تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الأربعون لوفاة مؤسس الطريقة "السليمانية" الصوفية التركية سليمان حلمي توناهان 1888-1959. هذه الطريقة التي لا بد أن تذكر ويستحضر اسم مؤسسها كلما تطرق الحديث إلى ذكر الحركات والجماعات والطرق الإسلامية في تركيا أو في العالم الإسلامي بسبب أهميتها وخطورة دعاويها، ولا سيما تلك المتعلقة بمنهج التكفير وابتداع البدع التي تتعارض وقواعد الدين الحنيف. وربما جاز القول إن "السليمانية" هي أول جماعة إسلامية تركية معاصرة تؤسس وتسير على اتجاه التكفير والتطرف... إلى حد أنها سنت مبدأ "كل من ليس منا فهو كافر"! بيد أن للجماعة، أو الطريقة "السليمانية"، حسنات وايجابيات لا بد أن تذكر، في مقدمها أنها أول وأكبر جماعة إسلامية تتصدى للثورة الكمالية والاتاتوركية التي ألحقت بالإسلام والمسلمين في تركيا أضراراً تاريخية هائلة. ولد مؤسس "السليمانية" في إحدى القرى البلغارية ذات الكثافة السكانية المسلمة والتركية العام 1888 عندما كانت الحركات السياسية الارهابية البلغارية تشن حرباًَ ضارية على الأقلية المسلمة، وتحملها على الهجرة. وكان الفتى سليمان ممن اضطر للرحيل عن وطنه مع أفراد أسرته وقريته، لاجئين إلى اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية التي كانت في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي تتداعى وتلتفظ أنفاسها الأخيرة بسبب الاضطرابات الداخلية والصراعات الخارجية. وفي هذا المناخ المتوتر درس سليمان بن حلمي الشريعة الإسلامية في مدارس اسطنبول، وتأثر بالطريقة الصوفية الكبرى النقشبندية بعد أن تتلمذ على يديّ أحد أقطابها الكبار المشهورين في تلك المرحلة ويدعى الشيخ أحمد فاروق سرهندي. وهو أيضاً رجل دين من أصل غير تركي. بدأ نجم الشيخ سليمان حلمي يلمع مع الثورة الكمالية وإقدام زعيمها مصطفى كمال على إلغاء نظام الخلافة العام 1923 وخلع السلطان الأخير محمد السادس. فقد أخذ يعارض علانية وبجرأة اجراءات وتشريعات الثورة الجديدة المعادية للدين، بدءاً من منع الآذان باللغة العربية، وإجبار الأئمة على خلع الملابس التقليدية وارتداء الملابس الأوروبية الحديثة... وانتهاء بإلغاء الأبجدية العربية واغلاق الكتاتيب والمدارس الدينية، ومحاربة الطرق الصوفية ومصادرة أملاكها وأوقافها ومحاولة القضاء عليها تماماً...الخ. وقادت هذه المعارضة صاحبها إلى السجون ثلاث مرات متتالية في عهد مصطفى كمال وخليفته الرئيس عصمت اينونو. ولكنه بفضلها أصبح زعيماً معروفاً، التف حوله المؤيدون والأتباع بأعداد كبيرة وصلت إلى عشرات الألوف في ذلك الوقت، ثم ما لبثت أن تطورت حتى بلغت مئات الألوف في العقود القليلة الماضية، وأضحى لها مؤسسات ومنظمات قوية منتشرة في عموم أنحاء تركيا، ودول المهاجر الأوروبية... إلى حد أن البعض يعتبرها حالياً أقوى الجماعات الإسلامية ذات الأنشطة المتعددة والتي تتراوح بين التقاليد الصوفية القديمة وبين الممارسات السياسية الحديثة، فضلاً عن الأنشطة الدينية والدعوية وكذلك الثقافية والتجارية، إذ ان لها نفوذاً كبيراً في الأوساط الاقتصادية والمالية التركية داخل تركيا وخارجها. كما ان لها نفوذاً سياسياً في معظم الأحزاب التركية الكبيرة، بما فيها العلمانية، كحزب الوطن الأم وحزب الطريق الصحيح. لقد عارض الشيخ ورجاله بشدة وقوة سياسة التحديث التي أدخلها مصطفى كمال وخلفاؤه من بعده، وتميزوا بردود أفعال متطرفة ومتزمتة في مقابل تلك السياسة المتطرفة في علمانيتها وطابعها الأوروبي التغريبي، وحمل هذا الوضع الشيخ على اعتبار تركيا الجمهورية العلمانية "دار حرب" يجوز فيها للمسلمين الخروج على الحاكم وقتل الكفرة. وسارت الجماعة على هذا النهج بعناد وتصميم. وظل الشيخ إلى لحظة وفاته العام 1959 حيث دفن في اسطنبول، بناء على وصيته، يدرس تلاميذه ومريديه أفكاره وفتاويه العصرية ذات المضمون السياسي، جنباً إلى جنب مع تقاليد طريقته الصوفية التي استحدثها وابتدعها من مزيج من الأساليب المستوحاة من الطرق الأخرى وبعض المستحدثات التي أوجدها. وبعد وفاة مؤسسها المذكور، انتقلت زعامتها إلى أحد أفراد عائلته المقربين منه المدعو كمال قاجار الذي نجح بالفعل في المحافظة على بنية الجماعة وتماسكها، بل ان الفضل الأكبر يعود إليه في تحديث بنيتها التنظيمية، وتوسيع نفوذها في خارج تركيا حيث أصبح لها شبكة عالمية واسعة من المؤيدين والاتباع المخلصين في المانيا والسويد وفرنسا وبلجيكا وكل مكان من أماكن الوجود التركي. وأوجد لها قاعدة اقتصادية مستقلة ومتنامية بفضل عملية الاستثمار المبرمج خارج تركيا حتى لا تقع تحت يد السلطات التركية وتقلبات الظروف السياسية فيها. كما نجحت الجماعة في بناء جسور قوية بينها وبين العديد من المنظمات المسيحية العالمية في أوروبا تستغلها في تقوية مراكزها وعناصرها في الدول الأوروبية لخدمة مصالحها. ولكن هذه العلاقات تسلط الضوء من ناحية أخرى على التناقضات العميقة في فكرها وسلوكها الشرعي والسياسي. فهي تصدر "فتاوى" ضعيفة ولا أساس قوياً لها، كإباحة الاتجار بالمحرمات للمسلمين في أوروبا، والتعامل بالربا، وإسقاط بعض الفرائض. ولكنها في مقابل هذا التساهل الكبير في بعض الأصول الشرعية، تتشدد إلى حد التطرف في النظرة إلى الجماعات والمذاهب والتيارات الإسلامية الأخرى، وكذلك بعض كبار الأئمة والعلماء القدامى والمحدثين. فقد كفرت الإمام ابن تيمية، ومن المعاصرين كفرت المفكر المصري سيد قطب. وهي تؤمن بالكثير من الضلالات المتوارثة عن الطرق الصوفية التركية، كالقول بأن باب الاجتهاد يجب أن يغلق إلى يوم القيامة، وان فريضة الجهاد سقطت عن المسلمين جميعاً، ولا يجب على المسلم المعاصر سوى التفرغ للعبادة وشؤون العقيدة والروح والبعد الكامل عن السياسة وشؤون الحكم، أنها تفسد نقاء الروح واخلاص المسلم لربه ودينه. وربما كان من أسوأ البدع التي يتمسك بها أتباع "السليمانية" حتى اليوم التقديس المفرط لشخص مؤسسها بعد أربعين سنة على رحيله، في أثناء ممارستهم لطرقهم الصوفية، خصوصاً أثناء حلقات الذكر، إذ أنهم يحملون صوره ويطوفون بها معتقدين بأن حلاوة الايمان والنشوة التي تحل في قلب المؤمن خلال هذا الطقس المبتدع تتدرج نازلة من السماء عبر قلب الرسول عليه الصلاة والسلام وقلوب الخلفاء الراشدين وصحابته، ثم قلوب الأولياء الصالحين من أمة الإسلام، ثم تصل أخيراً إلى قلب الشيخ "القطب" سليمان، ومن بعده إلى قلوب أتباعه ومريديه. ونظراً إلى هذه التناقضات والبدع التي انتشرت وكثرت في أفكار السليمانيين في تركيا، فإن تيار الإسلام السياسي المعاصر ممثلاً بمؤيدي الزعيم السياسي نجم الدين أربكان على خلاف وتناقض كبيرين مع الجماعة "السليمانية". واستطاعت الأحزاب العلمانية المعادية استغلال "السليمانية" ضد الإسلام السياسي في الأعوام الأخيرة، خصوصاً لجهة شق القاعدة الشعبية وتمزيقها. لقد تلاشى البعد السياسي ل"السليمانية" الذي تجسد في مقاومة الكمالية، وبقي منها التطرف الديني والتشدد والانغلاق والبدع البالية!