أُثيرت في الآونة الأخيرة العديد من الآراء والقناعات المرتبطة بالموقف ازاء التحالف بين أطراف من المعارضة العراقيةوالولاياتالمتحدة لتغيير النظام الحاكم في بغداد، وتضخمت هذه الآراء في جانبها السلبي عند النقطة المتعلقة بالدعم المالي المقدم من قبل واشنطن، وبذلك حصرت القضية العراقية في إطار واحد ومحدد، هو الإطار المتعلق بالمساندة المالية الأميركية التي أعلن عنها، وهي بحدود 97 مليون دولار، تدفع كعينات ومعدات مدنية أو خدمات مكتبية. إن التحالف بين واشنطن وبعض أطراف المعارضة العراقية يخضع أيضاً إلى عملية صراع تدركه هذه الأطراف عن كثب، مثل ان واشنطن ليست جادة في دعم المشروع السياسي العراقي المعارض لإسقاط النظام الحاكم في بغداد. وتستند هذه الآراء إلى حصيلة التجارب العديدة الماضية، وتتوقف بشكل جلي على ما آلت إليه التطورات الأخيرة منذ انعقاد اجتماع "وندسور" بالقرب من لندن في نيسان ابريل الماضي، وحضي برعاية متميزة من قبل واشنطن، وتمخض عن تسوية هادئة للمشاكل التي ضربت "المؤتمر الوطني العراقي الموحد" وحتى انعقاد اجتماعات واشنطن الأخيرة بين وفد المعارضة العراقية والمسؤولين ورافقتها تصريحات أميركية تثير انطباعات غير جدية لمساعدة المعارضة العراقية في تغيير النظام. أشار المتحدث باسم الخارجية الأميركية جيمس روبن وكذلك مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي صموئيل بيرغر إلى بعض المؤشرات التي تحول دون انتقال العمل العراقي المعارض إلى مرحلة متقدمة لعدم قناعة الولاياتالمتحدة بمبدأ التحرك الميداني في مناطق معينة من الأراضي العراقية، وعلى هذا الأساس فسر بعض المهتمين بالشأن العراقي موضوع الدعم المالي، بأنه غطاء لموقف سياسي أعلن على لسان هؤلاء وغيرهم من المسؤولين في اللحظة المناسبة، التي غُرر فيها بالمعارضة العراقية وأُقتيدت إلى واشنطن بأمل الحصول على مكاسب سياسية فعالة. ولكنها اصطدمت بثبات المنهج السياسي القديم الذي سارت عليه حكومة جورج بوش في ما يتعلق بالموقف من تغيير النظام. كانت المعارضة العراقية تعتبر الدعم المالي الذي لوّحت به إدارة كلينتون بمثابة الضوء الأخضر لإزاحة نظام صدام حسين، وهي لم تكن تعول على حجم المبلغ الذي سيقدم لها لإدراكها بأنه مبلغ لا يرتقي حتى إلى الموازنة السنوية ل"اذاعة بغداد"، وهو مبلغ طفيف ومتواضع ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يؤثر بشكل عميق في آلية تغيير النظام. ولو جمعت أموال ثلاثة أو أربعة من المعارضين الذين حضروا إلى اجتماعات واشنطن، لفاقت أموالهم هذا المبلغ المقدم من قبل واشنطن. وبالنسبة للإدراة الأميركية، فإن القضية تتعلق قبل كل شيء بالصراع المحتدم مع الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، وسبق أن سن "قانون تحرير العراق" والحكومة الأميركية، التي تدار من قبل الديموقراطيين، فالكونغرس اعطى مهلة محددة لصرف المبالغ ودعم المعارضة بصورة عملية لإسقاط نظام صدام حسين. وتحاول الحكومة الأميركية التملص والخروج من دائرة الضغط لكن بشكل قانوني ومقنع بعدما اقتربت المهلة المحددة للشروع في تنفيذ هذا القانون. وكان لزاماً على إدارة كلينتون أن تقوم بكل ما قامت به حالياً، لكنها في الإطار الآخر تحاول التذكير بجملة الرفض التي جاءت على صورة "لاءات" طرحتها الإدارة الأميركية بدون الشكوك وجعلت بعض المعارضين يعتقد أن هناك تحولاً في مسار السياسة الأميركية. إلا أن الوقائع أكدت ان الثبات ما يزال هو الأساس، وهذا ما عبّرت عنه تصريحات المسؤولين اثناء وجود وفد المعارضة في واشنطن، حين طرح هؤلاء المسؤولون جملة نقاط بالضد من النقاط التي طرحها الوفد والتي لخصها أمين عام حركة الوفاق اياد علاوي اعلامياً بالاختصارات الآتية: - دعم أميركي سياسي معلن وواضح للمعارضة العراقية ومشروعها لإطاحة صدام، وتمكين المعارضة العراقية من ايجاد منطقة آمنة ممنوعة من غزو النظام برياً في منطقة كردستان العراق وكذلك في الجنوب، وتكون عبارة عن نقطة انطلاق لقوات المعارضة العراقية لتحرير الاماكن الأخرى باتجاه العاصمة بغداد. - إقامة معسكرات ميدانية لتدريب وانطلاق قوات المعارضة العراقية وتقديم الدعم العيني واللوجستي لإنجاز المهمات القتالية ضد مواقع النظام. - تقديم العون الاعلامي والخدمي بشكل وفير لتحقيق هدف إطاحة النظام وإقامة سلطة جديدة تعكس الاجتماع الوطني العراقي وتؤسس لنظام دستوري تعددي يحترم حقوق الإنسان العراقي. وفي ضوء هذه النقاط التي جاءت على لسان الدكتور علاوي، سارع الحزبان الكرديان الرئيسين، الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، إلى رفض مطلب المعارضة لإقامة نقطة انطلاق من كردستان العراق، بعد ان اعلن النظام العراقي تهديده للقيادات الكردية بأنه سيتعامل مع أي محاولة لفتح الباب أمام المعارضة العراقية العربية في كردستان بشكل آخر، ملوحاً إلى تصميمه على اجتياح وضرب المنطقة بصورة حاسمة. ورد المسؤولون الأميركيون أيضاً على النقاط التي طرحت بالرفض القاطع، وتلخص موقفهم كالآتي: - رفض فكرة ايجاد مناطق قتالية في كردستان العراق أو في المنطقة الجنوبية، واقتصار المساعدات في هذه المرحلة على تقديم "معدات غير قاتلة" مثل أجهزة الكومبيوتر والفاكس بسبب استحالة توفير الأسلحة لمقاتلة النظام. والحجة الأميركية للتنصل من بنود "قانون تحرير العراق" الذي شرعه الكونغرس وصادق عليه كلينتون في تشرين الأول اكتوبر الماضي هي حماية ارواح العراقيين وعدم تعريضها للخطر. ويذكر أن "قانون تحرير العراق" يقضي بتزويد المعارضة العراقية بمساعدات عسكرية من فائض مخزون وزارة الدفاع الأميركية بقيمة 97 مليون دولار، وتشمل مساعدات عسكرية ذات طبيعة قتالية أي أسلحة وأخرى غير قتالية مثل المكاتب ومعدات الاتصال. ويبدو أن أرواح العراقيين أكثر أهمية بالنسبة لواشنطن، في حين أنها لا تعني شيئاً بالنسبة للمعارضة العراقية التي تسعى إلى إبادة الشعب العراقي، وكأنها هي المسؤول الأول عن الحصار الذي يقضي يومياً على الآلاف من الأطفال والشيوخ ويتسبب في المزيد من الكوارث الاجتماعية، بل ويطيل في عمر النظام، كل هذا تتحمله المعارضة العراقية وليست الولاياتالمتحدة. - إنشاء مكاتب للدعاية والعلاقات العامة في لندن ونيويورك وإحدى الدول الخليجية. - لا يوجد حالياً إطار تأهيلي للمعارضة العراقية، ولا يوجد انسجام شامل وتمثيل كلي للطوائف العراقية، لذلك فإن الدعم الأميركي يبقى في إطار سياسي وإعلامي عام، ولا يتحول باتجاه العمل الميداني المباشر، وان دور المعارضة العراقية في الخارج يقوم حالياً على أساس محدد، وهو دور المساند أو المنتظر لأي تحول في المستقبل، لذلك فإن الإدارة الأميركية تناقش مع هذه المعارضة نظام اليوم الأول ما بعد صدام، وهي تعقد الآمال على تغيير موضعي في إطار السلطة أو العائلة الحاكمة، وتروج اعلامياً وسياسياً لوجود حالة من الخلافات العميقة وسط عائلة صدام، وهذا ما صرح به أحد المسؤولين اثناء وجود وفد المعارضة في واشنطن، إذ أشار إلى وجود "تقارير مؤكدة عن اضطراب داخل عائلة الرئيس صدام حسين وداخل الحرس الجمهوري، وان صدام سيذهب عاجلاً أم آجلاً ونحن نعتقد ان ذلك سيكون قريباً أكثر مما يعتقد الكثير من الناس"، وهذه القضية ليست جديدة، فالرعاية الأميركية لوجود مثل هذا الخلاف رافقت تطور القضية العراقية منذ حرب الخليج إلى الآن. وفعلاً حدثت ولا تزال تحدث خلافات عميقة وسط هذه العائلة ولعل حادثة حسين كامل أكبر دليل على التمزق الذي يحاط بسرية مطلقة، ولا أدري ماذا يمكن أن يحصل بسبب هذه الخلافات، إلا أن واشنطن ربما أوصلت رسالة خاصة لبرزان التكريتي قبل ذهابه إلى بغداد بأنها تتطلع إلى مساهمته الأساسية في ازاحة شقيقه من دفة الحكم، وأنها على استعداد للتفاهم معه متى ما تم ذلك بنجاح. ومن هنا يتأكد الأمر بأن الإدارة الأميركية لا يعنيها التغيير الجذري في العراق بقدر ما يعنيها ازاحة صدام والابقاء على النظام. وهي بذلك لا تحتاج إلى معارضة عراقية قوية تستطيع توظيف قدراتها المختلفة لإحداث تغيير شامل في النظام العراقي، وإقامة نظام ديموقراطي جديد يقوم على أساس شرعي يعتمد على قوانين وأعراف مدنية عامة. لذلك فإن تعامل الإدارة الأميركية مع المعارضة العراقية القابلة بالتعامل لا تخرج عن إطار الحفاظ على الوشائج. فمازال المسؤولون يقطعون طريق التفاؤل والأمل بالتغيير الذي يسيطر على عقول ومشاعر العراقيين بأن عملية التغيير تتطلب الانتظار الطويل وعدم التسرع، لأن النظام الحالي مازال يحتفظ بقوة كبيرة، وهي ليست مجرد نزهة. فالمعارضة العراقية مازالت غير مؤهلة ولا تملك المقومات الأساسية لعمل بحجم ازاحة النظام الحالي، وبذلك تعتبر هذه الإدارة عن ملامح منهجها السياسي الذي تخفيه تحت أغطية ومساحيق مختلفة. إن قضية التغيير مقبلة لا ريب فيها، لكنها لا بد أن تنطلق من العمق العراقي الأصيل، وليس طبقاً للمواصفات الأميركية التي يعرفها الداني والقاصي، ولذلك فإن شروط الوضع المستقبلي للعراق سيحدده العراقيون وليس غيرهم. وهذه الحقيقة ينبغي ان لا تغيب عن الجميع بما فيهم المسؤولون في الإدارة الأميركية، فقد نضجت الظروف المتراكمة بالحركة التي لا بد ان تتفجر في أي لحظة من اللحظات لتقلب موازين الوضع. فالمعارضة العراقية موجودة وقادرة على التحرك بذاتية كبيرة، وإذا استطاعت واشنطن ان تحول دون حصول انعطاف جدي في الوضع العراقي، خصوصاً في انتفاضة آذار مارس 1991، فإن الظروف تغيرت الآن، فأي انفجار مقبل لا بد ان يجد شروط انتصاره انطلاقاً من تجارب الماضي. فالشعب العراقي يختزن طاقات هائلة، تنتظر لحظة الأداء وليس أكثر من ذلك. * كاتب وصحافي عراقي مقيم في بريطانيا.