يواجه نظام الحكم الديموقراطي مشاكل في كل بلدان جنوب آسيا. وفي باكستان، تصاعد ما كان بدأ كمشادة بين السلطة التنفيذية والقضاء ليتطور الى ازمة دستورية بلغت من الخطورة ان وجود النظام الديموقراطي ذاته بدا مهدداً. ومع استقالة محمد فاروق احمد خان ليغاري من منصبه كرئىس باكستان وتنحية سجاد علي شاه من موقعه كرئيس للمحكمة العليا، تراجعت حدة الازمة لكن ليس قبل ان تدفع البلاد الى حافة الهاوية وتكشف الى ابعد الحدود الضغوط التي يمكن ان تسلطها الطبقة السياسية على نظام الحكم الهش في باكستان. ولا يسع المرء الاّ ان يأمل، عندما تتوقف فورة الاحساس بالرضا عن النفس، ان يفكر المسؤولون في بلادنا ملياً في دروس الشهرين الماضيين. وفي بنغلادش، اطلق الحزب الرئيسي في المعارضة الذي تتزعمه رئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء حملة تحريض شعبية واسعة لاطاحة حكومة رئىسة الوزراء الشيخة حسينة. وتعاني الحياة في كل المدن الرئيسية الشلل بسبب الاضرابات واعمال الاحتجاج، وقتل وجرح كثيرون. وفي سريلانكا، تواصل حكومة تشاندرايكا باندرانايكا معركتها مع مقاتلي "نمور التاميل" الانفصاليين. وفي الهند، اقدم ديموقراطيات جنوب آسيا واكثرها كثافة بالسكان، انهارت الاسبوع الماضي الحكومة الائتلافية التي لم يمض اكثر من سنة على تشكيلها عندما قدم اندير كومار غوجرال استقالته الى الرئيس الذي طلب منه ان يستمر في منصبه كرئىس وزراء مؤقت الى ان تُشكّل حكومة جديدة او، في حال تعذر تشكيلها، اجراء انتخابات جديدة. ويعكس انهيار حكومة غوجرال، وما يبدو من استحالة تشكيل حكومة جديدة، المشاكل التي تواجهها الديموقراطية في الهند عقب انحسار نفوذ حزب المؤتمر الهندي، اقدم الاحزاب الوطنية في البلاد الذي تزعمه في وقت مضى المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو. وكان حزب المؤتمر بزعامة رئىس الوزراء نهرو، الذي توفي عام 1965، يحتكر السلطة عملياً، وهو امتياز استخدمه ليغرس في الهند طابعاً ديموقراطياً وعلمانياً. وإثر وفاته انتقلت قيادة حزب المؤتمر الى ابنته انديرا غاندي - لا تربطها علاقة قرابة بالمهاتما - التي تولت بعد فترة وجيزة منصب رئىس الوزراء. كانت انديرا غاندي زعيمة قوية، لكنها بخلاف والدها افتقرت الى البصيرة والالتزام العميق بالديموقراطية. ولهذا السبب عجزت في النهاية عن الحفاظ على تماسك حزب سياسي يمتاز بتعدديته وانتشاره الواسع في ارجاء شبه القارة من دون استغلال الانقسامات والصراعات داخله. وكان لاسلوبها في الحكم تأثير مُحبط على الحزب اشاع الانقسام في صفوفه، فضلاً عما عاناه ايضاً من جراء عملية النخر الطبيعي. وكان قرارها فرض حكم الطوارىء في الهند بمثابة دلالة على فشلها. وفي 1977 فقد حزب المؤتمر تحت زعامتها السيطرة على الحكومة الفيديرالية، وذلك للمرة الاولى منذ الاستقلال في 1947. وبدأت مذذاك عملية انحسار نفوذ الحزب، لتحفز مجموعة من الطموحات السياسية على صعيد الحياة السياسية الوطنية والاقليمية على السواء. واُغتيلت انديرا غاندي في 1984 على ايدي منشقين من السيخ انتقاماً منها لاصدارها اوامر الى الجيش باخراج المتمردين السيخ بالقوة من المعبد الذهبي الذي يعتبر اقدس اماكن العبادة لدى السيخ. وفي 1991، اُغتيل راجيف غاندي، ابنها وخليفتها في رئاسة الحكومة، على ايدي نمور التاميل حسب ما زُعم، رداً على التدخل العسكري الهندي ضد الحركة الانفصالية في سريلانكا. وأدت عمليتا الاغتيال عملياً الى حرمان حزب المؤتمر من التماسك الذي كان يتمتع به تحت قيادة عائلة نهرو. وتراجع نفوذ الحزب بشكلٍ حاد، ولعبت دوراً في ذلك الانشقاقات التي تعرض لها. وفي المقابل، احرزت الاحزاب الاخرى تقدماً وعززت نفوذها. وفي الانتخابات العامة في 1996، جاء حزب المؤتمر في المرتبة الثانية بعد حزب بهاراتيا جاناتا، وهو تنظيم قومي هندوسي يميني يحظى بدعم جماعات هندوسية اكثر تطرفاً ذات طابع فاشي تقريباً. وشكّل بهاراتيا جاناتا حكومة برئاسة اتال فيهاري فاجباي، وامتازت بأن فترة حكمها كانت الاقصر في تاريخ الهند، اذ اخفق فاجباي في غضون اسبوع في ان يحصل على الغالبية المطلوبة في البرلمان. وينبغي ان نشير هنا الى ان الرقم السحري لتشكيل حكومة هو 272 في البرلمان الذي يضم 545 عضواً. واصبح اندير كومار غوجرال رئىساً للوزراء في ايار مايو 1996، على رأس ائتلاف يضم 13 حزباً تراوح من الحزب الشيوعي الماركسي الى "دي إم كي"، وهو حزب قومي للتاميل. وكان هذا ائتلافاً غير متوقع لتنظيمات متنافرة لا يوحدها سوى كره شديد لحزب بهاراتيا جاناتا وشركائه. والمثير للاستغراب في شأن انهيار هذه الحكومة انه لم يحدث في وقت أبكر. وكان السبب المباشر لانهيارها ان حزب المؤتمر، الذي دعم الائتلاف من دون ان ينضم الى الحكومة، قرر ان يسحب تأييده. والاسباب التي دفعته الى اتخاذ هذا الموقف تقدم صورة عن الحال المتردية ل "المؤتمر الوطني الهندي" في الوقت الحاضر. لا تزال عائلة نهرو، وعلى رأسها ارملة راجيف غاندي الايطالية، تمثل السلطة المقررة لحزب المؤتمر. وتصر العائلة على ضرورة الكشف عن هوية العناصر المسؤولة عن قتل راجيف ومعاقبتهم. هكذا، طالب الحزب ان تكشف الحكومة علناً محتوى "تقرير لجنة جاين" في شأن اغتيال راجيف غاندي. ويُعتقد على نطاق واسع ان التقرير يشير الى تورط "دي إم كي"، التنظيم الذي يمثل التاميل والشريك في الائتلاف، الى جانب جبهة "نمور التاميل" في سريلانكا في عملية الاغتيال. وكان نشر محتوىات التقرير سيؤدي الى خروج "دي إم كي" من الائتلاف وبالتالي انهيار الحكومة الهشة. ومع اعتراض الشركاء الاخرين في الائتلاف على نشر التقرير ابدى غوجرال تردداً. لكن حزب المؤتمر لمح الى سحب دعمه للائتلاف، فلم يبق امام غوجرال اي خيار الاّ ان يستقيل. ربما تكون الاسباب الحقيقية وراء قرار حزب المؤتمر سحب تأييده لحكومة "الجبهة المتحدة" اكثر تعقيداً. فالحزب منقسم الى كتل تلتف حول ما لا يقل عن ثلاثة زعماء. وعبّرت هذه الكتل كلها عن السخط لانها مهمشة ولا تتمتع بنفوذ، ولمح احدها على الاقل الى احتمال الانضمام الى حزب بهاراتيا جاناتا لتشكيل حكومة. فاصبح حزب المؤتمر مهدداً بعمليات انشقاق ما لم يتمكن من الوصول بطريقة ما الى السلطة، وهو ما كان من المتعذر تحقيقه بالتركيبة القائمة للائتلاف. ويسعى كيساري، الرئيس الحالي لحزب المؤتمر، منذ فترة الى البحث عن شركاء لتشكيل ائتلاف. وواضح انه اخذ في الاعتبار في حساباته ان تساعد آفاق الوصول الى السلطة على اجتذاب شركاء ومنع حدوث انشقاقات. وفي اللقاء الذي عقده زعماء حزب المؤتمر مع الرئىس كي. آر. نرايانان في أول كانون الاول ديسمبر الماضي، اكدوا له ان باستطاعتهم الحصول على الغالبية المطلوبة، وحضوا على ان توجّه الدعوة اليهم لتشكيل الحكومة. واُعطيت تطمينات مماثلة الى الرئىس من قبل زعماء بهاراتيا جاناتا، الحزب الآخر الذي يتنافس على السلطة. ويتوقع كلا الحزبين، بالطبع، انه حالما يُدعى لتشكيل الحكومة ستفتح سوق الخيل ابوابها وسينضم اليه المنشقون من احزاب اخرى. من جهة اخرى، لا بد لرئىس الوزراء السابق غوجرال ان يحافظ على تماسك "الجبهة المتحدة"، لذا يجادل بأنه لن يمكن حل المأزق السياسي الاّ باجراء انتخابات جديدة. وحسم الرئىس قراره عندما كلف أحد أعضاء الائتلاف بإعادة تشكيل الحكومة. هناك معارضة واسعة وسط اعضاء البرلمان لاجراء انتخابات جديدة. فالانتخابات عملية مُكلفة. واذا اُجريت انتخابات اخرى ستكون الخامسة في الهند خلال سنتين. ولا يرغب معظم السياسيين في خوضها مرة اخرى. هكذا، يُفضّل تشكيل حكومة جديدة على اجراء انتخابات. ومع ذلك، يبدو مستبعداً، ان يتمكن حزب المؤتمر او بهاراتيا جاناتا من تشكيل حكومة قادرة على البقاء. فتوازن القوى الحالي في البرلمان لا يرجح ذلك. ويعتبر بهاراتيا جاناتا اكبر حزب في البرلمان ولديه 162 عضواً، واذا اضفنا اليه بعض مؤيديه تصل قوته الى 193 عضواً. ويحتاج 79 عضواً اخر كي يصل الى الرقم السحري: 272. ويسعى بهاراتيا جاناتا الى استمالة احد التكتلات داخل حزب المؤتمر الى جانبه. واذا اتخذ شاراد باوار القرار المستبعد بالانضمام مع اتباعه الى بهاراتيا جاناتا فان ذلك سيضيف في احسن الاحوال 30 عضواً آخرين، وسيبقى في حاجة الى اكثر من 40 عضواً. ويواجه حزب المؤتمر مصاعب مماثلة في تشكيل حكومة. فمع وجود 140 عضواً في البرلمان، يحتاج الى 132 لتحقيق غالبية برلمانية. وقد ينضم اليه حزب "تي إم سي"، وهو تنظيم لقومية التاميل، الى اتباع لالو براساد ياداف، السياسي المعتقل من بيهار، ولدى كل من الطرفين حوالي 20 نائباً. ويعني هذا انه سيحتاج الى حوالي 90 عضواً للوصول الى الغالبية المطلوبة. ومن الصعب ان نتصور كيف سيتمكن من الحصول على هذه الاصوات، او حتى اذا نجح في الحصول عليها كيف سيتمكن من الحفاظ على تماسك الائتلاف ومنع تشرذمه. فكل شريك في الائتلاف يطمح الى ما لا يقل عن حقيبة وزارية واحدة. من المستبعد اذاً ان ينجح اي من الحزبين المتنافسين على السلطة من تشكيل حكومة تملك مقومات البقاء. ويؤشر هذا الى احتمال اجراء انتخابات جديدة، لكن ليس قبل ان تُبذل محاولة اخيرة لتجنبها. الرئىس نرايانان رجل معقول، وهو ميّال الى البحث عن حلول معتدلة تستند الى إجماع. ونجح في إقناع معظم الاطراف بالانضمام الى حكومة "وطنية" تكون مهمتها الاستمرار لسنة اخرى على الاقل قبل اجراء انتخابات جديدة. ولأن معظم اعضاء البرلمان لا يرغبون في اجراء انتخابات جديدة حالف النجاح خطته. مع ذلك تشير كل الاحتمالات الى ان الهنود سيتوجهون قريباً الى صناديق الاقتراع. لكن هل ستؤدي الى وضوح اكبر السنة الجارية، كما يأمل غوجرال؟ ان نظرة واقعية الى الخريطة السياسية الحالية للهند تشير الى ان الانتخابات الجديدة ستُفضي، في احسن الاحوال، الى أكلة "كيتشري" اكثر قدرة على البقاء بعض الشيء ولو انها لن تكون بالضرورة افضل مذاقاً مما قدمه السيد غوجرال. وماذا ستكون النتيجة في اسوأ احتمال؟ من يدري في هذه الظروف المتقلبة التي تعيشها جنوب آسيا.