في الحملة الدعائية التي رافقت قيام الدولة اليهودية قبل العام 1948 وبعده، والتي استمرت لمدة عقدين على الأقل، نجح أصدقاء إسرائيل ومؤيدو الحركة الصهيونية الغربيون في تصوير المأساة الفلسطينية وكأنها "مأساة يهودية"، إذ كان الحديث يدور دائماً حول حركة نزوح "يهودية" من أوروبا هرباً من الاضطهاد العرقي والعنصري باتجاه فلسطين "أرض الميعاد وموطن اليهود التاريخي". فالمكتبات العالمية مليئة بكتب "النزوح الجماعي اليهودي" Jewish Exodus عند الحديث عن نقل يهود أوروبا والشرق أيضاً إلى فلسطين، ولم يتحدث أحد عن النزوح الجماعي الآخر لسكان فلسطين العرب الناجم عن هجرة اليهود المكثفة إليها. لقد تمكن أصدقاء إسرائيل من نقل رواياتهم المضللة حول الExodus اليهودي إلى السينما، إذ لا بد ان يذكر البعض فيلم The Exodus لبول نيومان وصوفيا لورين في الستينات الذي قدم للرأي العام في الغرب صورة مجافية لحقيقة ما وقع في فلسطين، وما حدث لها ولشعبها منذ بدء الهجرة اليهودية إلى أراضيها. كتاب The Palestinian Exodus الصادر عن دار النشر البريطانية "إثاكا بريس" أخيراً يقدم الآن فرصة لتصحيح جزء من هذا التضليل التاريخي أمام القارئ والباحث والاكاديمي بالانكليزية، وبأقلام مجموعة من الاختصاصيين الفلسطينيين واليهود في آن في حقول مختلفة. الكتاب يوضح بجلاء العلاقة المباشرة والسببية بين كل من قيام الدولة اليهودية في فلسطين والهجرة الجماعية للاجئين الفلسطينيين. ويحلل مؤلفو الكتاب هذه العلاقة ويسردون بالوقائع والأرقام هجرة الفلسطينيين الجماعية والمستمرة منذ 1948 ومروراً بعام 1967، والطرد المستمر حتى الآن لهم من القدس. ويستكشف الكتاب الامكانات المتاحة، أو تلك التي ستتاح أمام الفلسطينيين - مثل السماح بعودة اللاجئين إلى فلسطين أو دفع تعويضات لهم - فيما لو كتب النجاح لمفاوضات السلام والتوصل إلى الاتفاقات العادلة والمقبولة. ويقدم الكتاب تصوراً لحل مشكلة اللاجئين التي ستبقى عاملاً معوقاً لقيام سلام دائم في المنطقة. أشرف على تحرير مادة الكتاب وساهم في بعض فصوله الباحثة في مركز دراسات الشرق الأوسط والأدنى في كلية الدراسات الافريقية والشرقية SOAS في جامعة لندن الدكتورة غادة الكرمي، وأستاذ القانون في SOAS ورئيس مركز القانون الإسلامي والشرق الأوسطي في الجامعة القاضي يوجين قطران. كلاهما خبيران، كل في حقله، بتطورات القضية الفلسطينية منذ الأحداث المأسوية التي تعرض لها الفلسطينيون العام 1948، وكانا من بين الشهود العيان على تفاصيلها. محتويات الكتاب هي مجموعة دراسات أوراق قدمت في مؤتمر كبير ومهم نظمه في شهر أيار مايو 1997 مركز القانون الإسلامي والشرق الأوسطي وجمعية "الحملة العالمية من أجل القدس" التي ترأسها الدكتورة الكرمي أيضاً. وتم توزيع هذه الدراسات في الكتاب في جزءين وتسعة فصول دراسات وخاتمة، إذ يسرد الجزء الأول منهما وقائع الهجرة الجماعية الحقيقية بين 1948 و1998، ويتناول الثاني جملة من المقترحات لحل المسائل الشائكة والمعقدة مثل العودة والتعويض... الخ. في الجزء الأول تتناول الدراسات الأرقام والجغرافيا والتاريخ وكل ما يتعلق من تفاصيل بالنزوح الفلسطيني بين 1948 و1997. ويستعرض الباحث في "برنامج بحوث اللجوء" في مركز الملكة اليزابيث في اكسفورد ماري - لويز ويغل أوجه الوضع السياسي والقانوني والاقتصادي - الاجتماعي للاجئين، وتوزع اللاجئين في بلاد الهجرة، خصوصاً في الدول العربية المجاورة ومشاكل "التوطين". في الفصل الثاني يتناول الاكاديمي الإسرائيلي استاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا البروفسور ايلان بابيه المناقشة القائمة حول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين والتعارض بين الروايتين الفلسطينية والصهيونية في هذا الشأن. ويقول بابيه إن التناقض بين الروايتين التاريخيتين "لا يكشف فحسب الخلاف الكبير على الحقائق، بل يظهر بجلاء الهوة بين الأهمية الحيوية لقضية اللاجئين بالنسبة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية والمؤرخين الفلسطينيين، وبين التجاهل التام لهذه القضية من قبل دولة إسرائيل والمؤرخين الإسرائيليين". ويلفت بابيه الانتباه في دراسته إلى ان هذه الهوة بدأت تضيق بعد ظهور مؤرخين إسرائيليين غير صهاينة، كما أنها تعززت في أعقاب "اتفاق أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة العمل الإسرائيلية. ويعلق القاضي قطران على ذلك بالقول إنه على رغم وجود "وعد" - حسب أوسلو - من قبل الإسرائيليين بالنظر في مشكلة اللاجئين، فإن هذا الوعد لا يضمن التوصل إلى اتفاق أو حل بهذا الخصوص. استاذ سياسات الشرق الأوسط في كلية ريتشموند في الجامعة الأميركية العالمية نور مصالحة يقدم في الفصل الرابع عرضاً مهماً لعوامل النزوح الفلسطيني أثناء حرب 1967 وبعدها، فيلقي الأضواء على حقائق تاريخية جديدة بشأن دور قوات الجيش الاسرائيلي في ترحيل الفلسطينيين وتهجيرهم عن قصد حتى بعد وقف العمليات الحربية. من ناحية ثانية، تعرض المحامية الاسرائيلية ليا تزيمل المعروفة بدفاعها عن الحقوق المدنية للفلسطينيين امام المحاكم الاسرائيلية لتفاصيل عمليات ابعاد وتهجير الفلسطينيين الجارية في القدس. وتعاين تزيمل الوضع القانوني للفلسطينيين المقدسيين وحقهم الطبيعي في استمرار العيش فيها، وتطلق في نهاية دراستها مناشدة تطالب فيها "بمنع اسرائيل من استكمال عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والديموغرافي التي تنفذها في القدس. والمطلوب الآن بذل جهد كبير من قبل منظمات حقوق الانسان العالمية والمحلية والنشطاء السياسيين والسلطة الوطنية والمفاوضين الفلسطينيين، والعمل سوية لوضع استراتيجية واقعية مشتركة لمواجهة الخطة الاسرائيلية الجديدة". في الفصل الخامس يقدم الخبير القانوني الدولي أنيس القاسم عرضاً لحق العودة بشكل عام وفقاً للمواثيق الدولية، ويشرح بالتفصيل على وجه خاص الحالة الفلسطينية وكيفية تنفيذ القرارات الدولية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين. وتحدث ايضاً عن حق العودة في الفصل السادس استاذ القانون في جامعة أوهايو الاميركية جون كويغلي، ولكنه ركز على حق الفلسطينيين في العودة الى اسر ائيل نفسها على رغم التغير الحاصل في السيادة والجغرافيا والتضاريس. وينظر كويغلي ايضاً في حق كل فرد بالعودة او باعادة توطينه بدلاً من التعويض. عضو المجلس الوطني الفلسطيني سلمان ابو ستة دحض في الفصل السابع من الكتاب مقولة "استحالة" عودة اللاجئين الفلسطينيين الى منازلهم على اساس ان هذه المنازل والقرى قد تم هدمها وان مهاجرين يهوداً يعيشون فيها الآن، وبين كيف يمكن للاجئين بأن يعودوا من دون ازاحة اليهود الموجودين في هذه المنازل والقرى، ولكن من خلال اعادة توزيع حوالى 150.000 يهودي. في الفصل الثامن تناقش الدكتورة الكرمي "الموقف المزدوج" في العالم، خصوصاً في الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية، حيث لا يهتم احد تقريباً بقضية تعويض اللاجئين الفلسطينيين او اعادة توطينهم - او توطين بعضهم - في الوقت الذي لا يتوقف الحديث عن "تعويض ضحايا النازية" من اليهود. وقد يكون من المناسب الاشارة في هذا الصدد الى ان ثمة اسرائيليين يتحدثون الآن عن تحويل جزء من هذه التعويضات لتمويل البرامج الخاصة باللاجئين الفلسطينيين. وبما تجد الكرمي ومثقفون عرب وفلسطينيون هذا التطور مناسبة لبدء حوار مفتوح في هذا الشأن في ضوء طرح احد المفكرين الاسرائيليين اخيراً لفكرة تخصيص جزء من "اموال الهولوكوست لتمويل مشاريع التعويض للاجئين الفلسطينيين" في ظل اتفاق للسلام بين الفلسطينيين واسرائيل. صاحب هذه الفكرة هو الاستاذ في "معهد ترومان للسلام" في الجامعة العبرية والمختص بتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية كلينتون بيلي الذي تحدث عن فكرته في مقال نشره في صحيفة "انترناشيونال هيرالد تريبيون" 4/5/1999. في الفصل الاخير من كتاب "النزوج الجماعي من فلسطين"، يتحدث بروفسور تاريخ الشرق الأوسط ومدير مركز الدراسات الدولية في جامعة شيكاغو رشيد الخالدي عن شروط خمسة قبل التوصل الى حل لمشكلة اللاجئين هي: اعتراف اسر ائيل رسمياً بمسؤوليتها المباشرة عن مشكلة اللاجئين، وحق اللاجئين او ابنائهم بالعودة من ناحية مبدئية، والاتفاق على صيغة تكفل تعويض كل من يقرر عدم العودة او من لا يسمح له بالعودة وفقاً لاتفاق بهذا الخصوص، وحق الاقامة والمواطنة في الدولة الفلسطينية المستقلة حديثاً، وايجاد صيغة بالتفاوض بين فلسطين والأردن ولبنان بالنسبة الى اللاجئين الموجودين في البلدين الاخيرين. في كل الأحوال، الدراسات المتضمنة في الكتاب لا تدعي، كما يقول القاضي قطران، بأنها تقدم الحلول لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين في اي مفاوضات مقبلة تحت اطار اوسلو او غيره، ولكنها تطمح في ان تكون "بداية مفيدة لدراسة معمقة لمشكلة اللاجئين من النواحي التاريخية والقانونية والجغرافية... وخطوة أولية باتجاه اقتراح عناصر قيام تسوية عادلة ودائمة للمسألة الفلسطينية - الاسرائيلية". The Palestinian Exodus 1948 - 1998 Edited by: Ghada Karmi and Eugene Cotran Published by: Ithaca Press ISBN 086372244X