في انتخابات الكنيست التي تمت عام 1977 وبعدها، تناوب الحزبان الكبيران، العمل وليكود، على ادارة دفة الحكم في اسرائيل، وظلت لهما غالبية مقاعد الكنيست من دون منافس. وشكلا في بعض الاحيان حكومات وحدة وطنية. وكان حجمها الكبير يغطي على صراعات المجتمع الاسرائيلي المتنوعة، وكانت الأحزاب الصغيرة، الدينية والعلمانية، ديكوراً يستخدم لاستكمال تجميل صورة اسرائيل كدولة ديموقراطية، الا ان نتائج انتخابات الكنيست الخامسة عشر، الشهر الماضي، انهت هذه القاعدة وازاحت الستار عن انقسامات دينية وعرقية تنخر في المجتمع الاسرائيلي، كما أظهرت استقطاباته الداخلية الحادة وبيّنت عودة الاسرائيليين بقوة الى جذورهم الدينية والعرقية والطائفية. فظهرت اسرائيل مجتمعاً فسيفسائياً يتكوّن من مجموعات غير متجانسة لم تتخل عن انتمائها السابق. فيه تنظيمات صغيرة كثيرة تعبر عن مصالح اجتماعية ضيقة لفئات محددة. صعد دورها على حساب الأحزاب الكبيرة. ولا يوجد في اسرائيل الآن حزب يمكن ان نطلق عليه حزب الغالبية، ولم يعد بمقدور الحزبين الكبيرين معاً تشكيل حكومة وحدة وطنية تحظى بغالبية الكنيست من دون الاستعانة بالأحزاب الصغيرة. وأي نظرة موضوعية فاحصة لتركيبة المجتمع الاسرائيلي تكشف ان انقساماته الدينية والعرقية ليست حديثة وانما كانت كامنة تحت السطح منذ تأسيس دولة اسرائيل. لكن حكومات اسرائيل المتعاقبة ومفكرو الحركة الصهيونية نجحوا في خلق انتماء وولاء موحد لدولة اسرائيل بين اليهود، لا يكفي لتغطية فشلهم في صهر انتماءاتهم العرقية والطائفية في بوتقة واحدة صلبة، ناهيك عن فشلهم في أسرلة "عرب اسرائيل" الذين ظلوا ينظرون اليها كدولة اغتصاب سلبت ارضهم وهجرت شعبهم. لا شك في ان الخطاب السياسي العربي الرسمي المعتدل، وعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت منها، من كامب ديفيد 1978 حتى واي ريفر 1998 كان لها اسهامها في دفع التناقضات العرقية والدينية الكاملة في المجتمع الى سطحه. فاتفاقات السلام اعطت الاسرائيليين شعوراً بالأمان وشجعتهم على الاسترخاء، وخف مفعول عقدة الأمن التاريخية في توحيد المجتمع الاسرائيلي في مواجهة الخطر الخارجي. وجُرد منظرو الصهيونية من استغلال عقدة الخوف من العرب الذين "يسعون الى تدمير دولة اسرائيل ورمي اليهود في البحر". وكان عامل الزمن جرد الجيل الجديد من عقدة المحارق التي ارتكبها النازيون في الثلاثينات والاربعينات بحق اليهود الاوروبيين. الى ذلك فتح قانون انتخاب رئيس الوزراء مباشرة من الشعب طرقاً وقنوات متعددة امام التناقضات الكامنة لتعبر عن نفسها بشكل فاقع وعدواني احياناً. وقلل من قيمة التصويت للأحزاب الكبيرة. وأعطى للفرد والعائلة والطائفة والانتماء العرقي القديم والمصالح الخاصة قيمة كبيرة على حساب قيمة الحزب، أسوة بالشعوب العربية وبلدان الشرق الاوسط. وادراكاً منهم لهذه الحقيقة تنافس قادة الحزبين الكبيرين في الانتخابات الاخيرة على استقطاب اصوات اليهود الشرقيين. ووضع حزب العمل شخصية شرقية بارزة شلومو بن عامي تتمتع باحترام اليهود الشرقيين، في رأس قائمته الانتخابية، وأكمل توجهه وتحالف مع حركة "غيشر" بزعامة ديفيد ليفي التي تمثل قسماً من اليهود الشرقيين. ووضع حزب ليكود موشي كتساب، وهو شرقي ايضاً، في موازاة بن عامي. وتنازل الجنرال شاحاك اشكنازي عن رئاسة قائمة حزب الوسط لمصلحة الجنرال الشرقي اسحق موردخاي. يظهر التدقيق في اتجاهات التصويت ان الناخب الاسرائيلي صوّت لرئيس الوزراء، ولم يصوّت لحزب الرئيس، بل للفرد والكتلة والحزب الذي يدافع عن مصالح المجموعة الدينية والعرقية التي ينتمي اليها. وفي خضم معركة الطوائف والأقليات صوّت المهاجرون الروس، يهوداً وغير يهود، للحزبين الروسيين "اسرائيل بعليا" بزعامة شارانسكي، و"اسرائيل بيتنا" بزعامة ليبرمان. وارتفع عدد الأحزاب الممثلة في الكنيست الى 15 حزباً. وصعد نجم حركة المتدينين "شاس" التي تأسست اواسط الثمانينات كحركة اصولية دينية تمثل "السفرديم"، وكتنظيم سياسي هدفه خدمة مصالح اليهود الشرقيين ولا يتعاطف مع الأحزاب الغربية، وفاجأ جميع المراقبين وخبراء استطلاعات الرأي في صعوده القوي، حتى انه كان الرابح الاول في الانتخابات رغم الاشكالات القضائية التي اثيرت بشأن زعيمه أرييه درعي. اكتسح "شاس" معاقل ليكود العريقة وبخاصة في مدن التطوير، وهي المدن الأكثر فقراً وتشهد معدلات بطالة عالية. واحتل بجدارة الموقع الثالث في الكنيست وبات ينافس ليكود على الموقع الثاني. تقلص فارق الاصوات بينهما الى مقعدين وأقل من 40 ألف صوت، وصار ينافسه بقوة على الجمهور التقليدي الشرقي. وتؤكد مراجعة معدلات نمو قوة "شاس" الانتخابية انه قوة نشيطة صاعدة، زاد قوته من 4 نواب الى 10 في انتخابات 1996، ومن 10 الى 17 عام 1999. واذا كان القاسم المشترك لناخبي "شاس" هو شرقيتهم واحتجاجهم على وضعهم المتدني اكثر من اصوليتهم، وبالتالي فإن التصويت له لا يعني بالضرورة التصويت لمفاهيمه الدينية والدنيوية، فذلك لا يلغي انه مرشح بجدارة لأن يصبح الحزب الثاني في الانتخابات المقبلة، اذا احتفظ فقط بنصف طاقته وقوته النامية، وواصل "السفارديم"، كما هو متوقع، دفاعهم عن مصالحهم ومعتقداتهم وثقافتهم في وجه هجمة "الاشكناز". الى ذلك فإن مشاركة "شاس" في حكومة باراك، الآن أو لاحقاً، توفر له الامكانات المادية اللازمة والظروف السياسية الأنسب لمواصلة التقدم والصعود، وبقاؤه في المعارضة لا يعني بالضرورة اضعافه بل قد يعني العكس ايضاً، ويزيد من شعوره بالاضطهاد ويقوي وحدته وتماسكه الداخلي، وينمي تعصب جمهوره ضد مضطهديه الاشكيناز. وما من شك في ان "شاس" يشكل ظاهرة خاصة في المجتمع الاسرائيلي، فهو حزب يعادي اليهودية الاصلاحية، ويسعى الى سيطرة الحاخامات المتزمتين على الحياة السياسية في اسرائيل. اعضاؤه في معظمهم يهود عرب فقراء، قدموا من شمال افريقيا ينظر لهم اغلبية اليهود الغربيين باحتقار ويعتبرونهم متخلفين حضارياً وثقافياً. لا يشاركون بقية المجتمع الاسرائيلي المفاهيم القومية ويعتبرون انفسهم اقلية وسط مجتمع علماني. ولا يشعرون بعقدة التفوق العرقي على العرب بمقدار ما يشعرون بتمييز عرقي تجاههم داخل المؤسسة السياسية الاسرائيلية. ولا يفتخرون بدولة اسرائيل باعتبارها دولة ديموقراطية تعتز بوحدانيتها في الشرق الاوسط. وبعد الانتخابات الاخيرة اشتد العداء بين "شاس" والعلمانيين، إذ شكل معضلة لحزب العمل بعدما اصبح قوة سياسية رئيسية منافسة مؤثرة في المجتمع الاسرائيلي ترتكز الى قاعدة شعبية واسعة، ولم يعد حزباً ملحقاً. وزاد القلق منه في اوساط العلمانيين خصوصاً "ميرتس" بزعامة يوسي سريد، و"شينوي" الجديدة بزعامة الصحافي بليد، ورجال القضاء والقانون اذ يبدي "شاس" عداء مباشراً وصريحاً للنظام الديموقراطي في اسرائيل، ويبدي استهتاراً علنياً بنظام القضاء في اسرائيل وبخاصة محكمة العدل العليا ولا يعترف بدولة القانون ويعطي الأولوية لقضايا الديانة اليهودية، ويدعو الى اعتماد قوانين الشريعة اليهودية وأحكام رجال الدين بدلاً من القوانين الموضوعة، ويصفه بعض العلمانيين دولة داخل الدولة اكثر منها حركة سياسية. واذا كان من حق الاحزاب العلمانية، وضمنها قوى السلام في اسرائيل، ان تقلق من صعود التيار الديني الأصولي، فمن حق الفلسطينيين ان يختلفوا معها حول اولوياتهم الجديدة، ومعايير اصدار الاحكام على مواقف القوى وضمنها معيار الموقف من "شاس" ومشاركتها في الحكومة. فالمعيار عند العرب والفلسطينيين هو الموقف من الحقوق العربية، ومن الاحتلال ومرتكزه الرئيسي الاستيطان، وما عدا ذلك بما فيه تعريف من هو اليهودي ووضع دستور الدولة… الخ يحتمل التأجيل. والأولوية عندهم كانت ولا تزال لمسألة صنع السلام العادل والشامل في المنطقة، واستعادة حقوقهم وارساء أسس التعايش بين العرب والاسرائيليين بمختلف انتماءاتهم العرقية الدينية وتناقضاتهم الداخلية. والسلام لن يتحقق تلقائياً في عهد باراك، ومواقف قيادة "شاس" معتدلة فيما يتعلق بالتسوية السياسية مع العرب والفلسطينيين، وزعيمه الروحي عوفاديا يوسف اصدار فتوى خلاصتها تفضيل حياة اليهودي على التوسع في الأرض. وأظن ان مشاركته في الحكومة يسهل تنفيذ الاتفاقات الموقعة ويسهل التوصل الى اتفاقات على كل مسارات التفاوض، بعكس الآخرين "ليكود ومفدال" العلمانيين المتطرفين. وبقاؤها خارج الائتلاف الحكومي يعني دفعه نحو التطرف السياسي واتخاذ مواقف مشاكسة عندما تقترب الأطراف من الاتفاقات. وتقدم عملية السلام على مساراتها الثلاثة او احدها، وتوسيع هامش الانفتاح السياسي والاقتصادي والثقافي العربي والفلسطيني عليه يقوي اتجاه السلام في صفوفه، حيث يجد اعضاؤه مصلحة مباشرة في تطبيع علاقات اسرائيل مع العالم العربي. فالسلام يحيي حقوقهم القديمة في الدول العربية والتطبيع ينعش ثقافتهم وتراثهم الشرقي الذي يحرصون عليه جيلاً بعد جيل. والتجربة اللبنانية - الفلسطينية في لبنان وأكدت ان سياسة العزل والمقاطعة تأتي بنتائج عكسية وتأجج الصراع الداخلي. ولا يضعف المجموعات الطائفية بل يوحدها ويزيدها شراسة في الدفاع عن مصالحها. وبصرف النظر عن النتائج النهائية للمعركة الجارية في اسرائيل بين العلمانيين والمتدينين، والاشكيناز والسافرديم فإن المصالح العربية العليا تفرض، في هذه المرحلة، شن هجوم سلام منظم على المجتمع الاسرائيلي، هدفه اضعاف القوى الصهيونية المتطرفة، والتفاهم مع القوى الاسرائيلية المؤيدة للسلام مع العرب، والمؤمنة بالتعايش مع الفلسطينيين في اطار دولتين لشعبين على ارض فلسطين المقدسة. وايلاء العلاقة بشاس اهتماماً خاصاً باعتباره واحداً منها، سواء شارك في حكومة باراك او بقي في المعارضة. وبامكان القوى الشعبية والمنظمات الأهلية واعضاء المجلس التشريعي والكتاب والمثقفين ورجل الاعمال العرب والفلسطينيين لعب دور رئيسي في الهجوم، وتوطيد العلاقة مع قادتها وكوادرها وتشجيعهم على مساندة الحقوق الفلسطينية والعربية في اطار صنع السلام والتعايش بين الشعبين. * كاتب سياسي فلسطيني.