دشّن الدكتور لويس صابونجي حياته الصحافية بإصدار مجلة "النحلة" في بيروت بدءاً من 11 أيار/ مايو 1870. ولكن الوالي العثماني بادر الى تعطيلها بسبب النقد الساخر اللاّذع الذي وجهه صاحبها نحو المعلّم بطرس البستاني. والغريب ان صاحب مجلة "الجنان" وجريدتي "الجنة" و"الجنينة" كان مسروراً من قرار التعطيل على رغم انه أصاب حرية التعبير في الصميم. وسرعان ما انتقل صابونجي الى القاهرة لاستئناف إصدار مطبوعته أسوة بالعديد من المتنورين الشوام، ولكن تحت عنوان "النحلة الحرة". وعلى رغم جودة مناخ الحرية في أرض الكنانة، فان صاحبنا آثر عاصمة الضباب مقراً حياتياً ومنبراً صحافياً لإصدار جريدتي "الخلافة" و"الاتحاد العربي" ناهيك باستئناف اصدار "نحلته". في نيسان/ ابريل 1877 ظهر العدد الأول من "النحلة" اللندنية، وقد احتلت الافتتاحية او "الفاتحة" الصفحتين الأولى والثانية، وهي موزعة على العناوين التالية: مقدمة النحلة، جنى النحلة، نَفَس النحلة، صدور النحلة، شروط الاشتراك، أصول المراسلات، واختصاصات المشتركين. في "المقدمة" أبدى صابونجي ندمه، بصورة مداورة، على النهج النقدي الهجومي الذي اتبعه في نحلة بيروت، حيث قال: "ان زهر المعارف لا يجنى إلا في ربيع السلام. وشهد العلوم لا يعسّل إلا في خلية الألفة بحلاوة الكلام. ولذاكم قد صمّمت على الزهد في التعقب والانتقاد". ولكن ذلك لا يعني التراجع عن هدف "الإصلاح في الأرض. واستئصال الفساد منها بالطول والعرض". و"النحلة" مصمّمة على جني الاكتشافات والعلوم والفلك والفلسفة والأخبار وكل ما "يتشوق الى معرفته أهالي آسيا وافريقية، بعد التحرّي بسبر غثّها من سمينها". الا ان تقديم هذه الموضوعات يتم "بعبارات مطروقة، تسهل مناولتها على الخاص والعام، وتوفّر على القارئ مؤونة حمل القاموس لنبش عجماوات الكلام". وتصدر المجلّة مرة كل اسبوعين في العام الأول، على ان تصبح اسبوعية في "السنة المقبلة". اما قيمة الاشتراك السنوي فتعادل "ليرة واحدة انكليزية". والمجلة ترحّب بمساهمات المراسلين شرط التقيد بالأصول التي منها تجنب اي "قدح في سياسة، او تعصّب في ديانة، او تعقّب على اقوال أديب، او طعن في حق علاّمة أريب، او ثلب في صيت القريب، او قول خالف التهذيب". ولما كان الاشتراك بالمجلة هو المورد الرئيسي لصاحبها، باستثناء ما يمكن ان يقبضه من تحت الطاولة… فان القسم الأخير من الافتتاحية وعد كل مشترك بثلاث هدايا: تُنشر إعلاناته مجاناً شرط ان يكون قد سدّد كامل اشتراكه "معجّلاً"، إضافة الى ان كلمات الإعلانات يجب ان تكون قليلة. الهدية الثانية: تنشر المجلة كتاباته وباللغات التركية والفارسية الهدنستانية، ناهيك بالعربية، و"بحروفها". وإذا كانت المقالات صادرة عن "الأدباء المتضلعين في العلوم العقلية" فإدارة المجلة تدفع مكافأة مناسبة، ذلك ان "النحلة قد صممت على معاملة العلماء الشرقيين معاملة الأوروبيين". وتتضمن الهدية الثالثة "مجموعة نفيسة من اجمل التصاوير المفيدة". هنا استدرك صابونجي للقول "ان ثمن هذه المجموعة وحدها يساوي اكثر من مئة قرش". ويعود سرّ جمال الصور ومستواها التقني الرفيع الى موهبة صاحب المجلة وأخيه في مضمار التصوير، وليس لتقدم العاصمة الانكليزية في هذا الفن. وكان صابونجي أميناً لوعوده بدءاً من العدد الأول. فقد نشر في باب "اختراعات جديدة" صفحة وربع الصفحة حول "آلة برقية غريبة لا سابقة لها في القرون الخالية". وتساءل محرر الخبر في سياق كلامه عن الآلة: "أيذعن بنو المشرق لروايتنا اذا أنذرناهم باختراع آلة برقية تجعل المتكلم في لندن ان يسمّع صوته وغناءه وكلامه مفصّحا لأي قوم من سكان الأرض طرا"؟ ومن حقه ان يتساءل، تماماً كما تساءل الكتّاب بعد مئة عام او اكثر عندما اخترع الفاكس ثم الانترنت. بل من حقه ان يطعّم الخبر المستفيض بالأبيات التالية: يا أهل ودّي هل سمعتم شادياً رنّت مغانيه بكل مسامعِ إن قام يشدو في البلاد مرنّماً لذّ السماعَ بصوتِ برقٍ لامعِ ومن أخبار العدد الأول ما عرضه "العلاّمة فوسوفِكز على مجمع العلماء في بطرسبرج" من مخطوطات نفيسة أبرزها "نسخة قديمة من نسخ القرآن الشريف محررة بالقلم الكوفي". ومن ميزات هذه النسخة "وجود علامة مرسومة فيها بدم، وقيل: رسمها الخليفة عثمان بكفّه". تلا الخبر، موضوع حول آثار الأشوريين في بلاد ما بين النهرين وهي "كتابات قديمة منقوشة بالقلم الأشوري على قطع من الآجرّ وجدها السيد جرجس سميث في نينوى تحت الردم في قصر ملك الأشوريين" والجدير ان الاكتشاف الأثري اضاء على محطات تاريخية عدة أبرزها ان آخر الملوك الأشوريين وهو اشوربانيبال قد "حرق نفسه مع نسائه فراراً من الوقوع في أيدي أعدائه يوم تغلّبهم على نينوى". يبقى ان حاكم زنجبار برغش بن سعيد بن سلطان بن أحمد آل بو سعيدي كان له حضور ملحوظ بالصورة والترجمة، في العدد الأول من "النحلة" وفي اعداد لاحقة. وكان لصديق السلطان وصابونجي الفقيه الانكليزي جرجس باجر الفضل في توفير مادة الموضوع. ومن المعلومات المهمة التي رويت عن سلطان زنجبار انه ألغى تجارة الرقيق مفضّلاً "فقدان 12000 ليرة انكليزية من مكوس تجارة الرقيق سنوياً، حباً بالإنسانية والحرية البشرية". ويفيد محرر المقال ان مُلك السلطان برغش "يمتد من رأس دلغادو جنوباً الى ورشيك شمالاً وهي بلدة فوق مقاديشو. وطول مسافته 800 ميلاً. وتتبعه جزائر عديدة مخصبة التربة". وبقدر ما كان صابونجي كريماً في تغطية اخبار حاكم زنجبار وصوره وإضفاء الصفات الرفيعة عليه، كان الاخير اكثر كرماً في المجال الذي يهمّ صابونجي بدليل رسالة السلطان برغش الجوابية والمنشورة في عدد لاحق من "النحلة" وقد قال فيها مخاطباً صاحب "النحلة": "واصلك مبلغ من النقود برسم الهدية من محبك، ومبلغ آخر من النقود برسم الاشتراك بالنحلة على اثنتي عشرة سنة، وكل حاجة أم غرض يبدو لك من الإشارة، والسلام".