واحدٌ وعشرون نصّاً قصصيّاً وستة عشر رسماً هي المادة التي يتشكل منها كتاب «دقات الساعة» للكاتب والرسام اللبناني أمين الباشا (دار نلسن). واذا كان الباشا يأتي الى الكتابة من الرسم، فهل يفعل ذلك ليلتقط «ما لا يستطيع اللون أن يلتقتطه» ويلم «الأشياء التي تقع خارج العين واللون»، على ما ذهب سليمان بختي في مقدمة الكتاب، أم هي الكلمة تراود الفنان عن نفسها، فيرسم بها، كما فعل نزار قباني ذات ديوان، فتبلغ مناطق يعجز اللون عن بلوغها؟ ليست هذه المقاربة مفاضلة بين الكتابة والرسم، لكن القادم الى الكتابة من الرسم لا يستطيع التحلل من سحر الألوان وثقافة التشكيل وقراءة العين، وتغيّر أداة الرسم من اللون الى الكلمة لا يجرّد الرسام من خبراته ومهاراته، فنراها تنعكس في شكل أو في آخر في الأداة الجديدة. لذلك، فإن الباشا الكاتب ينطوي على الباشا الرسام، فيطل الأخير برأسه في عناوين النصوص ومضامينها وتفاصيلها، ناهيك بالرسوم التي جاورتها ودخلت معها في علاقة تكاملية، تناغمية، تحيل، في شكل أو في آخر، على مقولة تنوّع الفنون ضمن وحدة الحيّز/ الكتاب. تحضر المدينة بقوة في «دقات الساعة»، من خلال نمط عيش غالباً ما يمارسه مثقفوها، ويتجلى هذا النمط في قصص «دقات الساعة»، «القمر والأصدقاء الثلاثة»، «لقاء في المقهى»، و «غرفة في برشلونة». ويرصد فيه الكاتب جوانب من حياة المقهى وما يكتنفها من عكوف على الشراب والكلام والمشاهدة والإصغاء والفضول والحوار والتسكع في الشوارع، وما يطرأ عليها من محدثي النعمة الذين يصطنعون التوتر والحزن والهم والبكاء والاستعلاء ليكتسبوا لقب الفنان، وما يتخللها من نزول في الفنادق حيث الغرف تخبّئ الأسرار وتلقي بظلها ومخبّآتها على النزلاء... على أن المدينة قد تكون بيروت أو باريس أو برشلونة... ممّا عرفه الكاتب/ الرسام، فقصة الباشا قصة «مدينية» بامتياز، ولا نقع فيها على أي أثر للريف. في مقابل هذا الجامع المضموني بين النصوص، ثمة ما يفرّق بينها، من حيث الشكل، فنقع على أشكال قصصية مختلفة، حسبنا أن نكتفي بالكلام على ثلاثة منها، هي القصة القائمة على الحوار، القصة القائمة على المقارنة، والقصة الغرائبية. وهي أشكال تستوعب معظم قصص المجموعة. يشغل الحوار حيّزاً كبيراً في ثلث قصص المجموعة، على الأقل، واذا القصة كلّها أو جلّها حوار. وهو بين شخصيتين غالباً ما يكون الكاتب إحداهما. على أن الحبكة في القصص الحوارية ليست محبوكة بالقوة نفسها، ومسار القص تغلب عليه الأفقية التي قد تنتهي بانحناء معين في نهاية القصة، والتراكم الأفقي للأحداث يتم من خلال الحوار. والهاجس الفني حاضر في جميع القصص الحوارية ما دام الكاتب/ الرسام هو أحد طرفي الحوار. وهو هاجس يختلف من قصة الى أخرى، ففي «رسام وموديل» ثمة حوار بين الفنان وموضوعه/ الموديل يقوم على سوء فهم بينهما، هو يرسم الموضوع كما ينفعل به لا كما هو في الواقع، وهي/ الموديل تبحث عن نفسها في اللوحة فلا تجدها. وفي «الطبيعة والفن» يتناول الكاتب الموضوع نفسه، فيجلو من خلال الحوار العلاقة المفارقة بين الطبيعة والفن حيث «العمل الفني لا صلة له بالطبيعة. هو طبيعة ثانية» (ص 29). وفي «أحاديث الشاطئ» ثمة حوار يخلص الى أن هناك فرقاً بين الكلام على الحياة والسعادة والحب وبين ممارستها فعل عيش يومي. وفي «موعد مع فدريكو غارثيا لوركا» حوار حول الفن والحياة والموت والمدن. وفي «حوار الكلمات» حوار غريب بين صديقين يبدو عبثيّاً ولا يقول شيئاً. وفي «حوار بين رسام وموسيقي» ثمة تبادل أفكار حول الرسم والموسيقى والعلاقة بينهما، واتفاق على أهمية الفن في الحياة. وفي «من قطع أذن فان غوغ؟» حوار طويل حول تاريخ الفن والرسم وفان غوغ. على أن ما يميز هذه القصة عن سابقاتها أن الحوار يتطور الى مواعيد ولقاءات ووصال وفراق ومأساة، ويشكل جزءاً من القصة يكمله السرد لتنمو من خلالهما الأحداث وصولاً الى نقطة تحول حاسمة هي نهاية القصة، على المستوى الوقائعي. الشكل القصصي الثاني الذي نقع عليه في «دقات الساعة» هو القصة القائمة على المقارنة، حيث يقارن القاص بين مكانين أو فضاءين قصصيين، ويخلص الى تفضيل أحدهما على الآخر تلميحاً لا تصريحاً، ففي «غرفة في برشلونة» يقارن بين غرفتين في فندقين، أحدهما في باريس والآخر في برشلونة، ويجمع بين الوصف الخارجي والداخلي في نص قصصي يفتقر الى الحبكة، ويخلص الى أن الغرف أسرار، فما تخبّئه الغرفة هو ما يجعلها فرحة أو كئيبة. وفي «ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة» ثمة مقارنة بين قصر هارون الرشيد الذي أسكره الموصلي وزرياب حتى اذا ما صاح الديك منتصف الليل استيقظ السكارى، وقصر شهريار الذي أسكرته شهرزاد فلم يوقظه الصياح لأنه كان يصغي بأذنيه وقلبه. فهل يريد الكاتب القول ان تأثير القص أكبر من تأثير الموسيقى والغناء؟ اذا كان الباشا في الشكلين الآنفي الذكر لم يتخطَّ حدود الواقع، سواء في حواراته أو المقارنات، فإنه في الشكل الثالث ييمّم شطر الغرابة، مما نقع عليه في خمس من قصص المجموعة على الأقل. ولعلّه من خلال هذا الشكل يريد قول الأشياء مواربة. ففي «جملة ناقصة» يستيقظ السارد على جملة ناقصة يريد إكمالها، فتختفي الكلمات من القاموس بالتزامن مع اختفاء الأدوات من المطبخ، ويتشابه الناس في الشارع ويستخدمون لغة عريبة، فيشعر بالوحدة والغربة. فهل تراه يعادل بين غذاء الروح وغذاء الجسد ويومئ الى وحدة الفنان واغترابه ونقص أدواته؟ وفي «كلمات كلمات كلمات» تقع للسارد المولع بتأليف الكلمات أحداث غريبة حيث توقظه هزة أرضية وتعجز الأمواج عن إيقاظه. وفي «ليست حكاية» صور غرائبية تعكس عين الرسام وقدرته على التقاط الألوان والأبعاد والتفاصيل والحركات وإدماجها في النص. وفي «الغرفة» يمضي السارد عشرين يوماً في غرفة مقفلة، يفقد خلالها صوته، سمعه، وزنه، لمسه... ولعل الكاتب أراد القول ان الانقطاع عن العالم يذهب بصاحبه. وفي «حوار الكلمات» حوار حول الكلمات والأحرف والقاموس، في إطار من الأحداث الغريبة، هو حوار عبثي لا يقول شيئاً. على أن ما يلفت النظر في هذه القصص الخمس الغرائبية أن عناوين أربعة منها تنتمي الى الحقل المعجمي للغة. فهل تكون اللغة أداة تواصل وغرابة في آن؟ الى هذه الأشكال الرئيسة في المجموعة، ثمة النص السردي الذي يرصد عادات شخصية معينة ك «شمس الليل»، وثمة السرد المجاني الذي لا يهدف لغاية معينة ك «النقط على الحروف»، وثمة النص القائم على الذكريات أو الأحلام أو الخبرات الشخصية ك «التجربة» و «حلم» و «أشعر أنني شاعر». في «دقات الساعة» يرسم أمين الباشا بالكلمة واللون عالماً قصصيّاً ذاتيّاً بقدر ما هو موضوعي، يتنازع فيه الحضور الكاتب والرسام، فينجم عن هذا التنازع الجميل معرض قصصي تحمل لوحاته النصية واللونية ما يمتع الأذن والعين، وبه يثبت الباشا أن من يتقن مداعبة اللون لا تعجزه معاقرة الكلمات.