التمرد الذي قام به بعض قيادات حزب المؤتمر الهندي قبل أسابيع ثلاثة ضد زعيمتهم سونيا غاندي لرغبتها في المنافسة على رئاسة الحكومة في الانتخابات البرلمانية المقبلة والمقرر اجراؤها في أيلول سبتمبر المقبل، هو بطبيعة الحال ليس الأول في تاريخ هذا الحزب العريق. فقد سبقته حالات تمرد وعصيان كثيرة تحت حجج ومبررات مختلفة: وفي كل مرة كانت الشخصية المستهدفة تبقى على رأس القيادة وتواصل مسيرتها، فيما المتمردون يضطرون إلى الانزواء والتشرذم أو الانشقاق ليعودوا بعد فترة إلى أحضان حزبهم الأم عودة الحملان المطيعة والصاغرة. على أن أبرز هذه الحالات كانت في 1969 حينما تحالف عدد من قيادات الحزب المخضرمة من أمثال ك. كاماراج ونيلام سانجيفاريدي للتخلص من ابنة نهرو الصاعدة، انديرا غاندي، مراهنين على قلة خبرتها السياسية وقصر تجربتها الحزبية وصغر سنها النسبي لتهميشها بسهولة والحلول مكانها. إلا أن هذه الأخيرة أثبتت لهم عكس ما راهنوا عليه، وكان أن فرضت السيدة قليلة الخبرة سيطرتها على الحزب وكنست معارضيها وأضفت بصمتها الخاصة على سياساته طيلة السنوات التالية وحتى اغتيالها. أما في 1977 فقد حسب بعض قيادات المؤتمر ان انديرا الضعيفة شعبياً وحزبياً من جراء لجوئها إلى فرض حالة الطوارئ وتعليق الدستور للمرة الأولى في تاريخ الهند الحديث، وخسارتها أمام تحالف جاناتا دال، ستكون فريسة يمكن الانقضاض عليها بسهولة والتهامها، لكن الأخيرة اثبتت مرة أخرى دهاءها وقوة شكيمتها حينما راحت تعترف بالخطأ وتعد بالاصلاح، فجذبت إلى صفها قيادات حزبية مهمة، فضلاً عن القاعدة الشعبية مما عطل خطط المتمردين، ويبدو ان التاريخ يعيد نفسه هذه الأيام، لكن مع سيدة أخرى من أسرة غاندي. فالذين تمردوا أخيراً راهنوا في جذب قيادات المؤتمر وقواعده الشعبية إلى صفوفهم ضد السيدة سونيا غاندي على قلة الخبرة السياسية والحزبية لديها فضلاً عن العامل الأهم وهو اصولها الأجنبية، إلا أن هذه الأخيرة برهنت على أنها مثل حماتها تملك قدراً من الدهاء الذي ربما تعلمت أبجدياته من السنوات الطويلة التي قضتها معها تحت سقف منزل واحد. فحركة استقالتها السريعة والمفاجئة في هذا الوقت العصيب الذي تشتد فيه الحاجة إلى رص الصفوف وإلى قيادة كاريزمية قادرة على حصد نتائج الاستحقاقات الانتخابية القريبة، جعلت الأغلبية تصطف معها وتنبذ المتمردين وتتوسل عودتها عن الاستقالة بشتى الوسائل. ومهما قيل في أسلوب سونيا هذا من أوصاف ونعوت كالقول بأنه اسلوب مسرحي للتلاعب بعواطف الناس، أو اسلوب ديكتاتوري لا يقبل بالرأي الآخر، فإنه في نهاية المطاف هو أفضل ما تبنته حتى الآن من أجل تعزيز مواقعها الحزبية والجماهيرية. والحقيقة أنه لو لم يكن على رأس المتمردين شخصية قيادية مثل شاراد باوار لربما أمكن تصديق وجود النية السليمة من وراء تحركهم لسد كل الثغرات التي من الممكن ان يلجأ إليها حزب بهاراتيا جاناتا وحلفاؤه للإضرار بحظوظ حزب المؤتمر في الانتخابات المقبلة، وعلى رأسها ثغرة الأصل الأجنبي لسونيا. وباستعراض تاريخ باوار في المشكلة والتمرد، نجد أنه كان ضمن الذين خرجوا على زعامة انديرا غاندي في عام 1978 معترضاً على ما وصفه باسلوبها الديكتاتوري وتحويل حزب المؤتمر إلى اقطاعية خاصة بالأسرة النهروغاندية. فكان أن طرد من الحزب ليؤسس لنفسه حزباً جديداً تحت اسم "المؤتمر - إس"، لم يستطع من خلاله تحقيق أي نجاح ملفت للنظر خارج معقله في ولاية مهاراشترا، بل أنه حتى في هذه الولاية لم يستطع الفوز بزعامتها فوزاً كاسحاً مما جعله يترأس حكومة محلية ائتلافية مع خصومه السابقين من تحالف جاناتا دال. وحينما جاءت العودة المظفرة لأنديرا غاندي إلى السلطة في 1980، لم يمر سوى أشهر معدودة إلا وكان باوار خارج حكومة ولاية مهاراشترا مهمشاً ومعزولاً، الأمر الذي جعله يتفاوض للرجوع إلى الحزب الأم مباشرة بعد اغتيال انديرا غاندي في 1984. لكن المفاوضات سرقت من عمره السياسي سنتين كاملتين لوجود توجه في حزب المؤتمر بعدم السماح لمن كان يختفي في ثياب أفعى سامة مثل باوار بالعودة إلى صفوفه بهذه السهولة. وهكذا لم يعد الرجل إلى المؤتمر إلا في 1986 حينما شعر راجيف غاندي بإمكانية استغلال نفوذ الأخير في ولاية مهاراشترا المهمة لتعزيز مكانة المؤتمر في مواجهة تحالفات خصومه، في وقت كان باوار من جهته يمني النفس بإمكانية السيطرة على راجيف القادم إلى الحلبة السياسية الشائكة من عالم الطيران دون خبرات أو تجارب، والصعود على اكتافه إلى مناصب قيادية طالما حلم بها وتم إبعاده عنها. لكن راجيف سرعان ما اكتشف ما يدور في رأس باوار، فكان ان شاغبه في الخفاء عبر زملائه في حكومة ولاية مهاراشترا التي كان قد عاد إلى تزعمها، وكاد أن يسقطه منها لولا وقوف البلاد مجدداً على عتبة انتخابات برلمانية جديدة في 1991. في أعقاب اغتيال راجيف وشغور منصب الزعامة الأولى في حزب المؤتمر في 1991، تقدم باوار كمرشح وجنّد حوله بعض الأسماء القيادية ضد منافسه ناراسيمها راو، لكن الفشل كان له بالمرصاد، مما دفعه إلى الانتقام عبر مشاغبة زعيمه الجديد كلما سنحت الفرصة. وكوسيلة لتجنب ألاعيبه وإسكاته، قام راو بإسناد منصب وزارة الدفاع إليه ووضع تحت تصرفه طائرة خاصة لتنقلاته. إلا أن هذا كله لم يمنعه من العودة مجدداً لمنافسة راو في 1993 لكن بطريقة غير مباشرة، وربما انطلاقاً من مفهوم خاص به هو ان الفشل المتكرر، هو الطريق المؤدي إلى النجاح في نهاية الأمر. ومرة أخرى فشل باوار في تحقيق أمنيته الغالية ليبقى منتظراً الفرصة التالية، وحينما جاءت هذه الفرصة عام 1997 على اثر اقصاء راو من زعامة الحزب بتهمة الفساد، تم تجاوزه أيضاً وراحت الزعامة إلى سيتارام كيسري، ليستمر هو في تدبير المؤامرات الخفية ضد هذا الأخير من أجل اسقاطه والحلول مكانه. ويبدو ان استقالة كيسري بعد ذلك وذهاب القيادة إلى سونيا سببت ألماً كبيراً لدى باوار، بدليل أنه حرص على مقاطعة كل أنشطة حزبه الجماهيرية والاحتفالية من تلك التي تتواجد فيها زعيمته طوال العام الماضي وهذا العام، فيما عدا مناسبة وحيدة، ربما لدفع تهمة المعارضة عن نفسه أمام الرأي العام المحلي. وجملة القول إن باوار قد تطبع على التمرد وخدمة مصالحه وطموحاته الشخصية دون أدنى اكتراث بمصالح الحزب الذي ينتسب إليه. وتسبب بحركته الأخيرة بتصدع خطير داخل هذا الحزب قد تصب تداعياته في مصلحة بهاراتيا جاناتا وحلفائها.