قبل شهور كان يمكن بالكاد للاتحاد السوفياتي ان يتطلع الى الحفاظ على وحدة أراضيه، في وقت كانت الجيوش النازية تحاصر وتحتل وترعب مدنه وسكانه. ولكن في الخامس من حزيران يونيو 1945، لم يفت الصحافة السوفياتية ان تشير بعناوين كبيرة وفي صفحاتها الأولى الى الواقع الجديد الذي تمخضت عنه الهزيمة الكبرى والاساسية التي اصابت المانيا الهتلرية - والمانيا بشكل عام على أية حال - بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية. والواقع الجديد، هو ان المانيا - هذه المرة - سوف تقسم، ولن يكتفي الحلفاء المنتصرون باقتطاع أجزاء منها، ذات خصوصية تاريخية على أية حال، وإلحاقها بالأمم المجاورة كما كان الحال بعيد الحرب العالمية الأولى. هذه المرة ستزداد جرعة الذل وستزداد حدة معاقبة الالمان على ما اقترفت ايديهم. وهكذا كان لصحافة موسكو ان تنشر في صباح ذلك اليوم تفاصيل مثيرة حول "تثبيت سيطرة الاتحاد السوفياتي على ما لا يقل عن نصف الأراضي الألمانية". طبعاً سوف يتبين لاحقاً ان الحجم الذي تحدثت عنه الصحافة السوفياتية كان فيه كثير من المبالغة. لكن الجوهر ظل هو نفسه: الجوهر هو ان الحلفاء المنتصرين في الحرب، السوفيات والاميركيين والبريطانيين والفرنسيين، سوف يتقاسمون السيطرة على الأراضي الالمانية فيما بينهم، وذلك تبعاً ل"ميثاق احتلال المانيا" الذي وقعوه في صبيحة ذلك اليوم. ومن نافل القول ان قيادة الحلفاء استاءت من ذلك الاعلان السوفياتي، لأنها كانت قد قررت ان تبقي تفاصيل الاقتسام مكتومة حتى إشعار آخر، ولأنها تعلم ان الصحافة السوفياتية لا يمكنها ان تنشر أي حرف إن لم يكن رسمي المصدر. ومن هنا ما اعتبرته من ان نشر الاخبار المضخمة حول "الحصة السوفياتية" انما كان من قبيل الضغط الاعلامي الذي يشي بأن السوفيات ليسوا راضين عن "الحصة" التي اعطيت اليهم. وكان مما زاد الطين بلة ان الصحافة السوفياتية نشرت خرائط تصور المناطق التي يفترض ان تكون خاضعة لنفوذ واحتلال الجيش الاحمر، وهي ممتدة الى أبعد بكثير - في اتجاه الغرب - من الحدود التي يتمركز الجيش الأحمر فيها، بمعنى ان تلك المناطق كانت تضم اقاليم تورنغيا وساكسوني ومكلنبرغ وآنهالت، التي لا يفترض ان تكون لها علاقة بالجيش الأحمر. ما يعني بالتالي انه، لو صدقت الخرائط السوفياتية، سيكون على القوات الاميركية المرابطة في بعض تلك الاقاليم ان تنسحب الى مسافة 250 كلم الى الغرب، متخلية عن مدن تحتلها مثل لايبزغ وشمنتز وفيمار... الخ. تبعاً لتلك الخرائط نفسها، لم يكن من المفترض ان تنسحب القوات البريطانية من المناطق الشمالية - الغربية التي تحتلها وتتضمن مدنا مثل كيبل وداسلدورف وكولونيا، حتى ولو كان عليها ان تبتعد قليلاً عن منطقة فايسمار التي يرابط فيها الروس. هذا بالنسبة الى المنظور السوفياتي. أما المنظور البريطاني فكان يرى - ومن دون تحديدات كثيرة - ان الأراضي الالمانية سوف تقسم الى أربع مناطق نفوذ بين البريطانيين والروس والفرنسيين والاميركيين، مع تشكيل لجنة رقابة مشتركة. أما بالنسبة الى العاصمة الالمانية برلين، فكان عليها ان تكون محاطة بمنطقة النفوذ الروسية بأكملها، رغم تقسيم المدينة بين الحلفاء الأربعة، ما يعني ان القوات الحليفة الغربية المرابطة في المدينة سوف تكون، وبصورة دائمة وتامة، تحت حصار سوفياتي واضح. هذه التقسيمات التي أعلنت في ذلك اليوم، سواء أكان ذلك من قبل الصحافة السوفياتية الرسمية، أو من قبل الصحافة البريطانية، وكانت هنا ذات طابع تخميني، اثارت بالطبع قلقاً في طول أوروبا وعرضها. ومع هذا فإن العواصم الغربية لم تعلق ولم توضح، مفضلة ان تترك التقسيم الحقيقي المعتمد، خارج اطار التداول. وحدها الأوساط الرسمية البريطانية علقت قائلة، بأنه - على الرغم من وضوح عدم الدقة فيما نشر في موسكو - من المؤكد ان الصورة النهائية للتقسيم لن تكون مشابهة تماماً، للأوضاع العسكرية التي أسفر عنها احتلال القوات العسكرية الحليفة لألمانيا، خلال الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، حيث ان التقسيم النهائي سوف يراعي اعتبارات جغرافية عديدة لا دخل لها في التوزع العسكري الحالي. مهما يكن فإن الشكل النهائي لتقاسم النفوذ أتى - في المحصلة الأخيرة - مشابهاً كثيراً لما نشرته الصحافة السوفياتية، حتى وان لم يعط السوفيات "أكثر من نصف الأراضي الالمانية" كما كان أعلن أولا. ألمان يعبرون من مناطق النفوذ الاميركية الى مناطق النفوذ السوفياتية فور إعلان التقسيم.