الروسي. وبالتالي لم يعرض الفيلم وطلب الى شاهين تصوير فيلم جديد آخر حول الموضوع نفسه موضوع "السد العالي". وبالفعل صور الفيلم "الجديد" وعرض العام 1972، أما الفيلم الأول فاختفى حتى اكتشف شاهين أن هناك نسخة وحيدة منه موجودة في السينماتيك الفرنسي وأنقذ الفيلم وتولى السينماتيك عملية ترميم النسخة وعمل نيغاتيف بديل منها. واليوم بعد ظهور الفيلم الجديد - القديم الى النور اصبح لدينا فيلمان يحملان اسم "الناس والنيل" وإن كان شاهين اطلق على الفيلم الأول اسم "النيل والحياة" عند عرضه في فرنسا. على أية حال الفيلمان يشتركان في كونهما من إخراج يوسف شاهين، بالاضافة الى عناصر أخرى لم تتبدل في الفيلمين منها الموسيقى التصويرية للروسي المعروف خاتشادوريان والتصوير الذي قام به الروسيان شلينكوف وبيترتشكنو أما التوليف. "الحياة" التقت المخرج الكبير يوسف شاهين في مكتبه في القاهرة وحاورته حول ملابسات انتاج الفيلمين، ولماذا استغرق الأمر كل هذه السنوات من 1964 الى 1972. كيف بدأت قصتك مع "الناس والنيل"؟ - بدأت تحديداً في العام 1964 عندما اسندت الي المؤسسة العامة للسينما مهمة إخراج فيلم عن السد العالي الذي كان العمل فيه ما زال في بدايته، واقترحوا لي رواية للكاتب موسى صبري بعنوان "غداً تبدأ الحياة". لكني وجدت الرواية غير متوافقة مع قناعاتي فقررت أن أضعها جانباً. وقمت بكتابة سيناريو آخر مختلفاً عن الرواية، وقدمته للرقابة التي وافقت عليه وبدأت في اختيار فريق الممثلين وكان يضم في حينها نادية لطفي وسناء جميل وسيف الدين، وسافرت الى أسوان لأصور بعض المشاهد التسجيلية لعملية بناء السد العالي. وعند عودتي الى القاهرة أخبروني أن رئيس المؤسسة العامة للسينما يريد مقابلتي، وعندما ذهبت إليه في مكتبه وجدته جالساً مع موسى صبري وعلامات عدم الارتياح بادية على وجهيهما، وبادرني رئيس المؤسسة قائلاً: "انت بتصور إيه، ان الرقابة لم تعطك تصريح السيناريو؟"، فقلت له التصريح معي وتوجد معي نسخة السيناريو التي بحوزتك. وعلى ما يبدو فإنه كان يريد مجاملة صبري هو ورئيس الرقابة حتى لا يغضب منهما وعرفت في ما بعد أن الذي أغضب صبري أن مصطفى أمين قال له بسخرية "يا عم ولا بيشتغلوا على الرواية بتاعتك ولا حاجة"، فذهب يشكوني بدوره الى رئيس المؤسسة الذي قال لي غاضباً بعد أن اسقط في يده: "انت عاوز تفكر على كيفك يا استاذ؟" فقلت له: "أمال انت عاوزني أفكر على كيفك.." ووجهت اليه كلمات قليلة الأدب، ثم قلت: "ما انتو عارفين إني أنا مابشتغلش على قصة موسى صبري". وأذكر هنا انهم في تلك الليلة كانوا على وشك اعلان جوائز وزارة الثقافة السينمائية عن العام الذي قبله وكان لي فيلم "صلاح الدين" في المسابقة وبما أن وكيل الوزارة تعالى علي وأنا قلت له كلمة مش لازم تتقال بس كان يستهلها، كانت النتيجة أن حجب عني 17 جائزة خاصة بفيلم "الناصر صلاح الدين". وكان ذلك واضحاً خصوصاً وأن رئيس لجنة التحكيم كان محمد كريم الذي لم يكن من الذين يقدمون على مثل تلك الأمور. وهكذا راحوا يعطون جائزة لكل من كان مشاركاً في المسابقة غيري. وكيف واجهت الأمر؟ - انتابني شعور كبير بالمرارة وقلت لنفسي أنني لن استطيع ان أقف في وجه السلطة، وعدت الى منزلي وألقيت بأثاثه من الشباك ونفيت نفسي الى لبنان، وعلم الرئيس عبدالناصر بأنني سافرت من دون ان أكمل الفيلم، وسأل عني قائلاً: "فين المجنون بتاعنا" فأجابوه بأنني سافرت، فسأل لماذا؟ قالوا له "ده بتاع فلوس وبره هيكسب أكثر"، فقال لهم لقد صنع لنا فيلماً عظيماً هو "الناصر صلاح الدين" فلماذا لا تعطونه ما يريد؟ قالوا: اعطيناه بالفعل، فقال إذن المسألة ليست مسألة مادية لا بد أنكم ضايقتموه في أمر آخر، وأمرهم قائلاً: أنا أريده أن يكون هنا في مصر يوم 26 تموز يوليو، هذا الحديث تحديداً وصلني عبر الصديق محمد حسنين هيكل ووزير الثقافة المصري آنذاك الدكتور عبدالقادر حاتم، الذي التقى بي في أسبانيا وقال لي: "الريس عاوزك يا جو"، وفي الحقيقة أنا كنت أتمنى الرجوع الى مصر لأن الحنين كان يغمرني اليها، وقررت العودة وقلت للدكتور حاتم: "أنا حارجع ويعمل في اللي هو عاوزه"، وقلت في نفسي إما أن أجد البساط الأحمر في انتظاري أو القبعة الحمراء - وهي القبعة التي يرتديها المحكوم عليهم بالإعدام - يضحك - وعندما عدت لم أجد لا هذا ولا ذاك، وجدت في انتظاري في المطار صديقي الفنان أحمد رمزي. المهم عدت الى استكمال الفيلم من جديد وكتبنا سيناريو جديداً عن قصة لعبدالرحمن الشرقاوي وكوّنا فريق ممثلين جدد هم عماد حمدي وزوزو ماضي ومديحة سالم وسيف الدين وصلاح ذو الفقار. وبعد الانتهاء من تصوير الفيلم أقمنا له عرضاً خاصاً وفوجئت بالكارثة، فالسوفيات لم يعجبهم الفيلم وأتهموني بأني أظهرت النوبة أجمل كثيراً من موسكو ولنينغراد، والمسؤولون المصريون ابدوا غضبهم تجاه الفيلم واتهموني بأني جعلت المهندس الروسي يبدو وكأنه هو الذي بنى السد العالي وقللت من شأن المهندس المصري "عماد حمدي". بل أنهم أبدوا اعتراضهم على أشياء "هايفة": مثلاً اعترضوا على مشهد يسير فيه المهندس المصري مع المهندس الروسي وأثناء السير يتقدم المهندس الروسي ليبدو وكأنه يسير أمام المهندس المصري، قلت لهم: ده عماد حمدي كان مرهقاً اثناء تصوير المشهد. كذلك اعترضوا على مشهد يبدو فيه المهندس المصري في منزله وهو يرتدي "الجلابية" وفجأة يزوره المهندس الروسي فيقوم بارتداء السروال والقميص فوق الجلابية. وقالوا إنك جعلت المهندس المصري يبدو متخلفاً، الأكثر غرابة أن الروس قالوا لي يوجد عندنا في موسكو شوارع جميلة وبها كبائن هواتف لماذا لم تصورها؟. ماذا كان ردك؟ - صرخت في الجميع "إيه ده هو أنا بقال؟ ده عاوز حتة جبنة أكتر من ده". المهم أتى رفض الفيلم من الجهتين ليمزقني خصوصاً أن الفيلم كان عاجبني، وأنا راضٍ عنه، وكانت النتيجة أن وضعوا الفيلم على الرف، وطلبوا مني أن أصور فيلماً جديداً تكون بطلته سعاد حسني، قلت لهم: "يا نهار أبيض فيلم صور بالفعل كيف نغير أبطاله؟ المهم صنعت معجزة وقمت بأخذ المشاهد التسجيلية التي صورناها لعملية بناء السد ومشاهد الممثلين الروس التي صورت في الاتحاد السوفياتي من نيغاتيف الفيلم وأضفتها الى الفيلم الجديد الذي صورناه بالممثلين المصريين الجدد سعاد حسني وعزت العلايلي ومحمود المليجي وبالتالي دمر النيغاتيف، لكني لم أكن سعيداً أبداً بالفيلم "لأنه مش فيلمي" كان "طلبية" اشبه بخدمة توصيل الطلبات الى المنازل، وكأنهم يطلبون "بيتزا" وليس فيلما - في النهاية هذا الفيلم "أنا مليش دعوة به وبنكره تماماً"، لأني كنت بعمل حاجة أنا مش فاهمها. إذن لماذا وافقت على صنع هذا الفيلم؟ - وافقت لأسباب عديدة أولها كوني لم أكن لأريد لأول تجربة للانتاج المشترك بين مصر والاتحاد السوفياتي أن يكتب لها الفشل، ووقتها في مصر لم يكن لدينا سوق للفيلم المصري، وبلد مثل الاتحاد السوفياتي كان لديه نحو 70 ألف صالة عرض سينمائي. اليوم وبعد مرور 21 عاماً وبعد تلف "نيغاتيف" الفيلم كيف بعث الى الحياة من جديد؟ - قبل نحو خمس سنوات اكتشفوا وجود نسخة واحدة "بوزيتيف" موجبة من الفيلم في السينماتيك الفرنسي، ومن حُسن حظي أن الفيلم صور على أفلام خام روسية الصنع وهي بطيئة التلف بالقياس الى الأفلام الاميركية، فالفيلم الروسي لا تتغير ألوانه سريعاً أو يحدث فيه خفوت في الصورة. لذا ظل الفيلم محتفظاً برونقه، واتصل بي السينماتيك الفرنسي وقالوا لي: "حرام ان الفيلم ده يختفي من الوجود وهو فيلم عن السد العالي وليس مجرد حكاية رومانسية"، واقترحوا ان يقوموا بعمل نيغاتيف بديل من هذه النسخة وهو أمر مكلف جداً خصوصاً أنهم سينقلون الفيلم من مقاس 70 ميللميتر الى نيغاتيف 35 ميللمتر، ورحبت بالأمر وقلت لهم سيبقى الفيلم بتاعكم وبتاعي" بما ان اصحاب الشأن في الجانبين المنتجين رفضوه، وبالفعل تم صنع النيغاتيف وانقذ الفيلم من الضياع الأبدي، وأصبح هناك اصل لفيلم "النيل والحياة"، كما اسميه اليوم. أنت سعيد إذن بخروج فيلم "النيل والحياة" الى النور؟ - جداً وسعادتي لا تقتصر فقط على خروجه الى النور بل سببها ايضاً الاستقبال الرائع الذي قوبل به من الجمهور الفرنسي، حتى أنني لم اصدق عيني عندما دخلت الى الصالة التي تعرضه في باريس في حفلة الافتتاح ووجدتها ممتلئة عن آخرها، وكنت أعتقد بأن الجمهور لن يزيد على شخصين أو ثلاثة، وسعادتي كانت غامرة عندما بدأ الجمهور الفرنسي يناقشني بعد عرض الفيلم "كانت مناقشة خطيرة جداً"، وكان هناك افارقة من بين الحضور سألوني عن النوبيين وماذا صنعت الدولة لهم بعد أن غرقت قراهم تحت بحيرة ناصر. "النيل والحياة" يعرض في الوقت نفسه مع فيلم "الآخر" في الصالات الفرنسية؟ - يبتسم شاهين ابتسامة رضا ويقول: لقد دهشت جداً لذلك، وقلت لنفسي: "يا واد خلاص بقى مافيش غير أفلام يوسف شاهين"، هذا الأمر في النهاية جيد وإيجابي جداً، لذلك أنا دائماً أقول ليست هوليوود عاصمة السينما في العالم بل هي "فابريكة" السينما، أما العاصمة الحقيقية للسينما فهي باريس لماذا؟، لأنك تستطيع في كل أسبوع مثلاً أن تشاهد نحو 15 فيلماً اجنبياً في صالاتها، أفلاماً آتية من اندونيسيا وافريقيا وآسيا. اذا أردت أن تدرس العالم وتشعر به اذهب الى باريس. اميركا لا تعرض أفلاماً للأجانب في صالاتها تطوف فقط الجامعات هي التي تعرض هناك أفلاماً أجنبية. هناك 15 فيلماً من اخراجي تطوف حالياً الجامعات الاميركية وهي الأفلام التي عرضت لي في مهرجان "نيويورك السينمائي" العام الماضي، ومع الأسف هي تعرض للنخبة فقط، لماذا لا تشتري اميركا أفلامنا للتلفزيون؟، إن مثل هذا الأمر ربما يساعدني على العمل في فيلمي الجديد "احنا ناس فقرا". هناك مشهد تاريخي ظهر في الفيلم وهو مشهد تحويل مجرى مياه النيل وأعرف بأن له ذكرى خاصة لك مع الرئيس عبدالناصر؟ - اعتقد بأنه من أهم المشاهد التي صورتها حيث أنني استخدمت في تصويره 12 كاميرا وضعت في أماكن متفرقة وكان هناك نحو 500 كاميرا أخرى لتلفزيونات ووكالات أجنبية تصور الحدث. ووقعت في حيرة ماذا لو بدأنا التصوير وتأخر الرئيس عبدالناصر في أن يضغط على الزر ليحدث الانفجار المطلوب لتغيير مسار مياه النيل؟ عندها ستفسد الأفلام التي بحوزتنا دون أن نصور المشهد وجميع المراسلين الاجانب كانوا ينتظرون الاشارة مني للبدء في التصوير، وكان عبدالناصر يتحدث الى ضيوفه ونحن في الانتظار ونعرف اللحظة الحاسمة، وناديت المذيع الراحل جلال معوض وقلت له "روح قول للرئيس عبدالناصر ما يضربش الزرار إلا لما أقوله" وصرخ فيّ عوض "انت مجنون" وشرحت له الأمر وذهب الى الرئيس وأخبره وبالفعل تفهم الرئيس الموقف وبعد لحظات اعطيت الاشارة للرئيس - صارخاً "زرار اكشن" - يضحك شاهين كثيراً - وضغط الرئيس على الرز وتم المشهد، حرام ان مشهد زي ده مايتصورش، تصور ان الفيلم عرض في الاتحاد السوفياتي في نحو 25 ألف دار عرض.