في نيسان ابريل 1996، وأثناء تولي حزب العمل رئاسة الحكومة الإسرائيلية بزعامة شمعون بيريز، شنت القوات الاسرائيلية عدواناً واسع النطاق على لبنان، سمي ب"عناقيد الغضب" استمر 16 يوماً بدءاً من 11/4/1996 حتى 27 منه ولم يتضمن أي هجمات برية وانما اقتصر على القصف المدفعي والجوي. وفي 14/4/1996 قصف الطيران الاسرائيلي محطة لتحويل الكهرباء في الجمهور شرق بيروت التي تتغذى بالتيار من معمل الجية جنوببيروت لانتاج الطاقة الكهربائية، وألحق بها أضراراً فادحة. وفي اليوم ذاته صرح ايهود باراك، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية آنذاك، معلقاً على ذلك: "لن نقبل بأن يعيش سكان كريات شمونة في ظلام دامس بينما أهالي بيروت ينعمون بالضوء". وفي اليوم التالي، 15/4/1996، دمر الطيران الاسرائيلي محطة تحويل الكهرباء في بصاليم شرق بيروت التي تتغذى بالكهرباء من معمل الزوق شمال بيروت لانتاج الطاقة الكهربائية. كما قصف محطة كهرباء في البقاع الغربي، فضلاً عن قصف محولات ومحطات فرعية عدة في الجنوب. وقدر وزير الموارد المائية والكهربائية اللبناني حينها كلفة إصلاح محطة بصاليم بمبالغ تتراوح بين 60 و70 مليون دولار، وكلفة تصليح محطة الجمهور بنحو 10 ملايين دولار. وانتهت "عناقيد الغضب" بتوقيع اتفاق لوقف اطلاق النار عرف ب"تفاهم نيسان"، حل محل "تفاهم تموز" غير المكتوب والمعروف ب"اتفاق الكاتيوشا". وتضمن "تفاهم نيسان" العام 1996 نصاً بأن "لا تقوم المجموعات المسلحة في لبنان بهجمات على اسرائيل بواسطة صواريخ كاتيوشا او أي نوع آخر من الاسلحة"، ونصاً ثانياً بأن "لا تطلق اسرائيل والذين يتعاونون معها أي نوع من الاسلحة على مدنيين أو أهداف مدنية في لبنان". ولم يتضمن الاتفاق المذكور أي نص يمنع استمرار عمليات المقاومة الوطنية اللبنانية في الشريط الحدودي المحتل في جنوبلبنان الذي تطلق اسرائيل عليه "المنطقة الأمنية". واستمرت من ثم عمليات المقاومة ضد الجيش الاسرائيلي وقوات "جيش لبنانالجنوبي" العميلة ملتزمة نصوص "تفاهم نيسان" التي تمنع التعرض للمدنيين طالما استمرت اسرائيل متقيدة بها. ولكن إثر مقتل ثلاثة عسكريين إسرائيليين، بينهم ضابط، ليلة 30/1/1997، قال أفيغدور كهلاني جنرال متقاعد وزير الامن الداخلي في حكومة بنيامين نتانياهو في تصريحات له يوم 3/2/1997، إنه "لم يعد من الممكن ان يتعرض جنودنا للقتل كالطيور في لبنان من دون أن نتحرك"، واقترح على الحكومة اللبنانية وحزب الله "انسحاباً تدريجياً" من "المنطقة الامنية" من خلال ترتيبات بشأن جنوبلبنان بمساعدة الولاياتالمتحدة ومن دون الحاجة الى سورية. وأوضح انه اذا لم توافق الحكومة اللبنانية على هذا الاقتراح فإنه توجد "وسيلة اخرى هي تصعيد عملياتنا بتدمير المحطات الكهربائية في لبنان مقابل كل قتيل من جنودنا وتدمير الطرقات مقابل كل قتيلين والجسور مقابل مقتل ثلاثة جنود". وعقب مقتل عائلة لبنانية، مؤلفة من أم وستة اطفال وشخص آخر حين أغارت طائرات اسرائيلية على بلدة جنتا بالقرب من بعلبك مستهدفة منزلاً في مزرعة على انه موقع لحزب الله، في 22/12/1998، ورد حزب الله بقصف عدد من المستوطنات في شمال اسرائيل بصواريخ الكاتيوشا ما اسفر عن جرح 13 من سكانها، جدّد افيغدور كهلاني مطالبته "بقصف البنى التحتية اللبنانية لإجبار الحكومة اللبنانية على فرض سيطرتها على المنظمات وإعادة الهدوء والنظام الى الجنوباللبناني". واضاف ان "تدمير البنى التحتية في لبنان سيقنع الحكومة اللبنانية بالجلوس الى طاولة المفاوضات مع اسرائيل لايجاد حل"، مشيراً الى ان "اسرائيل تسعى الى الخروج من المنطقة الامنية في الجنوب على ان تحل محلها قوات متعددة الجنسيات"، واكد ان "من غير المعقول ان يضطر سكان شمال اسرائيل الى النزول الى الملاجىء بينما يعيش سكان بيروت يومهم وكأن شيئا لم يحدث". وإثر مقتل 3 ضباط اسرائيليين في كمين في منطقة بركة الجبور - ميدون، في البقاع الغربي، شمال القطاع الشرقي من المنطقة الامنية في جنوبلبنان، فجر يوم 23/2/1999، كرّر كهلاني تهديداته بضرب البنية التحتية في بيروت وتعطيل شبكة الكهرباء لحملها على وقف هجمات المقاومة اللبنانية. كما هدّد مسؤولون عسكريون إسرائيليون بالرد "في الوقت والمكان المناسبين". بينما نفى المستشار الإعلامي لنتانياهو، رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك، وجود خطة اسرائيلية لتنفيذ عملية عسكرية في جنوبلبنان. وعقب قصف مدفعي وجوي اسرائيلي في الفترة بين 20 و23 حزيران يونيو 1999 على عدد من قرى الجنوباللبناني، اسفر عن جرح سبعة مدنيين، اطلقت المقاومة اللبنانية عدداً من صواريخ الكاتيوشا على مستوطنتي شلومي وكريات شمونة عصر 24/6/1999، أسفرت عن إصابة جندي اسرائيلي واربعة مستوطنين بجروح، وتعرض عدد آخر لصدمات عصبية، كما نشبت حرائق عدة في المستوطنات واصيبت شبكة الكهرباء في احداها. وعلّق شاؤول موفاز، رئيس الاركان الاسرائيلي، على قصف المقاومة للمستوطنتين المذكورتين قائلاً: "ان اصابة امرأة يوم 24/6/1999 لا يستدعي هذا الرد الغاضب". وأضاف أنه يعرف كيف يرد، وان "القيادة السياسية كانت ترفض في السابق إعطاء الأوامر بالرد الحاسم، ولكن الآن انا الذي املك قرار الرد". وفي اليوم نفسه 24/6/1999، قال أيهود باراك في اجتماع لقائمة "اسرائيل واحدة": "أود باسمي واسم حزبي ان أعبر عن دعمي لسكان الشمال، الذين تعطينا مرونتهم ومرونة جيش الدفاع، القوة للتفاوض على سحب جيش الدفاع من لبنان خلال السنة الاولى من ولاية الحكومة". ونفذ موفاز رده الحاسم بعد ساعات قليلة من تهديده المذكور، وفقاً لقرار نتانياهو السياسي الذي قال "إن حزب الله مخطىء اذا كان ينوي تصعيد الهجمات على اسرائيل خلال فترة انتقالية". ومن ثم قام الطيران الاسرائيلي، بدءاً من الثامنة والنصف من مساء 24/6/1999، بقصف محطتين لتحويل الكهرباء في الجمهور وبصاليم في بيروت، فضلاً عن قصف ثلاثة جسور على الطريق من بيروت الى الجنوب، ومحطة اتصالات هاتفية ومبنى قرب بعلبك في سهل البقاع، ونتج عن ذلك مقتل ثمانية مدنيين وإصابة 62 آخرين. وهكذا تبنى نتانياهو في الايام الاخيرة من حكومته ما طالب به وزير الامن الداخلي افيغدور كهلاني منذ العام 1997 من قصف البنية التحتية اللبنانية، على رغم انه لم يقم بذلك طوال فترة حكمه! وعاد كهلاني، في اليوم التالي 25/6/9199، الى المطالبة مجدداً بقصف البنية التحتية في بيروت، كما طالب بضرب المصالح السورية في لبنان. ولقد حاول باراك التنصل من مسؤولية عمليات قصف البنية التحتية التي امر بها نتانياهو، ولكن المحلل العسكري الاسرائيلي المعروف، زئيف شيف، علق على ذلك في صحيفة "هآرتس" في 27/6/1999، فقال: "إن التقرير القائل إن رئيس الوزراء الاسرائيلي المنتخب أيهود باراك عارض قصف البنية التحتية في لبنان خاطىء. فباراك تلقى تقريراً دقيقاً عن العملية والاهداف التي سيتم قصفها، واذا كان رغب في التعبير عن استيائه منها فكان من الممكن له ان يفعل ذلك بسهولة. لقد شدّد باراك على افتقاره الشكلي لعملية صنع القرار المتعلق بالقصف المذكور، ولكن لم يكن هناك ما يمنعه من التعبير عن رأيه هذا علناً". واكد شيف زئيف أن القصف الجوي استهدف محطتي تحويل كهرباء وليس محطات انتاج الطاقة الكهربائية ذاتها يقصد محطتي الجية والزوق. وقال: "إن من اختار الاهداف يعرف ان اعادة بناء محطة توليد كهرباء مسألة تستغرق سنوات. وليس الحال كذلك بالنسبة الى محطات التحويل". وحول جدوى وفاعلية عملية "عناقيد الغضب" المصغرة التي قامت بها حكومة نتانياهو ضد لبنان اخيراً كتب رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية تعليقاً بعنوان "التصعيد ليس حلاً"، نشر في 27/6/1999، قال فيه: "انه من المفهوم عندما لا ينعم آلاف المدنيين الذين يعيشون على طول الحدود الشمالية بالسلام والهدوء الذي يستحقونه، وحين يجد جيش الدفاع الاسرائيلي صعوبة في منع هجمات الكاتيوشا، ان يجد السياسيون انفسهم في مأزق فيقرروا السماح برد فعل لا يشكل اكثر من انتقام او ثأر". وأضاف "ولكن قصف محطات بيروت للطاقة الكهربائية أو تدمير جسرين لا يحرر مستوطني كريات شمونة من العيش في الملاجىء المضادة للقذائف، ولن يدفع حزب الله او الحكومة اللبنانية الى رفع العلم الابيض". واستطرد موضحاً ان "التفاهم الذي تم التوصل اليه بين اسرائيل وحزب الله عقب عملية "عناقيد الغضب" حاول ان يحد من الامتداد الجغرافي للحرب ومنعها من الوصول الى المناطق السكانية لكل من اسرائيل ولبنان. ولكن ضمن هذا الاطار، أصبح المدنيون، على نحو سخيف، رهائن لأخطاء كلا الطرفين". وتوصل التعليق الى استنتاج بأن "توسيع نطاق الاهداف قد يلبي متطلبات الانتقام والثأر رداً على قتل الكاتيوشا لمستوطني كريات شمونة، ولكن من الصعب وصفه بأنه يشكل ردعاً. إذ ان كسر دائرة العنف لا يمكن ان يؤسس على التصعيد. إضافة الى ان سنوات من العمليات البرية لجيش الدفاع الاسرائيلي والاشتباكات اليومية في جنوبلبنان تثبت ذلك". وأكد الكاتب أن "الانسحاب من لبنان يشكل الحل النهائي للمشكلة، لأنه سيخلق خط دفاع شرعياً ويزيل الحاجة الى وجود جيش الدفاع الاسرائيلي للقتال في مناطق يعيش فيه المدنيون جنباً الى جنب مع رجال المقاومة". وختم موضحاً ان وعد رئيس الوزراء أيهود باراك بالانسحاب من لبنان خلال سنة يتضمن "اعترافاً بأن المنطقة الأمنية أصبحت تمثل عبئاً ولم تعد توفر سلاماً للجليل، بل أصبحت خطراً على مستوطني الشمال". وهكذا يتضح لنا ان عملية "عناقيد غضب" نتانياهو لن تشكل رادعاً للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي للشريط الحدودي في جنوبلبنان، مثلما آلت اليه من قبل عمليتا "تصفية الحسابات" العام 1993 و"عناقيد الغضب" العام 1996، وما أسفرت عنه كل عمليات القصف المدفعي والجوي الاسرائيلية في الجنوباللبناني والبقاع التي سبقتهما او تخللتهما أو أعقبتهما حتى الآن... وذلك الى أن ينسحب الجيش الاسرائيلي من الجنوباللبناني وفقاً للقرار 425. * خبير استراتيجي مصري، رئيس تحرير فصلية "الفكر الاستراتيجي العربي" سابقاً.