هل يسع المرء إلا أن يغبط كل قائل، جازم، بسهولة الحسم في شأن الحرب الجارية حالياً في يوغوسلافيا، لا يساوره شك أو تردد في الإدانة وحيث يجب أن يوجهها، أو في المساندة ولمن يتعين أن يمحضها؟ فالأمر، في نظر أحد فريقي الرأي، وهو الذي يبدو غالباً واضحاً جلياً: الديكتاتور الصربي ميلوشيفيتش ما انفك يوغل بطشاً بالأقلية الألبانية في كوسوفو. مقترفاً بحقها أفظع ضروب الاضطهاد و"التطهير العرقي"، تقتيلاً وترويعاً وتهجيرا، بحيث لا يمكن إلا التهليل لمبادرة حلف الناتو إلى مواجهته بالقوة، خصوصاً أن الديكتاتور المذكور لم يترك متسعاً لمعالجة غير ذلك. أما الفريق الآخر، فهو، وإن لم يذهب إلى حد المجاهرة بالدعم لبلغراد على ما تفعل قلة من أقصى اليمين القومي في أوروبا، إلا أنه لا يكتم اعتراضه، أو على الأقل تحفظه، عن تلك الحرب الموصوفة ب"الأطلسية"، تأكيداً على صفتها غير القانونية، وعلى أنها تخاض بمعزل عن كل مرجعية اجماعية دولية، هذا ناهيك عن أنها قد تقضي إلى استفحال ما جاءت تزعم معالجته، إن هي اتخذت ذريعة من قبل طاغية صربيا، على ما هو جار حالياً، للمضي في افراغ اقيلم كوسوفو من سكان الألبان. غير أن الموقفين من تلك الحرب، على ما سبق توصيفه، وإن ابتسارا، يتضمنان ما يوحي بأن الاطمئنان إلى أي منهما، لدى كل فريق، لا يخلو من بعض اصطناع أو يشوبه قدر من الارغام وبعض من تعسف. حيث بدا من سارع إلى مباركة القوات الأطلسية في أعمالها العسكرية ضد ديكتاتور الصرب بمظهر من يضحي بالقانون الدولي، في حين لاح من يصر على احترام الإرادة الدولية، تشريعات ومحافل، كمن يولي الاعتبارات الاخلاقية منزلة أدنى أو نافلة. ولعل ذلك من أبرز ما يكتنف الخوض في شأن الحرب اليوغوسلافية من اشكالات، فذلك النزاع قد أوجد مواجهة بين القانون والقيم على نحو يذكّر ببعض تراجيديات الاغريق بما يجعل من ترجيح الأول على الأخيرة أو العكس، أمراً لا يمكن تنكبه من دون بذل كلفة ثقيلة أقله لمن كان في مثل حالنا ينحصر دوره وفعله في مراقبة الأمور على صعيد الضمير وفي مجاله، فمن ناحية لا غرو في أن ديكتاتور الصرب قد أجرم واقترف من الجرائم الإنسانية أبشعها، وأنه ما انفك مقيماً على ذلك الضرب من الاجرام منذ ان ارتفع على انقاض يوغوسلافيا التيتوية إلى سدة الحكم في بلغراد، لكن ما لا شك فيه، من وجه آخر، أنه هذه المرة وفي ما يخص مشكلة كوسوفو وعلى بشاعة ما ارتكب ويرتكب لم يخرق أياً من القوانين الدولية، ناهيك عن أن مبادرة حلف شمال الأطلسي إلى تسليط العقوبة عليه وهي في حد ذاتها مبررة مشروعة إلى أبعد الحدود، لم تستند إلى أي تفويض من أسرة الأمم، كان من شأنه أن يسبغ على شرعيتها الاخلاقية غطاء من قانون. مثل ذلك الإشكال كان يمكنه أن يكون أخف وطأة، وأقل ارباكاً، لو ان مثل ذلك القصف الجوي ضد صربيا قد جد إبان حرب البوسنة - الهرسك عندما كانت الأمور أوضح، أي عندما قرن ميلوشيفيتش جرائمه ضد الإنسانية بخرقه للأعراف الدولية باعتدائه على كيان قائم الذات يحظى بالاعتراف. لذلك، ربما وجد من بين من أبدى بالغ الحماسة للقصاص الذي يسلطه حلف الناتو على ميلوشيفيتش من تعمد أن يكظم في الآن نفسه كل حرص على القانون الدولي على اعتبار ان سياسة التطهير العرقي، وهي إجرام أقصى، صنو الاجرام النازي وقرينه، وتحديداً بالنظر إلى سمته القصوى تلك والاستثنائية، لهي مما يبرر غض الطرف عن كل خرق لذلك القانون العتيد، حتى لا يتحول هذا الأخير إلى ملاذ يحتمي به المجرمون في حق الإنسانية من أمثال ميلوشيفيتش يقترفون في كنفه ووراء سياجه المنيع ما يريدون، ولا شك في أن السابقة الهتلرية، وهي التي ما زالت تفعل فعلها في الذاكرة والضمير الغربيين وخزاَ وإيلاماً وتعذيباً، هي التي تكمن وراء ذلك التجاوز على القانون وتسوغه، إذ من المعلوم أن التزام الديموقراطيات الغربية خلال فترة ما بين الحربين، بذلك الضرب من "الواقعية" القانونية والديبلوماسية في مواجهة الصعود النازي كان من بين ما مكن هذا الأخير من أسباب الغلبة، حتى إقدامه على إضرام نزاع عالمي كالذي نعلم وعلى تنفيذ أفظع خطط الإبادة وهو ما لا يراد له أن يتكرر. ولذلك أيضاً، لا يمكن القول بأن كل من اعترضوا أو تحفظوا عن سلوك بلدان حلف الناتو، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، لدى شنها الحرب على صربيا دون ان يحفلوا بالأسرة الدولية، دولاً مؤثرة أو محافل، هم ممن يناصرون ديكتاتور بلغراد أو ممن لا يعبأون باضطهاده لألبان كوسوفو، بل أن غالبية منهم ترى بأن إرساء معايير قانونية تنظم الحياة الدولية في هذا الطور العصيب والمضطرب من تاريخ البشرية يجب أن يظل أولوية لا يمكن لجرم ان يجعل القوى الكبرى في حل من التقيد بها. غير أن سجالاً هذان طرفاه وحدّاه الفكريان، ويكاد أن يكون سجالاً من طبيعة فلسفية وأكاديمية، قد لا يكون في حد ذاته بالأمر المعضل، فمهما تباينت المنطلقات، ربما كان من الوارد التوصل على الصعيد العملي وبالنظر إلى ما لمواجهة جرائم ديكتاتور الصرب من طابع الالحاح إلى اجماع ما، قد لا يجانبه التحفظ أو الانتقاد دوماً على ضرورة محض الاسبقية إلى التصدي لسياسة التطهير العرقي وإن بالقوة السافرة والمتفلتة من كل ضابط من قانون، على اعتبار ان المتطلبات الإنسانية والقيمية تبقى في النهاية فوق كل التشريعات وأعراف التعامل الدولي وأنه لا بأس من انتهاك هذه الأخيرة ان تعارضت مع تلك المتطلبات أو عرقلت الذود عنها، أو اتخذت مطية للتنكر لها. ففي حالة كالحالة الصربية، حيث احتلت مسألة الاجرام في حق الإنسانية إبادة وتهجيراً، موقعاً محورياً، بقطع النظر عما لهذا أو ذاك من الأطراف الضالعة في المواجهة من اعتبارات ومن حسابات نفوذ قد تكون أبعد ما يكون عن حس الايثار، تبقى حجة القانون أضعف من حجة القيم. فإذا ما نظرنا إلى الاجرام في حق الإنسانية بوصفه أمراً استثنائي الخطورة، وبما هو كارثة، قيمية ومادية، تحل بالبشرية أو ببعضها والبعض يساوي الكل، لا ينقص عنه، في هذا الشأن تحديداً، فإن حق التدخل والمواجهة محفوظ لكل من بادر إلى ذلك وأقدم عليه، حتى وإن كان الولاياتالمتحدة، وحتى من دون تفويض. وهو ما يفضي بنا إلى القول بأن الخلاف حول ذلك الموضوع قد لا يكون تبايناً بين رأيين وموقفين، يتماثلان في الصواب ويتمايزان في تحديد الأولويات، بل هو يشي بتفاوت في الوعي بين من يحلون المسألة القيمية المنزلة الأرفع، وبين من يسبّقون الهاجس القانوني. ووجه التفاوت ذلك ان الأوائل يضعون الاجرام في حق الإنسانية في موقع الاستثنائية، ذاك الذي وضعه فيه ضمير البشرية الحديثة وعد من مكتسباته البارزة ما يستدعي التدخل في مواجهته بوسائل ووفق ترتيبات استثنائية ان دعت الحاجة، وبين من لا يزالون في حقيقة أمرهم ينظرون إلى ذلك النوع من الاجرام على أنه قابل للتنميط القانوني، يستوي مع سواه من النزاعات المحلية والاقليمية الأخرى، وعلى أن الدول المقدمة على ارتكابه هي مثل سواها من الدول عندما تكون في حالة حرب، وعلى ان ضحاياه هم كضحايا كل المواجهات العسكرية وليسوا أناساً مستهدفين في ذاتهم، جريرتهم الوحيدة الانتماء إلى قومية أو إلى اثنية أو إلى ديانة تسوغ في نظر مضطهديهم شطبهم من الوجود. وفي كل ذلك ما يسم المقاربة القانونية للنزاع الصربي الأخير بعاهة وبخلل بارزين. ولكل الأسباب الآنفة، فإن وجه الإشكال في شأن الحرب الأطلسية الأخيرة ضد يوغوسلافيا قد لا يتمثل أساساً في ذلك التعرض بين القيم والقانون بالرغم من إصرار أطراف السجال على تقديم الأمور على هذا النحو، وهو انزلاق ربما عاد إلى مكانة الولاياتالمتحدة، صاحبة المبادرة واليد الطولى والسطوة العسكرية الفاعلة، من تلك الحرب، بحيث ما كان للخلاف حول العمليات القتالية وسبل إقرارها وانفاذها إلا أن يلابسه، وأن يشوش عليه جدل يطال أميركا ذاتها وموقعها المهيمن في شؤون العالم. وما يثيره ذلك من إدانة أو من مباركة لا قبل للخوض فيهما بأن يتسم بالهدوء، حتى كاد الأمر ان يصبح، في جوهره، تواجهاً بين من لا يرى ضيراً في التسليم للولايات المتحدة على الأقل في ما يخص هذا الشأن الصربي دون عداه، بدور المدافع عن القيم الإنسانية وبين معرض عن ذلك، إما اشتباهاً في نوايا واشنطن وفي سجل هذه الأخيرة ما يدعو إلى مثل ذلك الاشتباه، وإما توجساً من أن ترسي تلك الحالة الصربية سابقة في التعامل مع الأزمات الدولية قد لا تستغلها الإدارة الأميركية بما عرف عنها من شره للانفراد بالقرار من خلط بين ما يعنيها وما تزعم بأنه يخص الإنسانية دائماً وفي كل الحالات بنفس القدر من الأحقية الاخلاقية في مستقبل الأيام. ولكن النقاش حول كل ذلك ربما اكتسب وضوحاً أكبر لو أنه، إلى انشغاله بتلك الجوانب المبدئية أو بتلك الاعتبارات العامة، تناول النزاع الصربي الحالي والأداء الأميركي في شأنه بمزيد من التخصيص. فإذا ما وجدت في هذا الصدد من مآخذ على الإدارة الأميركية وهي القوة الفاعلة والموجهة داخل حلف الناتو، فهي قد لا تتعلق بالمبادئ والمنطلقات القيمية، على الأقل ما هو معلن منها وهو ما نسلم به جدلاً التي استندت إليها في شأن تلك الحرب، بل في الطريقة التي اعتمدتها، وفي المحظورات التي ارستها وكبلت حركتها بها. فما كان واضحاً منذ البداية، وما تنبه له ونبه إليه جل المراقبين أن الاكتفاء بالقصف الجوي، مهما كان فاعلاً في تدمير الامكانات العسكرية لنظام ميلوشيفيتش، لن يكون مجدياً في إثناء الديكتاتور الصربي وفي كف يديه عن ألبان كوسوفو، بل انه من شأنه أن يفاقم إجرامه بحقهم، على ما جاءت الأحداث لتؤكده بعد ذلك. فمشكلة الحرب الدائرة حالياً أنها ليست جارية بين الحكم الصربي من جهة وقوات الناتو من جهة أخرى، بل انها نزاع ثلاثي الأطراف، لا يواجه فيه الخصم خصمه المباشر، بل من هو أضعف منه: الأطلسيون يحاربون الصرب مستخدمين ما يمثل عنصر تفوقهم المطلق، أي القصف الجوي والصاروخي، والصرب من ناحيتهم يوجهون نيران أسلحتهم، أي تفوقهم المطلق على الأرض، نحو سكان اقليم كوسوفو، مستفيدين من حالة الحرب للامعان في التنكيل بهم. ذلك ناتج، كما هو معلوم، عن إحجام الولاياتالمتحدة عن المخاطرة بالتدخل البري لخشيتها من سقوط ضحايا من قواتها... غير أن ذلك يعرضها إلى الإقدام على مخاطرتين اخريين فادحتين، أولاهما هي تلك المتعلقة بمصير ألبان كوسوفو، والثانية هي تلك المتمثلة في احتمال خروج ميلوشيفيتش من هذه المواجهة منتصراً، ان هو تمكن من الثبات في وجه الهجمة الغربية ومن انجاز حلمه في استكمال التطهير العرقي، وهو ما من شأنه أن يمثل عين المفارقة، بالنسبة لحرب زعم القائمون عليها بأنهم تجشموا عناءها من أجل الحؤول دون ذلك المآل. وربما كانت تلك هي المشكلة الأساسية مع الولاياتالمتحدة وذلك هو موطن الخلل في دورها على الصعيد العالمي، فالمآخذ ليست دوماً على نواياها، وإن تعلقت بها في أحيان كثيرة، بل في تلك السمة التي يبدو أنها قد أصبحت تميز فعلها في المجال الدولي، على ما دلت تجربة السنوات الماضية في العديد من المواقع: نعني ذلك التلازم في سلوك واشنطن حيال العديد من النزاعات بين طاقتها التقنية الضخمة، وقدرتها الدافعة الهائلة، تلك التي تمكنها من جر حلفائها إلى حيث تريد ومن شل حركة المعترضين عليها من ناحية، وبين ضعف أدائها السياسي، بل ضحالته القصوى في الإقبال على نقاط النزاع والتوتر في العالم تقويماً ومعالجة من ناحية أخرى. وإذا كانت المعضلة العراقية قد مثلت حتى الآن حالة نموذجية كلاسيكية عن ذلك المأزق الأميركي، فإن نظيرتها الصربية ربما أنذرت بما هو أدهى، ان هي انتهت بالإبقاء على نظام ووجه بالقوة ليس لأنه اعتدى على جار له مستضعف، ضارباً عرض الحائط بكل الأعراف الدولية، بل لأنه أقدم على جريمة إبادة منهجية ومنظمة، زعم العالم المتمدن، منذ السابقة النازية، بأنه لن يسمح بتكرارها. وعلى أية حال، فإن الغرب، منذ أن اتخذ قرار الحرب ضد يوغوسلافيا وضع نفسه، سواء أراد ذلك أم لم يرده أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما الذهاب في المواجهة مع ديكتاتور بلغراد حتى مداها الأخير، أو التسليم بهزيمة معنوية أخلاقية، نكراء بعيدة الأثر، طالما أنها ستكون بمثابة الهزيمة المتأخرة أمام هتلر. وذلك ما لا يترك بداً من خوض غمار التدخل البري، ولعل في استثنائية الجرم والمجرم ما من شأنه أن يسوغ، لدى الرأي العام، ضرورة الإقبال على مثل تلك المخاطرة. * كاتب تونسي مقيم في فرنسا.