قبل ان يقرر رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري اصدار جريدة "المستقبل"، واجه اعتراضات مختلفة ممن نصحوه بعدم الخلط بين السياسة والصحافة مثلما فعل المرحوم عبدالله اليافي الذي خسر الميزتين معاً. واستخدم بعضهم منطق العميد ريمون اده لدعم وجهة النظر القائلة بأن السياسي ينحسر رصيده عند اصحاب الصحف عندما ينافسهم على اجتذاب القراء واستمالة المعلنين. لهذا فضّل العميد ان تكون تعليقاته وتصريحاته موزعة على كل الصحف… بدلاً من ان تكون حكراً على صحيفة خاصة بنشاطاته. بعد خروجه من الحكم، وتعرضه مع معاونيه لحملات الانتقاد والتشهير، قرر الحريري اصدار "المستقبل" لتكون منبر الدفاع عن نهجه، والدرع الواقي لدرء اخطار الهجمة الاعلامية المتواصلة التي تشنها الحكومة والقصر ضد منجزاته. ولقد برر هذه الخطوة بالقول ان الصحف المتعاطفة معه، او المدرجة على قائمة مساعداته، تبقى محاذرة ومتحفظة في اظهار وجهة نظره الكاملة. لهذا صدرت "المستقبل" لتشكل - حسبما وصف رسالتها رئيس مجلس الادارة - المدير العام الفضل شلق - "فارقاً وإضافة في العمل الصحافي والسياسي بحيث تسهم في توسيع دوائر الحوار والنقاش بين اللبنانيين". عقب صدور العدد الأول من جريدة "المستقبل"، نشرت "الوكالة الوطنية للاعلام" بياناً موقعاً من "مصدر وزاري" حملت فيه بقسوة على الحريري، متهمة اياه بتقاسم موارد البلاد، وبتخريب مسيرة بناء دولة القانون والمؤسسات. وسخر المصدر الوزاري المجهول من "مؤتمر اصدقاء لبنان" الذي عقد في واشنطن بحضور ممثلي اكبر الدول الصناعية، واصفاً نتائجه ب"الكذبة الوقحة"، الأمر الذي ينسجم مع موقف دمشق التي اعترضت في حينه على هذه المبادرة لأنها تشكّل تدخلاً خارجياً في الشأن الاقتصادي اللبناني! ثم تطرق البيان الى اول مخالفة اقترفها رفيق الحريري اواخر تموز يوليو 1993، عندما وافق مجلس الوزراء برئاسته على دخول الجيش الى منطقة قوات الطوارئ الدولية. واستدعي الحريري الى دمشق على عجل لافهامه بأن اقتراحه المرتجل ينسف دور الجنوب اللبناني كوسيلة ضغط تستخدمها سورية لارغام اسرائيل على ربط المسارين. ولكن بيان الوكالة الوطنية اجتهد في تفسير النيات السياسية المبيتة، وقال ان الحريري "كان يرمي الى تحويل الجيش الى أداة لضرب المقاومة… والى سياج لحماية العدو من هجماتها". وفي ختام البيان ابلغ المصدر الوزاري المجهول رفيق الحريري بألا يأمل في العودة الى رئاسة الحكومة… واصفاً دوره السابق اثناء مرحلة حكمه بدور "الفاسد"، وبأنه في مرحلة المعارضة اليوم "قد تحول الى متآمر على الوطن"! توقع المواطنون إثر صدور هذا البيان العنيف ان يستغل رفيق الحريري حملة التجريح ليبدأ في جريدته حملة الدفاع عن النفس، خصوصاً وان الدكتور الحص أنكر علاقة الحكومة بالمصدر الوزاري، رافضاً ونافياً ان يكون هذا الاسلوب اسلوبه. وفوجئ القراء بظهور البيان في العدد الثاني من "المستقبل"، وقد ذيلت خاتمته بسؤال خجول يقول: ما هو مبرر توتير الاجواء السياسية في وقت لم يصدر عن المعارضة أي موقف بارز؟ وبدلاً من ان يوظف الحريري هذا التعاطي الرسمي المنفّر لتعزيز شعبيته… فقد لاذ بالصمت المطبق، وطلب من انصاره ونواب كتلته مقابلة الأذى بالحسنى، واصفاً موقفه المنكفئ بأنه موقف رجل الدولة لا موقف رجل السياسة، معتبراً ان مصلحة البلاد تقتضي السكوت على الاهانة. التداعيات السياسية التي رافقت عملية صدور البيان، اثبتت ان العهد لا يحتمل انتقاد المعارضة، وان السهام التي سُددت الى صدر الحريري سبق ان اطلقها مصدر وزاري بواسطة الوكالة الوطنية للاعلام ضد وليد جنبلاط. وبسبب لغة التجريح التي صيغ بها البيان السابق الذي وصف جنبلاط "باللص"، فقد تعهد وزير الاعلام انور الخليل امام المجلس النيابي بأن يلتزم الاعلام الرسمي الموضوعية. وذكّر النائب نسيب لحود بأن الوكالة الوطنية خرقت ضمانات الوزارة، وانتهكت كرامة المجلس النيابي بطريقة منافية لشعارات دولة النظام والقانون. واعترض البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله صفير على اسلوب تجاهل المؤسسات الرسمية - كما حدث في العهد الشهابي - مطالباً الدولة بالمواجهة الشجاعة بدلاً من الطعن في الظلام. واغتنم رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي هذه الأزمة ليكرر تحذيره من وجود خلل في الحكم يؤدي تلقائياً الى حدوث اختلال في توازن الصلاحيات بين الرئاسات التي يجب ان تبقى متوازنة حسب اتفاق الطائف. وطالب كرامي بضرورة ممارسة حق رئيس الوزراء كمسؤول عن تنفيذ السياسة العامة… وعن ممارسة صلاحيات السلطة الاجرائية. والملاحظ ان رئيس الوزراء سليم الحص لم يتصرف مع القصر كما اعتاد التصرف مع الرئيسين السابقين الياس سركيس والياس الهراوي. وبدلاً من ان يعاقب الفاعل المجهول - المعروف بسبب تجاوز صلاحيات وزارة الاعلام، اتهم انصار الحريري بأنهم ركزوا اهتمامهم على شكل البيان وتجاهلوا مضمونه مع كل ما يحمل من وقائع خطيرة. وكان بهذا التفسير يؤكد موافقته على مضمون البيان، وعلى اقراره بشتى الاتهامات الموجهة الى الحريري بواسطة "المصدر الوزاري". ولقد اعتمد النائب نجاح واكيم على جواب الحص، ليحمل على اسلوب الحكومة لأنها تتجاوز الرئيس الهراوي وتسجن برصوميان… وتتجاهل الرئيس الحريري وتلاحق عيتاني ويموت. وأعطى واكيم ميشال المر كمثل على انفصام سياسة الدولة، متسائلاً: كيف يكون ميشال المر وزيراً في مرحلة الفساد تلك وشريكاً فيها، ثم يصبح وزيراً في مرحلة عنوانها احترام القانون والمال العام؟ أنصار الحريري يتساءلون في مجالسهم الخاصة عن التحول الجذري الذي طرأ على موقف الرئيس الحص، وما اذا كانت عملية اقصائه عن الحكم مدة طويلة قد اقنعته بأهمية التشبث بكرسي الحكم ولو استوجب ذلك التنازل عن كل ما كان يمثله من عناد واصرار على تنظيم اداء العلاقات بين السلطات بطريقة لا تسمح بطغيان واحدة على اخرى. وهم يذكرون بأن الحص لم يكتف باعلان مواقفه، وانما سجلها في كتابه الاخير "عهد القرار والهوى" تحت عنوان "إشكالات تطبيق الطائف" وقام بشرح ملابسات تفسير نصوص اتفاق الطائف تأميناً لضبط الممارسة في الحكم، وضماناً لأقصى ما يمكن من التفاهم والتعاون والانسجام بين الرئاسات الثلاث. وبما ان ما حدث مع الدكتور الحص عام 1990 قد تكرر مرتين في هذا العهد، فإن المقارنة تقتضي مراجعة موقف الحص في السابق وذلك بهدف استكشاف دوافع التغيير التي فرضت عليه غض النظر عن التجاوزات. يقول المراقبون الحياديون ان الرئيس الحص ذاق مرارة الغياب عن السلطة مدة طويلة، وتعلم درساً قاسياً عرف بعده كيف يفرق بين النظريات والممارسات. كما تعلم ايضا ان اتفاق الطائف يحتاج الى تعديل متواصل لكي ينقل لبنان من حال الحرية المتعثرة الى حال الديموقراطية الصحيحة. وهو في تبرير تجاوزات الاجهزة يقول بأن أنسجامه مع الرئيس اميل لحود حول القيم الأساسية وأبرزها النزاهة، وحب العدالة والاستقامة، ومحاربة الفساد، والعمل على تطبيق النظام والقانون… هذه القيم الأساسية تؤلف القاسم المشترك بينه وبين رئيس الجمهورية. وهو في هذا المناخ حصل على وعد بأن يبقى اكثر من ثلاث سنوات بانتظار إعداد خلفه المقبل الذي يرصد عمر كرامي تحركاته بقلق ظاهر. يبقى سؤال أخير يتعلق بالدوافع الحقيقية التي سمحت بصدور البيانين ضد وليد جنبلاط والحريري، وما اذا كان هذا النهج دليلاً على منع نشوء معارضة ضد العهد… أم مؤشراً على نقل الحملات ضد رموز العهد السابق استعداداً لمحاكمتها واقصائها عن الساحة السياسية، مثلما يجري في سورية؟ وربما تكون دعوة نجاح وكيم بضرورة الغاء الطبقة السياسية بكاملها، هي المدخل لانشاء حزب سياسي واحد لا تزعجه المعارضة ولا يقض مضجعه صوت الديموقراطية. وبهذا تكون حرب الالغاء التي استمرت 16 سنة من دون ان ينجح أي فريق في الغاء الفريق الآخر عسكرياً… قد نجحت سياسياً عن طريق الغاء شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني كانت تدعى في زمن الديموقراطية… حزب المعارضة! يوم الخميس الماضي تعرضت البنية التحتية في بيروت والجنوب لانتقام اسرائيلي واسع، أيقظ المواطنين على حقيقة الواقع الهش الذي يستدعي قيام انسجام وطني لمقاومة الهجمة الشرسة. وهذا الواقع يذكرنا بحال التناحر الذي عاشته فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى عندما كان زعيم المعارضة كليمنصو يخاصم الرئيس بوانكارية على صفحات الجرائد. ولكي يحصن بوانكاريه الجبهة الداخلية أجرى مصالحة شاملة مع المعارضة، الأمر الذي ساعد فرنسا على ربح الحرب ضد المانيا. وبالمقارنة، فإن الجبهة الداخلية اللبنانية تعاني من تجاذبات مؤلمة شغلت الحكومة عن التنبه الى القضايا المصيرية الخطيرة، على اعتبار ان الأمن مجير للحماية السورية... وان قدر الجنوب مجير لإرادة "حزب الله". ولم يعد أمام الدولة من مسؤولية تمارسها سوى إلهاء الناس بجنس الملائكة، وبالغرق في مستنقع الماضي بطريقة مسرحية تهدد سلامة المستقبل! * كاتب وصحافي لبناني.