اما وقد بدأ رئيس الوزراء الاسرائيلي جولاته فان الكتاب المحبب للقراءة هو "ايهود باراك، الجندي الأول" سوء الترجمة لا يلغي الفائدة!. انه السيرة الذاتية المجازة لرجل سيخيم ظله على الشرق الاوسط اي على حياة كل منا في السنوات المقبلة. الكتاب هو، عملياً، صورة باراك في مرآة نفسه لا يخلو من دعاية، ولذا لم يكن غريباً صدوره عشية انتخابات 17 ايار مايو. ان اختيار هذا الشكل الترويجي كتاب ينم عن جانب من الشخصية. فباراك المتلعثم بعض الشيء، الحاد على قدر من الخجل، كان يدرك ان التلفزيون خصمه. وبما ان الحملات الاسرائيلية "تتأمرك" اكثر فأكثر كان عليه، قدر الامكان، ان يتجنب المواجهات مع ابن التلفزيون البار، وصنيعته بمعنى ما، بنيامين نتانياهو. اراد باراك لفوزه، منذ البداية، ان يكون انتصاراً على التلفزيون. لذا رفض المناظرات المباشرة. وتغيب عندما دعي مع اسحق موردخاي ونتانياهو. غير انه كان الغائب - الحاضر. قيل يومها ان وزير دفاع سابقاً أردى رئيس وزرائه فاستفاد ذلك الذي لم يحضر. واعتبر البعض، في ذلك اليوم، انه لا يمكن صناديق الاقتراع ان تكون اكثر رحمة بنتانياهو من الشاشة. ستبقى صورة واحدة من حملة باراك الانتخابية: شاب مشمّر الساعدين يقف عند باب طائرة شاهراً مسدسه. الطائرة هي "سابينا" والمناسبة تحرير الرهائن في 72. وفي هذه الصورة رسالتان. الأولى هي: انا باراك ضامن أمن اسرائيل والاسرائيليين. اما الثانية فهي: فتّشوا عن الشخص الغائب. والشخص الغائب هو، بالضبط، بنيامين نتانياهو الذي شارك في العملية تحت امرة باراك. وهكذا فان الرسالة الثانية للصورة نفسها تصبح: اذا كانت القضية قضية أمن فالواجب، عند الاختيار، تفضيل القائد على الجندي! عندما يقال باراك يقال انه الجنرال الأكثر حيازة للأوسمة في تاريخ الجيش الاسرائيلي. هذا صحيح، غير ان اسراراً كثيرة تحيط بظروف عدد من هذه الأوسمة. ما هو مؤكد هو ان وراء كل وسام هزيمة عربية. هزيمة محدودة طبعاً نزلت بضابط عربي مقابل ولكنها هزيمة. ولذا ليس غريباً ان يكون الرجل ممتلئاً ثقة بالنفس ومراهناً انه آن الأوان لترجمة حزمة الانجازات هذه في عمل تاريخي كبير. وهو لا يخفي ذلك. لذا خاطب الكنيست قائلاً: "ان نصر الصهيونية لن يكون كاملاً حتى يتحقق السلام الآمن والشامل، مع مصر والأردن وسورية ولبنان والفلسطينيين مع الحفاظ على المصالح الحيوية لدولة اسرائيل". السلام، في رأيه، وبشروطه، هو تمام الصهيونية حيث يصبح الخطر جزءاً مما قبل التاريخ وتستثمر اسرائيل فوائض تفوقها الاجمالي في ترتيبات تضمن لها "المصالح الحيوية". هذا هو خلافه مع نتانياهو و"ليكود" استطراداً. فهو يسخر من الفكرة القائلة بأن اسرائيل قلعة محاصرة بأعداء اقوياء وبجو عالمي من السلبية. واذا كانت هذه "البارانويا" تدفع الى التعبير عن القوة بشكل فظ احتلال، قمع، الخ…، فان شعور الثقة يشجع على تعديل في اساليب الهيمنة. وهنا، بالضبط، ترتسم حدود ما يمكن لباراك ان "يعطيه" وما سوف يطالب به. لن يكون الرجل مفاوضاً سهلاً، ليس لأنه حاد الذكاء وممسك بالملفات، وليس لأنه افضل من قرأ الخرائط في الجيش الاسرائيلي كله، كلا. لن يكون مفاوضاً سهلاً لأنه حريص بالفعل على ان لا يذهب في التسوية الى مدى يهدد النسيج الاسرائيلي الداخلي بالتصدع ويجعل من شعار "اسرائيل واحدة" اكذوبة. اراد ضم "ليكود" الى حكومته ولم يكن يناور. ولما لم ينجح وسّع قاعدتها قدر الامكان واصلاً بذلك الى تخوم اليمين الأقصى ومحتوياً غلاة الاستيطانيين. وليس هذا هو المؤشر الوحيد لتصلبه. لقد تربى باراك في نوع من الكيبوتسات يعطي الأرض والأمن اهمية قصوى. واذا كان تنقل في وحدات الجيش كلها من "سييرت متكال" الى رئاسة الاركان مروراً بالاستخبارات وشعبة التخطيط والمدرعات… زميلاً لضباط بعضهم حوله الآن ينتمون الى التيارات السياسية الرئيسية. صحيح انه كان معجباً باسحق رابين ولكن الصحيح، أيضاً، ان ارييل شارون كان مثالاً أعلى له. ان اسحق شامير وهو من هو عيّن باراك رئيساً للأركان. وعندما استلم، قبل ايام، وزارة الدفاع من موشيه ارينز تذكر على الأرجح انه رفعه في السلم العسكري، وكذلك فانه عندما ودّع نتانياهو في مقر رئاسة الوزراء، عادت الى مخيلته علاقته القديمة والوثيقة به واعجاب منقطع النظير بأخيه يوني والصداقة التي جمعت والده، في الاربعينات، الى والد الشقيقين والداعية المتحمس لافكار جابوتنسكي! كانت المواقف السياسية لباراك، على ندرتها، عندما كان في الجيش، متطرفة كلها: أيّد غزو لبنان، دافع عن شارون بعد صبرا وشاتيلا، طالب بميليشيات طائفية في الشريط الحدودي، شكّل "المستعربين" لضرب الانتفاضة، رفض "الحياد" في حرب الخليج، مارس ابعاد الفلسطينيين والعقوبات الجماعية، امتعض من اوسلو، رفض الانسحاب الكامل من الجولان، الخ… وعندما انضم الى "المستوى السياسي" بطلب من رابين خالفه فقط من عن يمينه رافضاً التصويت على "اتفاق القاهرة". هذه "عيّنة" عن باراك. ولكن طالما ان المزاج مزاج تفاوض فلا أحد يتمتع بترف تحديد الطرف الآخر. يمكن على الاقل الا نجعل زياراته الى عواصمنا مثل عملياته الخاطفة فيها!