عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين إسرائيل و"جيش لبنانالجنوبي"، فإن حكم عضو الكنيست الليكودي جدعون عيزرا على هذه العلاقة يبقى له مغزى. فعيزرا هذا شغل في السابق منصب نائب رئيس المخابرات الإسرائيلية الشاباك، وكان من أبرز القادة الأمنيين الذين ساهموا في بلورة الأسس التي قامت عليها هذه العلاقة أثناء مسؤوليته عن "ملف لبنان" في "الموساد" فضلاً عن أنه كان يحث المستوى السياسي بحماس شديد على توطيد هذه العلاقة. حالياً تختلف نظرة جدعون عيزرا البرلماني والسياسي البارز بالنسبة ل"جيش لبنانالجنوبي" تماماً. يعترف عيزار أن إسرائيل أخطأت حين دفعت لإنشاء هذا الجيش الذي يقول عنه بأنه "بدلاً أن يخفف من وطأة الأعباء الأمنية على إسرائيل، فإنه ضاعفها". ويشير إلى أن حرص إسرائيل على مصير هذا الجيش غدا عائقاً أمام قدرة أي حكومة إسرائيلية على اتخاذ قرار بالانسحاب من جانب واحد من جنوبلبنان، وفي برنامج "هكول بوليتي" الذي تبثه القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي يتساءل عيزرا بلهجة لا تخلو من الامتعاض "ان كل طفل في دولة إسرائيل يعلم ان بقاء قواتنا في جنوبلبنان لا يساهم إطلاقاً في ضمان أمن مدننا الشمالية، فهل يعقل أن نواصل دفع هذا الثمن الباهظ لمجرد أن انسحاب جيش الدفاع من طرف واحد لا يأخذ في الاعتبار حلاً لمشكلة جيش لبنانالجنوبي". عضو الكنيست عن حزب العمل يوسي بيلن، شأنه شأن الساسة الذين يؤيدون الانسحاب من جانب واحد، يقول: "إن الذين يعارضون هذه الفكرة لا يقدمون على ذلك من منطلق ايمان حقيقي بأن ذلك يعرض مدن الشمال للخطر، بل لأنهم لا يريدون دفع ثمن خطأ إنشاء الجيش الجنوبي، وبالتالي التعهد اخلاقياً بحماية عناصره وتأمين مستقبلهم في أي تسوية سياسية". وتصب رئوما كوهين، الناشطة في منظمة "الأمهات الأربع" التي تدعو إلى الانسحاب من جنوبلبنان من طرف واحد، غضبها على دائرة صنع القرار السياسي في إسرائيل، وترى ان الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مصابة بإنعدام القدرة على ايجاد حلول مناسبة لمشكلة "جيش لبنانالجنوبي"، وتضيف: "المهم أن يتوقف إهدار دماء جنودنا في هذا المستنقع الرهيب". حتى المحللون العسكريون الذين كانوا يسخرون من الذين يدعون لانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوبلبنان أصبحوا يتفهمون الفكرة. وينسب هؤلاء هذا الانقلاب في تفكيرهم إلى الأوضاع المأسوية السائدة في جنوبلبنان، فحسب الكاتب في "معاريف" عوديد غيرانوت: "يعيش الجيش الجنوبي انهياراً متواصلاً اثر تدهور معنويات جنوده نتيجة للنجاحات التي يحققها حزب الله في حربه ضد عناصر لحد، إذ يتم اقتناص قادة هذه الميليشيا في بيوتهم". كما أن الجدل السياسي المحتدم في إسرائيل على فكرة الانسحاب من جانب واحد من جنوبلبنان أظهر قتامة المستقبل الذي ينتظر هؤلاء. وحسب زئيف شيف، فإن الاستخبارات الإسرائيلية على يقين ان عناصر في جيش لحد تسربت للعمل لصالح حزب الله. ويعزو شيف بعض الانجازات التي حققها حزب الله في الفترة الأخيرة إلى وجود تعاون من قبل عناصر داخل الجيش الجنوبي. وهذا بالضبط الذي دفع عيزرا للقول إن "جيش لبنانالجنوبي ضاعف الأعباء الأمنية على إسرائيل". ويشير عيزرا إلى سبب آخر يجعله يحنق على قادة "الجيش الجنوبي"، خصوصاً انطوان لحد، ويقول: "إن لحد المقيم في فرنسا يستغل موقعه في التهريب وفرض الاتاوات على الناس، الأمر الذي ساعد كثيراً في ابداء قطاعات شعبية داخل القطاع الأمني استعدادها للتعاون مع حزب الله". وتحت عنوان "اهرب يا جنرال"، كتب حاييم هنغبي في "معاريف" بتاريخ 2/6/1999 ان انسحاب "جيش لبنانالجنوبي" من جزين من جانب واحد هو "عبارة عن هزيمة تامة ومطلقة سياسياً وعسكرياً، تتردد اصداؤها في جميع الأصقاع". ويصف هذه الهزيمة بأنها تتجاوز الحدود السياسية والعسكرية المألوفة. ويقول هنغبي "إن إسرائيل عبر انشاء جيش لبنانالجنوبي جعلت كثيراً من اللبنانيين يدفعون حياتهم وشرفهم وحريتهم وسلامتهم ثمناً لقسوة واعتباطية وسخافة جيرانهم الإسرائيليين". وأشار إلى أن الإسرائيليين أسسوا الجيش بشكل مخالف للقوانين الإسرائيلية. و"المشكلة أنه لم يحتج أي قانوني إسرائيلي على ذلك، إذ ينص القانون على منع إقامة أي قوة مسلحة غير جيش الدفاع الإسرائيلي إلا بسن قانون مناسب". ويضيف هنغبي في إشارة إلى بؤس الرهان على القوة في مواجهة المقاومة اللبنانية "في يوم من الأيام كان كل زعيم إسرائيلي يقول لست أدري من ستكون أول دولة عربية تعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، لكن أعرف ان الدولة الثانية ستكون لبنان. أما الآن أصبح سماسرة الأمن الإسرائيليين من اليسار واليمين الذين قادوا الحروب في لبنان يتمنون الخلاص منه وبدعوى أنهم غير قادرين على استمرار الاحتلال". من خلال الجدال السياسي المضطرم داخل الدولة العبرية على مستقبل الوجود الإسرائيلي في جنوبلبنان، فإن هناك تصورين أساسيين يتعلقان بمصير "جيش لبنانالجنوبي": الأول، إذا تم الانسحاب باتفاق مع الحكومتين السورية واللبنانية وربطه بمستقبل هضبة الجولان، فإن أصحاب هذا التوجه وعلى رأسهم رئيس الوزراء المنتخب ايهود باراك يرون ان على سورية ولبنان الموافقة على ترتيبات أمنية ويكون على رأسها ضمان أمن وسلامة عناصر الجيش الجنوبي، وتعدد "يديعوت أحرنوت" الشروط التي ستطالب إسرائيل بها الحكومة اللبنانية، وهي إصدار الرئيس اميل لحود عفواً عاماً عن كل أفراد جيش لحد، وإلغاء الأحكام التي صدرت بحق أي منهم، ودمجهم في الجيش اللبناني، وفي الوقت نفسه حل التنظيمات العسكرية اللبنانية التي يؤدي استمرار وجودها إلى المس بعناصر لحد. وفي ما يتعلق بمستقبل كبار قادة "جيش لبنانالجنوبي"، فإن إسرائيل ستعرض عليهم الاستقرار في إحدى الدول الأوروبية أو إسرائيل، إلا أن كثيراً من المراقبين في إسرائيل يرون أن أي اتفاق على الترتيبات الأمنية لن يحول دون الانتقام من عناصر الجيش. ويتساءل المعلق في التلفزيون الإسرائيلي يسرائيل سيغل عن جدية أصحاب هذا الطرح في الحرص على مصير عناصر الجيش الجنوبي، ويقول: "إن هؤلاء ينظر إليهم كعملاء وخونة، لذلك فإن من يدعي أنه بالامكان ضمان سلامتهم عبر التوصل إلى ترتيبات أمنية إنما يخدع من يستمع إليه". ويربط الصحافي جاكي كوبي في "معاريف" بين الانسحاب من جزين وتوجيه المدعي العام العسكري اللبناني نصري لحود مذكرة اتهام ضد نائب رئيس حزب الكتائب كريم بقردوني بسبب اتصالاته مع الإسرائيليين خلال عامي 1987 و1998، ويتساءل: "إذا كانوا يتعاملون هكذا مع ساسة تدعمهم قوى ذات وزن، فكيف سيتصرفون إذن مع عناصر لحد البسطاء؟". التصور الثاني، ويطرحه أنصار فكرة الانسحاب من جانب واحد الذين لا يريدون دفع ثمن لسورية، ويرى هؤلاء أن إسرائيل ستبقى المسؤولة عن تأمين سلامة عناصر لحد. واقترح عضو الكنيست موشيه بدش أن يتم توطين عناصر لحد وأسرهم داخل إسرائيل، في قريتي "اقرت" و"برعم"، وهما قريتان تقعان في الجليل، وتم اخلاؤهما من سكانهما الفلسطينيين بعيد إقامة دولة إسرائيل. وهناك من يدعو إلى توطين عناصر لحد في مناطق التجمعات العربية في إسرائيل أو بالقرب منها، ولا يبدو هذا الاقتراح منطقياً، إذ أن الجمهور العربي داخل إسرائيل يرفض بشدة توطين عملاء المخابرات الإسرائيلية من الفلسطينيين الذين هربوا من الضفة الغربية وقطاع غزة أثناء الانتفاضة، في حين أن النواب العرب في البرلمان كانوا استقبلوا انطوان لحد بالسباب والشتائم اثناء زيارته الأخيرة للكنيست. وهناك من يقترح توطين عناصر "جيش لبنانالجنوبي" في تجمع خاص بهم على غرار تجمع "الدهينية". و"الدهينية" هي بلدة كبيرة أقامتها إسرائيل لعملائها الفلسطينيين في الجنوب الشرقي من قطاع غزة وفرضت سيادتها عليها. ونقل التلفزيون الإسرائيلي عن الدوائر العسكرية تقديراتها بأن مخاطر أمنية واجتماعية جمة ستنشأ عن توطين عناصر لحد وعائلاتهم في إسرائيل. ويدور الحديث عن توطين الآلاف من الأفراد، الأمر الذي سيترك أثره على التوازن الديموغرافي. وهناك في إسرائيل من يعتقد ان هذه العينة من الناس بعد توطينها ستعيش في ضائقة اقتصادية وعزلة اجتماعية، الأمر الذي سيدفع أفردها للجنوح للاجرام. وهذا ما يهدد أمن المجتمع الإسرائيلي. ويقترح المسؤول السابق في المخابرات يوسي جينوسار مساعدة عناصر لحو في الهجرة والاستقرار في دول أميركا الجنوبية، وينصح بطلب معونة المنظمات اليهودية من أجل المساعدة في ذلك. عدد من القانونيين الإسرائيليين يرون أن القانون الإسرائيلي يلزم الحكومة الإسرائيلية بمنح جنود لحد حق اللجوء السياسي والجنسية الإسرائيلية. "يديعوت أحرنوت" في عددها الصادر في 26/3/1998 ذكرت ان ضابطاً كبيراً وثلاثة جنود من عناصر لحد قد وكلوا محامياً إسرائيلياً لمطالبة الدولة العبرية بمنحهم حق اللجوء السياسي والجنسية الإسرائيلية. ونقل محاميهم رسالة إلى مكتب نتانياهو جاء فيها: "ربطنا مصيرنا بمصير الدولة ودافعنا بأجسامنا عن قرى ومدن شمال إسرائيل. لذلك فإننا نطالبكم بعدم الانسحاب من جنوبلبنان إلا بعد توفير لجوء سياسي لنا ومنحنا الجنسية الإسرائيلية، وإذا ما ذبحونا فإن هذه شهادة تاريخية على خيانة دولة إسرائيل لحلفائها". يراقب ايتيان صقر، قائد منظمة "حراس الأرز"، التي يخدم عناصرها في الجيش الجنوبي، الجدل الإسرائيلي الداخلي ويخبر "يديعوت أحرنوت" في مقابلة صحافية ان ما يطرح "خيانة لجيش لبنانالجنوبي وإهدار لدماء جنوده". ويتكلم صقر، الذي أصدرت محكمة لبنانية حكماً غيابياً بالسجن لمدة 100 عام، بمرارة عن الصورة التي تتعامل بها حكومة إسرائيل مع مصير اللبنانيين "الذين عقدوا حلف دم معها" على حد قوله. اثر تقاعده العام الماضي، يروي رئيس دائرة تجنيد العملاء في "الموساد" في حديث للصحف العبرية أنه في أحد الأيام زار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اسحق رابين مقر "الموساد"، وقام كل مسؤول دائرة بعرض "انجازات" دائرته عليه، وعندما قدم هو كشفاً باسماء العرب الذين نجح رجاله في استدراجهم للعمل لصالح إسرائيل، حملق رابين في القائمة الطويلة، ثم نظر لهذا المسؤول وقال له "لطالما راودني سؤال منذ طفولتي: كيف يجرؤ شخص ما على التفكير بخيانة وطنه وشعبه؟... يا لهم من اناس يثيرون التقزز". * صحافي فلسطيني