عجيب أمر هذه المعارضة السودانية، التي ظلت ترفع مسوغاً واحداً لا غير هو المسوغ الوحيد - المقنع - لتبرير معارضتها لنظام الحكم في الخرطوم... وهو مسوغ مشروع مفهوم، يتكئ الى استحقاقات العهد الديموقراطي... أي قبيل ثورة الإنقاذ عام 1989م. هذا المسوغ لن يكون غير ان النظام انقلابي جاء بالقوة ليزيح نظاماً ديموقراطياً شرعياً منتخباً، اذ اقتلعته عاصفة الانقاذ لتُحِل محله - آنذاك - مجلساً لثورة الانقاذ وظيفته اعادة ترتيب البيت السوداني، على وجه ينقذه من المخاطر المحدقة به والتي ازدادت خطورتها في ظل حكومة الصادق المهدي الديموقراطية... وفيما بعد اتكأت ثورة الانقاذ في مشروعيتها الجديدة على وتائر المشروع الإسلامي، الذي ظل يستمد وهجه من فكر منظره الدكتور حسن الترابي، ويستمد حركته من فعل القوى الاسلامية المسيّسة العاملة على الساحة السودانية في ذلك الوقت، خارج إطار حزبي الأمة والاتحادي الديموقراطي، أي خارج حواضن الاسلام التقليدي - الصوفي في السودان، المعبّر عنه بطائفتي الانصار المهدية والختمية الميرغنية. من الثابت ان المشروع الاسلامي على الوجه الذي طرحته الانقاذ - آنذاك - كحل لمشاكل السودان قوبل بعاصفة من القلق والرفض... المعارضة السودانية التي كثفت نشاطها أثناء حرب الخليج الثانية وبعدها، هي التي إغتنمت تلك الفرصة التاريخية، وبدعم بريطاني واضح استطاعت منذ الايام الاولى أن تشكل "لوبي" قوياً أثر في علاقات السودان الخارجية وبدأ يضغط على النظام الحاكم للبحث عن مخرج للازمة المستعصية. وعلى رغم النجاحات التي حققها النظام السوداني على مستوى رد العدوان الجنوبي ودحر الجنوبيين المدعومين من اطراف دولية ومنظمات كنسية معروفة ومن بعض دول الجوار الافريقية الناقمة على الحالة السودانية، كأوغندا واريتريا، لاسباب يضيق المجال لذكرها، من بينها بالتأكيد الحرب بالوكالة التي تجيد القوى الغربية الناقمة على التجربة الوليدة تجنيد بعض الدويلات الافريقية للعب دور أو أكثر في مستقبلها، فإنه ظل يعاني الأمرّين من الازمة السياسية والازمة الاقتصادية. والغريب أن العداء السوداني لم يمنع المعارضة، التي وحدت صفوفها وشكلت طيفاً واسعاً تبدّى في التجمع الوطني الديموقراطي، الذي تشكل من حزب الامة والاتحادي الديموقراطي وبعض قوى اليسار، من أن تضم الى جناحها، او يضمها الى جناحه، المنشق الجنوبي جون قرنق رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي قاتلت - على تعدد تنظيماتها - الأنظمة السودانية كافة منذ العام 1955. وقد أصبح بين عشية وضحاها الرفيق المناضل جون قرنق الذي لا يساوم على وحدة السودان وسلامة اراضيه، على حد تعبير زعماء المعارضة. وإذ تهيأت للتجمع الوطني الديموقراطي قاعدة واسعة من الحركة، بفضل الدعم الدولي الذي حظي به، خصوصاً من الولاياتالمتحدة ومن دول الجوار العربية التي ظلت علاقاتها متوترة مع المشروع السوداني، وبالذات مصر واريتريا، وبفضل هذه الحركة تم تكريس المزيد من الضغوط على النظام السوداني... إلا أن بعض أطياف تلك المعارضة بدت واقعية وهي تشهد التطورات الاخيرة في الصراع مع النظام، والتي ظهرت انها تميل لمصلحة النظام خصوصاً في ترتيبات العلاقات العربية - السودانية، اذ بدأت الحكومات العربية تدرك حجم الضرر الذي يمكن ان يخلفه المزيد من التمادي مع مشروعات التفتيت والاضعاف لجبهة السودان الداخلية التي يدعو لها بلا تحفظ بعض قادة المعارضة لاسقاط النظام - خصوصاً جناح الصادق المهدي في حزب الأمة - الذي تيقن أخيراً بأن أي محاولة لاسقاط النظام برمته من الخارج أو بفعل قوى الداخل هي عملية شبه مستحيلة، وبالتالي قدم بعض التنازلات التي تمكنه من العودة الى نشاطه السياسي في السودان تحت مظلة نظام تعددي وربما بشروط المؤتمر الوطني الحاكم. إذن، من الواضح ان القراءة السياسية للوضع السوداني - كما يراها الصادق - لم تعد تخدم المعارضة التي زجّت باسمها في أتون صراع باطنه رحمة الديموقراطية وظاهره عذاب الجنوب الذي لم يعد خافياً انه يشتد أواراً وجحيماً بدعم قوى محلية واقليمية ودولية ومنظمات كنسية عالمية. واذ تقدم المعارضة المنقسمة على نفسها ازاء المبادرة الليبية - المصرية بعض التنازلات فلأنها تدرك ان عامل الوقت لا يخدمها على المدى البعيد. فالنظام السوداني بدا أكثر تماسكاً، وأكثر شعبية، وبدت علاقاته مع دول الجوار العربية والافريقية تتخذ طابعاً أكثر احتراماً لسيادة النظام وأكثر قبولاً بدعمه. وربما كان اجتماع وزراء الخارجية العرب في مجلس الجامعة العربية الاخير خير معبّّر عن هذا التحول الايجابي، حيث سجّل البيان الصادر عن الاجتماع، دعم الدول العربية لوحدة السودان ورفضها للتدخل في شؤونه. وكأن البيان الوزاري بدأ برفع الغطاء العربي عن اي دعم لحركة المعارضة التي ظلت تعمل على وتائر التصعيد وتتمسك بالمستحيل. ولم تكن زيارة جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان للولايات المتحدة اواخر شهر ايلول سبتمبر الماضي ولقاؤه بالمسؤولين الاميركيين واعضاء الكونغرس وإلقاؤه كلمة أمام مجلس العلاقات الخارجية في الكونغرس حول تطورات النزاع في جنوب السودان، سوى مؤشرات الى عمق التدخل الاميركي في المسألة السودانية على نحو ينذر بالمزيد من المخاوف لدول الجوار السوداني العربية التي بات يثيرها اي نوع من التحول لمصلحة قوى التفتيت والتجزئة، خصوصاً على وتائر التحول الدولي في معالجته لنزاعات الاقليات. وما الامثلة التي تجسدت في يوغوسلافيا وتيمور الشرقية ومحاولات تفتيت العراق سوى علامات بارزة في مسيرة السياسة الاميركية التي باتت تكرس أسس هذا التحول وتشرّع للتفكيك والتجزئة. منذ اليوم الذي وضعت فيه المعارضة السودانية الشمالية - وهي ذات تاريخ سياسي له بعد ديني ووطني - يدها في يد الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت تحاربها من قبل وهي مدعومة من جانب قوى ومنظمات اقليمية ودولية ذات صبغة دينية كنسية وارتباطات مشبوهة مع اطراف دولية عدة... منذ حدث ذلك الائتلاف بين أطراف يشهد تاريخها بعمق التناقض الايديولوجي في ما بينها، والمعارضة الشمالية تخسر المزيد من تعاطف الشارع العربي الذي ما عاد يحتمل هذا التطور السياسي البراغماتي الذي لا يخلف سوى مزيد من التشويه في تاريخ احزاب تقليدية ذات عمق ديني... وربما لم يتبق لها في الشارع السوداني الآن سوى بعض المنتمين الى طريقتها من الختمية والانصار. اما جيل الشباب الذي تربى على وتائر الجهاد في الجنوب وحمل آلام الانقاذيين وآمالهم فإنه يشهد على عمق التحول الذي بات لا يدين للأنصار أو الختمية اي للأمة والاتحادي إلا بشواهد حزبية ربما لم تندثر حتى الآن، الا انها تقوى بفعل دعم الخارج ويلفها رداء المعارضة الديموقراطية بشيء من بريقه، وربما لا شيء سواه. ولكن بقي التحول الاخير الأكثر تأثير في علاقة المعارضة بالنظام، بل الابلغ اثراً في الوجدان العربي والسوداني حيال المعارضة وتشكيلاتها، وهي تلك المحاولات التي نالت انبوب النفط السوداني بالتفجير والتخريب. واذا كان الجناح العسكري في التجمع الوطني الديموقراطي أعلن مسؤوليته عن هذا التفجير، فإنه ربما دق المسمار الكبير في مصداقية المعارضة السودانية. وبغضّ النظر عن مدى الاثر الاقتصادي الذي يمكن أن يخلفه حادث كهذا، ربما استطاع النظام السوداني تجاوزه - وهو الذي عليه ان يحمي 1650 كلم على امتداد الخط النفطي من المنبع الى المصب - الا ان الاثر السلبي الكبير الذي خلفته تلك الحوادث لن يكون في أي حال لمصلحة التجمع المعارض الذي بدا كأنه يواجه شعب السودان الجائع المريض الذي امتدت احلامه على طول امتداد هذا الخط. وكأنه يمثل له الشريان - أو الحبل السري - الذي سيغذي جَوعته، ويدفع عنه غوائل الفقر والمرض، بعد طول انتظار وصبر، فإذا به يفاجأ بتفجيره وتعطيله لئلا ينتفع منه النظام! لقد نقل هذا الحادث وحوادث اخرى غيره المعارضة السودانية من خانة المعارضة التي تدافع عن حق مشروع يستند على خيار شعبي افرزته صناديق الاقتراع الى معارضة تضرب في كل اتجاه فتراها حيناً تؤيد الهجوم الاميركي على مصنع أدوية الشفاء في السودان التي لم تثبت التحقيقات حتى اللحظة علاقته بأي منتجات تدخل في صناعات اسلحة الدمار الشامل وحيناً ترسل وفودها لتفاوض المقامرين والمغامرين على مستقبل السودان، واخيراً تحارب بعض المكتسبات التي تحققت للسودان بعد جهد جهيد وعناء طويل، في سبيل حرمان النظام من عوائدها. وهو تبرير لا يمكن تصنيفه في قاموس السياسة وعرف السياسيين سوى بالنزعة التخريبية لمصلحة قوى التوتر الاجتماعي وتكريس التخلف التنموي الذي عليه ان لا يرحل الا على ايدي المعارضة فقط * كاتب سعودي.