ضاق سوق أدوات المائدة الجزيني وانحسرت. وهي اليوم مقتصرة على أربعة محترفات صغيرة لصناعة الشوك والملاعق وقواطع الحلوى والسكاكين. وهي تلك التي يحفر الجزينيون على مقابضها أشكال طيور يقولون أنهم شاهدوها "تتفلى" من فلاء في أحراجهم. لا يعرف الجزينيون تاريخاً لامتهان عائلات منهم هذه الحرفة. يقدرون التاريخ بالأجيال. فسمير الحداد يقول أنه الوارث الأخير لآل الحداد الذين جاءوا بهذه الحرفة الى جزين، ويحدد تاريخ بدء عائلته بالعمل فيها بأربعة أجيال الى الوراء. وكان والد جده يعمل في تصليح السلاح، ثم بدأ بتصنيع مقابض بسيطة للسكاكين. وطورها قليلاً، بأن صنع سيوفاً، وقام جده بإضافة بعض اللمسات الجديدة ليأتي والده مستعيناً بخبرة آل زوجته، وشقيقاتها تحديداً، وهن الزحلاويات الشهيرات بأعمال التطريز فزاوج الوالد بين موهبة الحفر على العضم والتطريز، وشرع يضيف على المقابض العضمية التي كانت تحفر على شكل طيور في معظم الأحيان رسوماً صغيرة، ونقشات دقيقة التنفيذ، هي أشبه بتطريز على العضم، وتتخللها ألوان منسجمة. العمل في هذه الحرفة منزلي، فمعظم المحترفات تقع أسفل منازل أصحابها، بينما عرضها للبيع يتم في محال تجارية في ساحة المدينة أو في شارعها التجاري. طور سمير الحداد الحرفة، وابتكر لها آلات لا يزال "عملها يحتاج الى لخبرات يدوية، ولكن الآلات توفر دقة في تشابه الرسومات. وتتيح انتاج كميات أكبر، والأهم من ذلك كله، انها تمنع العمال من سرقة الحرفة، إذ طالما عانى سمير من عمال تركوه بعد سنوات من العمل معه وفتحوا محترفاتهم الخاصة، وشرعوا كما يقول بمنافسته ببضاعتهم التي لم تكن في مستوى بضاعته ولا بجودتها. يقول سمير الحداد "أنا عصارة تجربة آل الحداد، حراس الأصالة الجزينية" وهو بملامحه الحادة، ونظراته الدقيقة، ينقبض فجأة ليقول حكمته الملازمة لكلامه دائماً "يا عمي الدنيا أصل". تصرف الحداد بشكله، بالدقة التي يتصرف بها حين يعمل في محترفه، فهو رسم شاربيه رسماً إذ شذبهما بدقة، وعلى الرغم من غلاظتهما فهو جعلهما مستطيلين ومتوازيين تماماً، وترك بينهما مساحة مرئية خالية من الشعر، أما حاجباه العريضان، فقد خرجت منهما شعرات بيضاء طويلات زادت، من لمعان عينيه المحدقتين دائماً. لا يتكلم سمير عن مهنته إلا بشغف الذي ينتظر منها المزيد على الرغم من بلوغه سن ال65. ويتنقل بين غرف المحترف المنتشرة في أنحاء منزله والتي يعمل فيها رجال وشبان جزينيون على آلات قول انه ابتكرها، فيجلس مكان هذا العامل ليشرح كيفية عمل الآلة، ثم يستل من يد عاملٍ آخر مقبضاً ليظهر دقة الرسوم، فيما زوجته المتأنقة بسبب قدوم الصحافة اليه والواقفة على شرفة المنزل، تذكره بأن يروي حكايته مع مجلة الوسط التي ربح بسببها نحو 50 ألف دولار، وشرع منذ ذلك اليوم أي قبل عشر سنوات تقريباً، يرسل بطلبها أسبوعياً من بيروت على الرغم من الاحتلال والمعابر والتفتيش كما يقول. أما الحكاية فهي أنه صادف أن حمل المجلة في أحد منازل أقاربه، وبينما كان يقلب صفحاتها، رأى فيها رسوماً لعصافير، في لوحة لفنان هندي، وراقته صورة أحد هذه الطيور، فأخذ المجلة الى منزله، وراح يخطط لنحت الطير وجعله مقبضاً لأنواعٍ من أدوات المائدة التي يصنعها، ونجحت الفكرة وأرسل كميات من منتوجاته الى الأسواق التي "التهمت فكرة المقبض الجديد التهاماً" وبيعت الكميات بسعر مرتفع بنسبة 40 في المئة. عندما ترتفع معنويات سمير الحداد تزول محاذيره، فيقول ان ريغان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان قص قالب الحلوى في عيد ميلاده بسكين من صنعي أهداه اياه البطريرك الماروني الكاردينال خريش. ويضيف ان "أميركا لم تتمكن من تركيع فيدل كاسترو وأنا تمكنت، إذ قال كاسترو لأحد المسؤولين اللبنانيين عندما زار هذا الأخير كوبا وقدم هدية لرئيسها عبارة عن طقم مائدة جزيني، ما هو حجم ديون الدولة اللبنانية، فرد المسؤول اللبناني، 18 مليار دولار، فقال كاسترو، ألديكم من يصنع هذه الأدوات وتخافون من 18 مليار دولار". ويضيف الحداد "أنا لست مع مبادىء كاسترو أنا أحب الرأسمالية، ولكن الرجل أعطانا حقنا". يأمل الحداد في أن تكون خطوة انسحاب ميليشيا "جيش لبنان الجنوبي" من جزين فاتحة لعودة ازدهار سلعه، إذ يقول أن أسعار هذه المنتجات مرتفعة ولا تجد أسواقاً لها إلا في بيروت والخارج، وسيسهل زوال الحواجز حركة الانتقال الى بيروت حكماً. أما الأسعار فتتراوح للطقم الواحد من ألف دولار الى عشرين ألفاً، ،خصوصاً تلك التي يطلب الزبائن أن تكون مقابضها عاجاً ومعادنها من الفضة الفاخرة. أما السيف الذي صنعه سمير من العاج والذهب، وزاوج في صناعة مقبضه بين أنواع من الطيور فأخذ من "السيغون" منقارها ومن البطة شكل رأسها، ومن الصَقر عينه، هذا السيف ليس للبيع. "فكيف سأتذكر أنني صنعته، إذا لم أره أمامي كل صباح".