الإنسان في حركة دائمة بلا تعب أو كلل يصارع الطبيعة لتطويعها في سبيل بقائه، وفي الوقت نفسه لا يتوقف، ومنذ بداية الخليقة، عن إيجاد المشاكل لنفسه ولو أدى ذلك الى الفناء، والشيء الغريب أنه كلما وصل الى محطة ظن عندها أنه احكم سيطرته على الكوكب الذي نعيش فيه، وجد نفسه وقد انتقل الى محطة تفتح امامه آفاقاً جديدة لتحقيق بقائه او فنائه. كلنا يذكر إنطلاق يوري غاغارين اول رائد فضاء كوني دار حول الارض في 12/4/1961 دورة واحدة بسفينة الفضاء "فوستك - 1" في ساعة و48 دقيقة، فحاز بذلك فخر انه كان اول انسان يجوب الفضاء، وتحت شعوره بالانتصار الخارق الذي حققه صرح بعد نزوله الى الارض "فلتحاول الدول الاخرى التفوق علينا إن استطاعت" ولم يطل انتظاره اذ تمكن جون غلين رائد الفضاء الاميركي في 20/2/1962 من القيام برحلة "الصداقة -7" ملحقاً حول الارض لمدة 4 ساعات و56 دقيقة بسرعة 28000 كيلو/ ساعة، وحينئذ وصل القطبان الى التعادل في اولى خطواتهما للسيطرة على الفضاء في سباق محموم لم يعرفه العالم من قبل. وكذلك مع الانتشار النووي فعندما اطلق الاميركيون قنبلتي هيروشيما وناجازاكي لينهوا الحرب العالمية الثانية، ظن الجميع ان واشنطن اصبح في يدها السلاح الكامل الذي تفرض به الامر الواقع في المكان الذي تريده والوقت الذي تحدده، وتشكل عن طريقه النظام العالمي الجديد، إذ كان الظن ان احتكارها للرادع النووي في ذلك الوقت سيحقق الاستقرار ويقضي على اي منافسة من الدب الروسي، ولكن وبعد 4 سنوات فقط وصل الاتحاد السوفياتي الى حال التعادل النووي بامتلاكه القنبلة الذرية، وبدأ سباق تسلح نووي رهيب بين القوتين العظميين لامتلاك اكبر كمية من الرؤوس النووية ووسائل اطلاقها حتى امتلأت مخازنهما بقوة نووية تكفي لتدمير العالم اكثر من مرة. ورغم ذلك - وحتى الآن بعد ان تفكك الاتحاد السوفياتي - كما رأينا - فإنهما لم يصلا الى حد الكفاية، اي انه في ظل الاحتكار النووي الاميركي لم يرتدع الاتحاد السوفياتي، وبذلك لم يتحقق الردع المطلوب الذي يمنع التحدي والمنافسة. وعلى ذلك - وخلافاً للتفكير السائد - فإننا نرى أن عدم فرض الردع لا يرجع الى الحرب التكنولوجية باستخدام الاسلحة شديدة التدمير في مسارح العمليات، ولكنه يرجع الى "حرب التكنولوجيا" التي يجريها العلماء في المعامل والتي تعتمد على العقل البشري وقدرته الخلاقة على استخلاص ما يفيده. او يدمره من قوة الطبيعة، فالحرب التكنولوجية هي احد فروع حرب التكنولوجيا، وإن كان الامن العسكري مجاله الاستراتيجية ووسيلته الحرب التكنولوجية فإن الامن القومي مجاله الاستراتيجية العليا للدولة، ووسيلته حرب التكنولوجيا، إذ تسعى هذه الحرب الى فرض ارادة الدولة والحفاظ على مصالحها باستخدام القدرات الخلاقة لتنمية امكاناتها وحل مشاكلها حلا يراعى عامل الوقت، إذ انها في سباق مستمر مع الآخرين. وهي بذلك تشكل العمود الفقري للسياسة القومية للدولة وأمنها. حرب التكنولوجيا بعكس الحرب التكنولوجية، لا تتم فيها المواجهة بطريقة مباشرة، إذ تهدف اولاً وآخرا الى تحقيق اهداف الدولة من دون الحاجة الى خوض حرب فعلية، فهي تجري في المعامل وتعتمد على إبداعات العلماء والمهندسين، وبذلك فهي تعتمد على القدرة التي هي حصيلة مجموع قوى الدولة في المجالات المختلفة، وإن كانت قوة الرعب النووي أو القيود السياسية تفرض ضغوطاً على استراتيجية الحرب التكنولوجية، فإنه لا توجد مثل هذه القيود في حرب التكنولوجيا، إذ من العسير وضع حدود وقيود على العقل البشري وهو الوسيلة الرئيسية في حرب التكنولوجيا، ولذلك فإن ما يجري امامنا في العراق، على سبيل المثال، من محاولات اميركية- بريطانية لتدمير ترسانة اسلحة التدمير الشامل العراقية - كما يقولون - تأمينا للدول المجاورة - وهم في الحقيقة يعنون اسرائيل - هو نوع من الوهم لأنه حتى بفرض وجود مثل هذه الترسانة وبفرض تدميرها بواسطة القوات الجوية، فإن هذا لم ينفذ الغرض المطلوب لأنهم لم يتمكنوا من تدمير العقول البشرية التي اقامت هذه الترسانة، ولذلك فإن البعض يذهب في سخريته من محاولات اعلان المناطق النووية مناطق نظيفة، اي خالية من اسلحة التدمير الشامل إلا انه يجب اولا وقبل اصدار هذا الاعلان جمع كل العلماء الذين اشتركوا ووجهوا واقاموا هذه القواعد العلمية المدمرة "ثم قطع رقابهم" فهذا هو الضمان الوحيد ليعبر رفع هذا الشعار عن الواقع، ورغم حجم السخرية التي يحملها هذا الرأي فإنه يعبر في الوقت نفسه عن حجم مساوٍ من الحقيقة يجب التعامل معه بجدية كاملة. ولذلك فإن المسؤولية الاولى في انتشار الاسلحة شديدة التعبير، من اسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية، تقع على الساسة اصحاب القرار الذين يصدرون قراراتهم لانتاجها ثم توزيعها على افرع القوات المسلحة لاستخدامها، وعلى العلماء الذين يسخرون العلم وخوارق الطبيعة لتصنعها وبذلك تصبح مسؤولية القوات المسلحة في ذيل القائمة لأنها مجرد آلة منفذة. وديناميكية حرب التكنولوجيا التي تعمل بصفة دائمة من دون توقف سواء في وقت الحرب والسلم بعكس الحرب التكنولوجية التي تعمل فقط في الفترة بين سلمين تجعل من المستحيل إقامة امر واقع ثابت إذ أن هذه الديناميكية تؤثر في مقدار الردع وصدقيته، وبالتالي فإنها تؤثر في نوع الاستقرار المطلوب، إذ علينا دائماً ان نتساءل: الردع والاستقرار لمن؟! والردع والاستقرار بمن؟ والردع والاستقرار ضد من؟ والاسئلة جميعاً توجه الى عناصر متغيرة. فالرادع اليوم يصبح مرتدعاً غداً، فيوم لك ويوم عليك، وإذا كان الردع يكفيه في الماضي رمح او طلقة فإنه ما عاد يكفيه اليوم طائرة او بارجة او سلاح نووي، وإذا كان الردع موجهاً ضد عدو اليوم فقد يصبح هذا العدو صديق الغد في وقت يصبح صديق اليوم عدو الغد... قضايا قلقة تنعكس على حرب التكنولوجيا التي تدور في المعامل من دون ان تحسمها لأن الظروف متغيرة والقوى المضادة والعوامل السائدة والاختراقات العلمية في المجالات كافة جارية مؤثرة. وفي ظل معاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية التي وقعت وصادقت عليها غالبية الدول، استمر انتشارها فلم تكن الشرعية الدولية بكافية لاحترام المعاهدات الدولية، وكذلك فإن معاهدة فيينا الخاصة باستخدام الصواريخ لم تمنع كثيرا من الدول ان تمتلك تكنولوجيا تصنيعها وامتلاكها، بل وتصديرها ضمن ما يعرف بسوق الاسلحة النادرة، وهنا تحاول الدول العظمى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، منع الانتشار عن طريق استخدام القوة، كما يحدث في العراق وليبيا والسودان، او باستخدام الوسائل الديبلوماسية عن طريق التأثير على الدول التي تملك بعدم نقل هذا النوع من الاسلحة للدول التي لا تملك، كما يحدث الآن من اسرائيل للتأثير على موسكو لعدم نقل هذا النوع من التكنولوجيا الى ايران، او ضغط الولاياتالمتحدة على كل من كوريا الشمالية والصين لعدم تصديرها الى الهند وباكستان وايران، ولكن فشلت كل هذه المجهودات لأن القائمين بها يطبقون الشرعية الدولية بطريقة انتقائية. وعلى أي حال فإنه في ظل الانتشار النووي تغيرت اللعبة الدولية واصبحت تخضع لقوانين لم تكن تعرفها من قبل: كانت الاستراتيجية في الماضي عبارة عن الحصول على الاغراض السياسية بالاستخدام الماهر للقوة واصبحت اليوم في ظل الرعب النووي والتدمير الشامل المتبادل هي فن الاستخدام الماهر لعدم استخدام القوة او فن الاقتصار على التهديد باستخدام القوة ولكن تغير ذلك في ظل النظام الحالي للهيمنة الاميركية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي لأن استخدامها القوة لم يعد يواجه بالقدرة على العذاب. اصبح من المحتم على كل دولة الاحتفاظ في مخازنها بالقوة الرادعة الكافية التي تجبر الآخرين على عدم اللجوء الى القوة لحل تناقضاتها معها كنوع من التهديد لاستخدامها عند الحاجة. حتمت الظروف الجديدة على الدول العظمى ان تدير الازمات في حدود عدم المواجهة المباشرة بينها، وذلك بأن تحقيق مصالحها بالوكالة عن طريق الحروب الاقليمية التي تدور بطريقة لا تسمح بتجاوزها الخطوط الحرجة التي تهدد بالمواجهات المباشرة بين الدول العظمى نفسها. اصبح التقدم التكنولوجي هو الذي يصنع الساسة وليس العكس، اذ انه إذا كان غرض الاستراتيجية المعاصرة هو تحقيق مصالح الدولة بالتهديد باستخدام القوة من دون الحاجة الى استخدامها فعلاً، فإن التقدم التكنولوجي هو الذي يجعل قوات الآخرين دائما في موقف العاجز بغض النظر عن التفوق في العوامل الاخرى مثل القوة البشرية والامكانات التقليدية المتاحة. وكما نرى فان حرب التكنولوجيا هي العامل الفاصل في فرض الردع والاستقرار، ولذلك فهي حرب فعلية من دون اعلان ويجري فيها تصادم من دون تدمير او إسالة دماء، وتتحقق فيها مكاسب وخسائر نتيجة لمعارك رهيبة تهدف الى التفوق في مجال الاعتراض والاختراق ما يجعل الحوار السياسي يجري تحت مظلات القوة، سواء وهي ساكنة, اي الردع او وهي متحركة أي القتال. ولعلنا نكون لمسنا ان الردع هو العمود الفقري للاستراتيجية المعاصرة في ظل الامكانات النووية، والردع هو القوة التي تردع العدو عن مجرد التفكير في الإقدام على عمل مضاد، وهو في الوقت نفسه القوة التي سيضطر الى مجابهتها إذا لم يرتدع، او هو استغلال التهديد من دون تنفيذه او هو من عدم القتال او هو من استخدام وسائل القتال لعدم القتال، او هو الذي يهيئ لنا الحرية لفعل ما نريد ويمنع الآخر من فعل ما لا نريد، واقتناع الطرف الذي يوجه اليه الردع بما سيلاقيه يتأثر بعاملين: الخوف او العامل النفسي، والحساب وهو العامل العقلي وهذا يمكن التعبير عنه بالمعادلات الاتية: - الردع بالتأثير النفسي " التأثير العقلي = اقرار الامر الواقع - الردع بالتأثير النفسي من دون التأثير العقلي = صدام مباشر = رفض الامر الواقع - الردع بالتأثر العقلي من دون التأثير النفسي = صدام مباشر= رفض الامر الواقع ويمكن إجمال ما وصلنا اليه في معادلة واحدة تعبر عن المفهوم المتفق عليه للردع والشروط الواجب توفرها: توفير الامكانات الرادعة " العزيمة الصادقة لاستخدامها حتى عند العدوان الصغير لمنع العدوان الكبير، وتبليغ ذلك للطرف الآخر " تصديق هذا الطرف لذلك = الردع. صدام حسين لم يصدق اثناء عملية "عاصفة الصحراء" ان الحشد الدولي في السعودية سيوجه اليه الضربة الاولى، مع علمه الأكيد أنه غير قادر على امتصاصها وتوجيه الضربة الثانية، ولكن الان العقيد معمر القذافي صدق اخيرا وبعد سنوات وسلم متهمي لوكربي، وهذا ليس عيبا لأنه فهم جيداً حدود قوته في ظل اللغة العالمية للصراع... * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.