شكل كل من لبنان وسورية حتى اواخر الخمسينات سوقاً مشتركة. وعندما انتهت الوحدة الجمركية بينهما مطلع عام 1950 كان للصناعة السورية باع طويل في ذلك. فالسوريون أرادوا يومها حماية صناعاتهم الناشئة من المنافسة الأجنبية عبر رفع الرسوم الجمركية على البضائع الأجنبية التي تنافس منتجاتهم. وبالمقابل أصر اللبنانيون على التمسك بمذهب التجارة الحرة بغض النظر عن آثار ذلك على صناعة البلدين. وهكذا وقع الانفصال الجمركي وأزيلت مخاوف الصناعيين السوريين من قيام التجار اللبنانيين بإغراق سوقهم ببضائع مستوردة ورخيصة. غير ان وقوعه قضى آنذاك على آمال قيام اتحاد اقتصادي بين البلدين. آمال ومخاوف واليوم تجددت الآمال بإعادة الاتحاد الجمركي واقامة سوق سورية - لبنانية مشتركة بعد البدء بتنفيذ اتفاق سوري - لبناني يقضي بإلغاء الرسوم الجمركية على السلع الصناعية الوطنية او المنتجة في كلا البلدين في غضون اربع سنوات اعتباراً من مطلع السنة الجارية وبمعدل 25 في المئة سنوياً. ويشكل هذا الاتفاق جزءاً من مجموعة اتفاقات تهدف الى تحقيق تكامل اقتصادي بين البلدين. غير ان البدء في تنفيذه لم يجدد الآمال وحسب، بل عادت ايضاً المخاوف من اضرار المنافسة لتظهر بين صفوف الصناعيين من كلا البلدين، خصوصاً بين صفوف السوريين. ومن المفارقات استناد هذه المخاوف الى المبررات نفسها إبان الأربعينات لأن سورية لا تزال تتبع سياسة الحماية الجمركية لصناعتها مقابل سياسة التجارة الحرة التي يتبعها لبنان. ومما يعنيه ذلك ان الصناعيين السوريين لم يتعودوا بعد على النشاط في جو المنافسة بالشكل المطلوب، مع العلم ان الاعوام الاخيرة شهدت انفتاحاً نسبياً على الاسواق الخارجية. من اشد ما يخشاه هؤلاء قيام التجار اللبنانيين باستيراد بضائع رخيصة من بلدان شرق آسيا وغيرها وطرحها في السوق السورية على انها منتجات محلية بعد اجراء عمليات تغليف ووضع سمات انتاج لبنانية عليها. وباستثناء خشية بعض الصناعيين اللبنانيين من منافسة المنتجات النسيجية السورية، يبدو اهل الصناعة في لبنان أقل خوفاً من أقرانهم في سورية. اذ انهم ينتجون في سوق شبه مفتوحة تعودوا فيها على أشد انواع المنافسة ضراوة. كما ان انفتاحهم على سورية يعني كسبهم لسوق جديدة قوامها نحو 16 مليون مستهلك. ويشكل حجم هذه السوق أربعة امثال حجم سوقهم التي تقارب نحو اربعة ملايين مستهلك. ولا يغير من جوهر ذلك حقيقة ان القدرة الشرائية في هذا الاخير أعلى. ضريبة التكامل اقل بكثير من عوائده منذ اشهر يدور حوار ونقاش مكثف نسبياً حول الغاء الرسوم الجمركية على السلع الصناعية بين البلدين. ويلاحظ بهذا الخصوص التركيز على الأضرار الآتية التي ستصيب هذه الفئة او تلك بدل التركيز على المنافع التي يمكن تحقيقها في المستقبل المنظور والبعيد بالاعتماد على ميزان السوق الأوسع التي ستضم نحو 20 مليون مستهلك. وبذلك تغيب عن البال حقيقة ان أي خطوات تتخذ باتجاه التكامل الاقتصادي بين بلدين او مجموعة بلدان سيكون لها ثمن يدفعه هذا الفرع الصناعي او ذاك. ويتم دفع الجزء الأكبر من هذا الثمن في البداية كنتيجة لعمليات إعادة الهيكلة والتكيف التي تتبع هذه الخطوات. غير ان الثمن الذي يتم دفعه آنياً لا يقارن بالمنافع التي تأتي لاحقاً، ومن بينها افساح المجال للتوسع في القطاعات الأكثر قدرة على المنافسة وما يولده ذلك من فرص للعمل وتراكم لرأس المال وانعاش للنشاط في فروع اخرى. ولنا في تجربة بلدان الاتحاد الأوروبي خير مثال على ذلك. اذ ادت خطوات التكامل التي تم اتباعها خلال الاعوام الماضية الى اعادة هيكلة صناعاتها بشكل راديكالي. وأدى ذلك الى اختفاء صناعات مقابل تقوية ونشوء اخرى في اطار عملية التكامل الصناعي والاقتصادي الجارية والتي تم تتويجها بانطلاقة العملة الاوروبية المشتركة. مجالات تنسيق وتعاون كبيرة وبالنسبة لسورية ولبنان، من الطبيعي ان يؤدي فتح سوقهما امام المنتجات الصناعية الوطنية الى نشوء منافسة بين صناعات مختلفة من كلا البلدين ستكون الغلبة فيها للأكثر كفاءة. غير ان هناك صناعات ستتطور على اساس التنسيق والتكامل. وعلى سبيل المثال ففي الامكان التوسع في صناعة الملابس اللبنانية بالاعتماد على الأنسجة السورية. كما يمكن للصناعة السورية الاستفادة من قروض وتسهيلات تقدمها المصارف اللبنانية او تساعد على تقديمها. واضافة الى ذلك هناك امكانات لانشاء وتطوير صناعات جديدة تقوم على تصنيع الثروات الزراعية والصناعية المتوافرة في سورية مثل القطن والحبوب والزيتون والنفط والغاز والفوسفات. ويمكن الاعتماد في هذا الخصوص على قوة العمل المتوافرة في كلا البلدين والتي تعتبر من افضل قوى العمل العربية لجهة التأهيل والخبرة. وعلى صعيد التمويل ففي الامكان كسب جزء من رؤوس الأموال العربية المغتربة التي تقدر بأكثر من 800 بليون دولار اميركي، ويقدر نصيب السوريين واللبنانيين فيها بما لا يقل عن 100 بليون. صحيح ان الغاء الرسوم الجمركية على المنتجات الصناعية الوطنية يبعث على المخاوف، لكنه يبعث بشكل اكبر على التفاؤل خصوصاً على المدى البعيد. وكمثال على ذلك فان تمكن البلدين من تصنيع القطع السوري الذي يتم تصديره حالياً على شكل مواد اولية يولد قيمة مضافة تقدر بأكثر من بليوني دولار في السنة. ولنا ان نتساءل عن حجم القيمة المضافة التي يمكن ان يولدها قطاع سياحي متكامل بينهما، سيما وان هذا الاخير يملك ثروة نادرة. وأخيراً فإن نجاح البلدين في دفع عملية التنسيق والتكامل الصناعي مرهون بقدرة الاجهزة الحكومية على تبديد مخاوف الصناعيين من تجاوزات التجار وغيرهم. وهنا تبرز قدرتها على مراقبة حركة الواردات بما يخدم حماية الصناعة الوطنية من جهة وفتح سوقها امام المنافسة بشكل تدريجي من جهة اخرى. كما انه مرهون بقدرة البلدين على توحيد قوانين وأنظمة الاستثمار الصناعي وتبسيطها تجاه الاستثمارات الخاصة. * أكاديمي واقتصادي سوري.