قد يكون شأن المسألة اليوغوسلافية كشأن زميلتها العراقية. فربما انتهت، او باتت في حكم المنتهية، في وجه لها محدد هو ذلك العسكري المتعلق، وان ادعاءً، بمعالجة ما كان ملحاً في مأساة اقليم كوسوفو وسكانه المضطهدين، ولكنها كأزمة قد تستمر طويلاً، ملفاً شائكاً مستعصياً، يقض مضاجع المجموعة الدولية لفترة مديدة مقبلة. ذلك ان المواجهة الاخيرة بين حلف الناتو وصربيا قد خلفت من الإشكالات اكثر مما حلت. سواء تعلق الأمر بمشكلة اللاجئين من ألبان كوسوفو، او بمستقبل تطبيق الخطة التي تمكن الناتو من فرضها، عن طريق مجموعة البلدان الثمانية، وكان قبول بلغراد بها شرطاً لوقف القصف الجوي، او بوضع النظام الصربي، ورئيسه سلوبودان ميلوشيفيتش، ووجودهما في اوروبا وضمن الأسرة الدولية. فما لا شك فيه، بالنسبة الى النقطة الاولى، أي اللاجئين، ان عودة هؤلاء الى ديارهم لن تكون بالأمر الهين، وانها ستتطلب جهداً دؤوباً تتخلله ازمات حادة مع السلطات الصربية، قد تستدعي اللجوء مجدداً الى الضربات العسكرية والى القصف الجوي. وذلك، على اية حال، احتمال تركه قادة الناتو، من سياسيين او عسكريين، مفتوحاً، لعلمهم بمدى الصعوبات التي ستكتنف، وستواجه عودة اللاجئين تلك. فسلوبودان ميلوشيفيتش يعتقد، بلا ريب، بأنه قد حقق مكاسب في اثناء الحرب الاخيرة التي خاضها حلف الناتو ضده، وبأن المكاسب تلك استراتيجية وبالغة الأهمية، طالما انها تعلقت بأمر أساسي واثير، هو المضي في تنفيذ سياسة "التطهير الإثني"، وبلوغه في ذلك شوطاً بعيداً. وهذا ما كان له، ربما، ان يحققه بتلك الوتيرة، وعلى ذلك النحو الصناعي، لولا فرصة مكّنته منها المواجهة الاخيرة، وهو تبعاً لذلك سيبذل أقصى جهده من اجل الحفاظ على تلك المكاسب وصونها. والحال ان الديكتاتور الصربي، بالرغم مما يلوح من اضطراره الى التراجع امام حلف الناتو وضرباته الجوية المدمرة، والى التسليم بدخول قوات دولية، أطلسية في المقام الأول، الى اقليم كسوفوف، ما زال يمتلك زمام المبادرة في شأن ملف اللاجئين ذاك، خصوصاً وانه قد اعد العدة، منذ البداية، لمواجهة احتمال العودة واتخذ من الاجراءات ما من شأنه ان يجعله متعذراً. فقد تعمدت القوات الصربية اتلاف هويات ألبان كوسوفو وكل ما يمكنه ان يمثل اوراقاً ثبوتية تبرهن على انتمائهم الى تلك المنطقة، قبل الاقدام على طردهم، كما انها أمعنت في تدمير قراهم ومزارعهم وكل بنية مادية تقوم عليها خصوصية حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عما كابده سكان كوسوفو من انتهاكات ومن اعمال اغتصاب كان الهدف منها ترويعهم بما يحول دون عودتهم وجعل التعايش بينهم وبين جيرانهم الصرب مستحيلاً. بل ان الديكتاتور الصربي قد يجد له في هذا الشأن، شأن الحؤول دون عودة اللاجئين او بعضهم، حليفاً غير متوقع، هو ذلك المتمثل في ان العديدين منهم قد لا يحبذون العودة بعد ان انفتحت في وجوههم أبواب الهجرة، الى بلاد الغرب خصوصاً، وسنحت لهم بذلك فرصة ربما كانوا ما انفكوا يتحينونها. واذا كنا قد ركزنا على مسألة عودة لاجئي كوسوفو الى موطنهم على هذا النحو، فذلك لأن تلك العودة، والنجاح في انجازها، هما فقط ما يمكنه ان يقدم الدليل على ان ميلوشيفيتش قد انهزم وعلى ان مشروعه "التطهيري الإثني" قد اخفق، وكل ما عدا ذلك كلام دعاية. ذلك على اية حال ما اشار اليه معلقون غربيون كثر. غير اننا قد نذهب أبعد من ذلك، لنقول ان الخطة التي تم التوصل اليها لإنهاء الحرب، والتي قدمتها بلدان الناتو على انها نصر تحقق لها، قد لا تعد بشيء حاسم في هذا الصدد، وذلك لأسباب قد لا تتعلق فقط بما سبقت الإشارة اليه من استمرار الديكتاتور الصربي في امتلاك زمام المبادرة في ما يخص مسألة اللاجئين، وبما أصابه من نجاح في اقرار امر واقع على ارض كوسوفو، ولكن كذلك في ان خطة الناتو تحتوي على عدد من الثغرات التي ربما استطاع ميلوشيفيتش الاستفادة منها، وهو ما لاحت بعض بوادره خلال الأيام الماضية، منذ اقرار الخطة المذكورة. وهذا علماً بأن هذه الاخيرة مثلت في بعض اوجهها تراجعاً، لصالح بلغراد، عما سبق التوصل اليه اثناء محادثات رامبوييه، على الأقل حول نقطتين اثنتين: إصرار ميلوشيفيتش على الا تكون القوات الدولية المرابطة في كوسوفو اطلسية صرفة، ونزع سلاح جيش تحرير كوسوفو بما قد يضعف موقع هذا الاخير في الترتيبات المقبلة. لقائل ان يقول ان نظرة كهذه قد تكون بالغة التشاؤم، وانه لا سبيل الى نكران أمر أساسي تحقق، وهو ان قوات دولية قد دخلت الى كوسوفو، يناهز عدد افرادها الخمسين ألفاً، وان في ذلك ما يمثل نجاحاً لا يستهان به لحلف الناتو، وذلك بطبيعة الحال صحيح. ولكن ما قد يكون اكثر من ذلك صحة ان وجود تلك القوات ربما اصبح عاملاً مكبلاً للبلدان الأطلسية، معرقلاً لحركتها العسكرية، ان دعت الحاجة الى ذلك في مستقبل الأيام، بما قد يجعل من الأمر ذاك ورقة بين يدي الديكتاتور الصربي، يفترض، لما هو معلوم عنه من قدرة على المناورة، الا يتردد في استعمالها. فحاكم بلغراد يعلم علم اليقين مدى استنكاف البلدان الغربية من المواجهات المباشرة التي يمكنها ان توقع قتلى بين جنودها، ومدى عدم قدرتها، وعدم قدرة رأيها العام، على تحمل ذلك. وهو لا شك في انه لن يتخلف، في مستقبل الأيام، ومتى ما شهدت المحادثات مصاعب او مالت الى التشدد، عن ابتزازها بذلك. وفي حرب البوسنة - الهرسك قبل سنوات، سابقة يمكن الاعتداد بها في هذا الصدد، حيث كان لوجود قوات دولية ان دفع بالدول الغربية آنذاك، خصوصاً الولاياتالمتحدة، الى الإحجام عن كل قصف جوي لردع الصرب، خوفاً من اعمال انتقامية تستهدف تلك القوات. وفي كل ذلك ما من شأنه ان يدحض ذلك الادعاء الذي بدا بأن التطورات الاخيرة للأزمة اليوغوسلافية، قد اعادت اليه الاعتبار وأسبغت عليه مصداقية، بعد ان كان يقابل بالانتقاد والتشكك، وهو ذلك الذي مفاده بأنه يمكن الاكتفاء بالقصف الجوي، وتجنب التدخل البري، سبيلاً لحل النزاعات. فبالرغم من المآل الذي انتهت اليه المواجهة اليوغوسلافية في طورها الراهن، فان الريبة تبقى قائمة حول الجدوى من تلك الاستراتيجية، وذلك ليس فقط على الصعيد الأخلاقي، حيث يبقى هذا الضرب من الحروب مثيراً للتحفظ، لأنه ينال من المدنيين ومن البنى التحتية بأكثر مما يستهدف القوات المسلحة، ولكن كذلك في ما يخص فاعليته في حسم النزاعات. وقد تقف الدول الأطلسية في مستقبل الأيام، لدى تعاطيها مع نظام ميلوشيفيتش، على ما يفيد بأن استنكافها عن خوض المواجهة البرية، ودخول قواتها الى اقليم كوسوفو على النحو الذي جرت به الأمور في اعقاب الاتفاقات الاخيرة، قد لا يخلو من كلفة، عسكرية وسياسية، كبيرة. وعدا عن كل ذلك، خلفت المواجهة الاخيرة مع يوغوسلافيا اشكالاً من نوع آخر، بالغ الأهمية بدوره ومن ناحيته، لا يمكن التعاطي معه بالتجاهل: رئيس صربي متهم، من قبل محكمة الجزاء الخاصة بيوغوسلافيا، بارتكاب جرائم حرب وجرائم في حق الانسانية، ما من شأنه ان يضرب حَجْراً أخلاقياً صارماً، ليس فقط على التعامل معه بأي شكل من الأشكال، بل كذلك على مجرد التسامح مع وجوده والتغاضي عن استمراره على رأس دولة عضو في محفل الأمم… وتلك معضلة كبرى، قائمة بإلحاح وان لم تتضمنها الخطة الاخيرة. وستكون، في مستقبل الأيام، من بين ابرز عوامل استدامة الأزمة اليوغوسلافية واستعصائها. ولعل في ذلك، وفي سواه مما سبقت الاشارة اليه، ما يطرح اكثر من علامة استفهام على "الإنتصار" الأطلسي الاخير.