لفائف الربع الخالي محمد حسن الحربي دار الفارابي، بيروت، 1999 همان اثنان تطرحهما "لفائف الربع الخالي"، المجموعة القصصية الجديدة للقاص الإماراتي محمد حسن الحربي" الأول يتعلق بمضمون القول القصصي، والثاني بكيفيته. وإذا كان الأول هو من قبيل "المعاني المطروحة في الطريق" يشترك فيه معظم كتاب القصة حين يرصدون خللاً معيناً في الواقع الاجتماعي ويعملون على التقاطه وتحويله الى مادة قصصية، فإن الثاني يجنح نحو الخصوصية ويرتبط بالقاص وطريقته في القص. فعلى المستوى الأول، يصور لنا محمد الحربي واقعاً معيناً، فردياً أو اجتماعياً، في كل قصة من القصص الست التي تتألف منها المجموعة، يعكس خللاً ما يختلف بين قصة وأخرى. ففي القصة الأولى، نقع على رجل إمّا أنه منافق أو يعاني من انفصام الشخصية، فسعيد بطل القصة يتم تقديمه على أنه كتلة من المشاعر الإنسانية الرقيقة، يضطرب لمرأى قطة مدهوسة أو عصفور ميت، ويحب الأطفال كثيراً. ثم نكتشف أنه هو نفسه يزور البيوت الآمنة بعد منتصف الليل ليسحب شبابها الى غرف التعذيب. ويمكن قراءة هذه الشخصية من زوايا ثلاث" فإما أنها تعاني من الإزدواجية أو من الانفصام أو أنها تتخذ من المظاهر الإنسانية التي تمارسها نهاراً قناعاً تخفي به حقيقتها التي تظهر ليلاً، وهذا ما نرجحه. والقصة، هنا، تعكس خللين اثنين" أولهما فردي يتعلق بالشخصية نفسها، والآخر اجتماعي يتصل بالسلطة الاجتماعية التي تبعث بعيونها وآذانها لممارسة ولَج الليل. والخللان الفردي والاجتماعي يظهران في القصة الثانية أيضاً، فأبو سعد رجل غريب الأطوار، يتناول المشروبات الغازية بالطاسة، ويختفي بعض الوقت في احدى غرف منزله الثلاث ذات الرائحة غير اللطيفة مما يثير فضول الناس، فيبلغون الشرطة التي تنشر عملاءها لتقصّي الأمر، ثم سرعان ما يكتشفون أن لا شيء في الغرفة سوى الغرفة. هكذا تقول القصة محاولة انتهاك الاجتماعي خصوصية الفردي بتحريض من هذا الأخير الذي يثير فضول الجماعة بغموضه وتصرفاته. أما الخلل الذي تكشف عنه القصة الثالثة فهو خلل فردي يصور جنوح أحد الرسامين في الفن. وإذا الصورة التي يرسمها لوجه صديقه لا تمتُّ الى هذا الأخير بصلة. ولعل هذا الرسام يعكس بدوره خللاً جمالياً عند جماعة مهنية - فنية هم الرسامون الذين تبلغ بهم الجرأة حد تغيير الوقائع الى درجة التشويه. والقصة، هنا، تعرِّض بهؤلاء من خلال أحدهم. وإذا كان الخلل الفردي في هذه القصة يمكن اسقاطه على جماعة معينة، فإنه في القصة الرابعة يبدأ من الواقع الاجتماعي ويجد تعبيره الفردي في بطلة القصة، تلك التي تجد نفسها محاصرة بين قبرين" الخارج بناسه وأعرافه وتقاليده التي تمارس قمعها اليومي على المرأة ولا تصغي الى اعتمالات داخلها وهواجسها، وغرفتها - القبر الآخر حيث الوحدة واللاّ أحد. وبين هذين القبرين يطاردها الزمن الذي يترك بصماته على جسدها فتنعكس فيها قلقاً داخلياً. وفي مواجهة هذا السواد البشري - المكاني - الزماني، تلوذ البطلة بمرآتها فتشكو لها وتبوح وتمارس عبرها نرجسيَّتها الجسدية وتكشف عن انشراخاتها الداخلية وتأزُّمها. ولعل القاص أراد من خلال هذه القصة الكشف عن الحصار الذي تعيشه المرأة في بعض المجتمعات العربية من الخارج، فتعكف على ذاتها تفتح كوّة تمارس من خلال فعل الحياة المحرم في الخارج، وهنا، يغدو الداخل تعويضاً عن الخارج، ولن يعدم هذا الداخل مرآة يعكس نفسه فيها. ولعل ما تطرحه القصة الخامسة غير بعيد عن هذا السياق، فالرجل فيها يتعامل مع المرأة بشكل سطحي استهلاكي، فيغدق عليها الهدايا، ويأخذها الى كل مكان، ويضرب صفحاً عن حاجاتها الحقيقية - الإنسانية التي تتعدى الأشياء والأمكنة الى الرجل نفسه. فهو يخاطب فيها المقتنى - المملوك من قبله، ولا يخاطب الإنسان. غير أن تصرّف المرأة هنا يختلف عنه في القصة السابقة. فبينما نراها هناك تتخذ موقفاً هروبياً سلبياً من العالم فتلوذ بمرآتها وتتوغل فيها، تتخذ في هذه القصة موقفاً متمرداً رافضاً فتردُّ الى الرجل هداياه. وفي القصة السادسة والأخيرة من المجموعة، ثمة خلل من نوعٍ آخر، مستوحى من عصر التحديث والعلم، وهو خللٌ عقلي هذه المرة، يعانيه المرضى والأطباء في مستشفى، حيث تقع أحداث غريبة، فيتعرَّون، ويُحقَنون، ويُشنَقون، ثم يُبعَثون من جديد، وفي هذا الإطار ينعدم الفرق بين الطبيب والمريض. وفي القصة صدى لبعض حالات غياب الضمير المهني، فيغدو الطبيب مريضاً من نوع آخر هو أكثر خطورة على المجتمع. وعلى المستوى الثاني، يمكن الحديث عن أساليب متنوعة في قصص المجموعة، يبدو القاص فيها يمارس لعبة التجريب بحثاً عن شكل قصصي يضيف الى تجربته الفنية جديداً" وفي هذا السياق، ثمَّة مواصفات معينة تنطبق على قصص المجموعة، وتعكس سعي الكاتب الى التنويع في أسلوبه القصصي. وإذا ما أردنا رصد حركة المتن وتحديد اتجاهاتها، نستطيع الكلام عن ثلاثة أشكال يمكن تأطير قصص المجموعة الست فيها. ففي الشكل الأول تتعاقب الأحداث ويتلو بعضها بعضاً في مسار تصاعدي أو أفقي، حتى إذا ما شارفت القصة على نهايتها النصِّيَّة، يطرأ حدث ما لم ترهص به الأحداث السابقة ويشكل تحوُّلاً يتفاوت في حدَّته بين قصة وأخرى، كاشفاً عن النهاية الوقائعية للقصة التي غالباً ما تكون مفاجئة. وتحت هذا النوع، تندرج قصص "اضطرب الرجل وهو يرفع جثة القطة"، "يمتلك بيتاً كبيراً ذا طابقين"، "نظرته التأملية قالت" و"يُسر كثيراً عند سماعه الناس". الشكل الثاني هو أقرب الى الخاطرة الوجدانية منه الى القصة، وفيه يبدو العنصر القصصي ضعيفاً كما نرى في قصة "يغرق هذا الخارج في موته الأسود" على رغم أن هذه القصة لا تخلو من عنصر المفاجأة وان ضعيفاً، حين تكتشف أن المخاطب في القصة هو المرآة وليس المرأة. وهنا، لا بد من الإشارة الى أن القاص مارس بعض التضليل حين أورد قرائن لفظية تجعل القارىء يعتقد أن المخاطب هو المرأة. ولعله أراد بذلك أن يمهد لمفاجأة أقوى الأمر الدي لا تحققه القصة. في الشكل الثالث، يقدم القاص مادة قصصية حديثة مستوحاة من عصر العلم في إطار قديم بعنوان "وقال أبو مشعان يا سوقة ويا أعيان"، فيستعير تقنية شفهيَّة هي تقنية الحكواتي، يبدأ بها القصة وينهيها، وبين البداية والنهاية يستخدم شكلاً حديثاً يطغى عليه الحوار. وهكذا، يدفع هاجس التجريب القاص الى التوفيق بين القديم والجديد، بين الشفهيّ والكتابي، فيقدم شكلاً هجيناً يتلاءم مع مضمون القصة الذي يقدم مجموعة بشرية مصابة بلوثة عقلية بأفعال يختلط فيها الواقعي بالغرائبي، والمعقول باللامعقول. على هذه المضامين والأشكال تنطوي "لفائف الربع الخالي"، وبها يضيف الحربي جديداً الى قديمه القصصي لا تخلو قراءته من لذة تنفع هي غير لذة اللفائف التي تضرّ.