ننهي اليوم نشر محور بدأناه أمس عن "صورة المعارضة" في سياق محاور تنشرها "الحياة" عن السودان. حين أتناول المعارضة السودانية أصنفها في محورين، المحور الأول: معارضة التجمع الوطني الديموقراطي في الخارج والموصولة بالموالين لها في الداخل. والمحور الثاني: معارضة الداخل. يتكون المحور الأول من: الحزب الاتحادي الديموقراطي - حزب الأمة - الحزب الشيوعي - تجمع الأحزاب الافريقية السودانية - الحركة الشعبية لتحرير السودان - النقابات - القيادة الشرعية - مؤتمر البجا - قوات التحالف السودانية - شخصيات وطنية مستقلة. لكننا حين نفككه تبعاً لموازين القوى نستخلص منه فقط الحزب الاتحادي الديموقراطي - حزب الأمة - قوات التحالف السودانية. ثم نستبعد حركة تحرير شعب السودان لأن نشأتها وأهدافها ليست مركبة استراتيجياً على نشأة التجمع وأهدافه. فالحركة الشعبية نشأت في عام 1983 من قبل نظام الانقاذ، والمانفستو - البيان الذي أصدرته في 31 تموز يوليو 1983 يدين سيطرة الحزبين الكبيرين الاتحادي والأمة على مقاليد الحكم في السودان ولم تتعاون الحركة معهما أثناء حكمهما 1986 - 1989 مع تفاهمها الجزئي مع الميرغني في الشهور الأخيرة قبل سقوط النظام النيابي تشرين ثاني/ نوفمبر 1988. ثم أن هذه الحركة ومع توقيعها لميثاق كوكادام - 24/3/1986 مع العديد من القوى السياسية والنقابية السودانية لم تلتزم لا بوقف اطلاق النار ولا بدعم هذه القوى الشمالية في التجربة النيابية الثالثة. فأجندة قرنق هي احتواء الشمال كله وجنوبته على أساس افريقاني بالتحالف مع الاثنيات غير العربية في الشمال وفي اطار علماني وهذا هو مضمون سودانه الجديد. فلما غالبه الانقاذ بأسلوبه المعروف جهاداً وتعبئة لجأ الى الكونفيديرالية. وهي الحل الواقعي والصحيح الذي طالما ناديت به منذ الثمانينات. فأجندة قرنق غير أجندة التجمع، ونشأة حركته لا ترتبط بالانقاذ، فتحالفه مع التجمع تكتيكي، ولهذا استبعدت حركة تحرير شعب السودان من معارضة التجمع فلم يتبق سوى حزب الأمة - الاتحادي الديموقراطي - قوات التحالف. هؤلاء يتخذون ثلاثة مداخل في نشاطهم: 1- العمل العسكري. 2- العلاقات الديبلوماسية مع دول الجوار الاقليمي والدول العربية والدول العالمية صاحبة القرار والمنظمات الدولية. 3- التواصل مع جماهيرهم في خارج السودان وداخله. حين نقوم حصيلة كل ذلك في الفترة من 13/6/1995 حين انعقد مؤتمر أسمرا والى الآن نيسان/ ابريل 1999 نجد أن النتيجة العسكرية مقايسة بمواجهة حكومة الانقاذ لهم ليست متكافئة مع ما ينبغي من حشد وجهد سنوات أربع. فهم لا زالوا على هوامش الحدود الشرقية وهذا فشل عسكري ولم تسفر لقاءاتهم في سقفها الأعلى مثال ما تم مع السيدة مادلين أولبرايت في اوغندا في شهر كانون الأول ديسمبر 1997 عن نتائج تذكر وهذا فشل ديبلوماسي ولم تدعم الدول العربية معارضتهم لا مالياً ولا عسكرياً ولا حتى سياسياً، إذ حولت الدول العربية وبالذات الخليجية الملفات السودانية لمصر، وطبيعة السياسة المصرية وبالذات منذ مرحلة السادات لم تعد تتبنى تغيير الأنظمة الحاكمة بالعنف الجماهيري المسلح، وبالذات حين يختص الأمر بوادي النيل وهذا فشل ديبلوماسي عربي مركب على الفشل العالمي. وحتى المال لا يعطى لهم إلا بمقادير شخصية. أما على صعيد تواصلهم مع جماهيرهم، خارجياً وداخلياً، فهنا الفشل الحقيقي إذ ملت هذه الجماهير صراعاتهم على السلطة، وعجزهم طوال فترات حكمهم من بعد الاستقلال، وأقصد بذلك حكومات 1965 - 1969 و1986 - 1989 فسنواتهم السبع كانت عجافاً، فلم يتبق أمامهم الآن سوى طرح ستار الديموقراطية في مواجهة حكومة الانقاذ، ويطرحونها في معزل عن أي برامج تنموية وفي معزل عن أي عقلانية أدائية تفسر وتحلل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في السودان ليصار الى طرح جديد يبررون به تواصلهم مع جماهيرهم. ثم أنهم يكررون أمام هذه الجماهير صراعاتهم وخلافاتهم السابقة فيزيدون انصرافهم عنها وهذا فشل سياسي. وأريد أن استثني نسبياً قوات التحالف لأن ليس لديها سوابق حكم وتنظيم غير أنها متعثرة في بنائها التنظيمي الهيكلي ولا زالت دون مستوى الطرح السياسي والفكري المنهجي. ويتكون المحور الثاني من: المعارضة في الداخل. وهي معارضة غير موصولة في قواعدها الأساسية بتجمع أسمرا، إذ تسود لدى هذه القواعد الشعبية حال من الرفض لحكومة الانقاذ ولتجمع أسمرا بذات الوقت، وهي القاعدة العريضة في السودان التي لم يستطع المؤتمر الوطني الحاكم أن يستوعبها على رغم لجوئه لاستنهاض القبليات في اطار نظام الحكم الولائي ضد الطائفية الختمية - الميرغني والأنصار - المهدي في ما يعرف بالجهويات، وعلى رغم اغراءات المناصب لما يظنه رموزاً مؤثرة في مناطقها وفئاتها. فالانقاذ خلال عشرة سنوات لم يحل المشكلات الأساسية والاستراتيجية التي تنعكس نتائج حلها على حياة المواطن، بل لم يستطع أن يعترف بفشله ويفتح الباب أمام العلماء والمختصين وذوي الخبرات لمناقشة هذه المشاكل الأساسية والاستراتيجية، فهو يموّه على فشله في الجنوب بالتعبئة الدينية، وعقد اتفاقات السلام مع قبائل هامشية مثال اتفاق 21/4/1997. ويموه على فشله الاقتصادي بادعاء الحصار الدولي لمشروعه الاسلامي الحضاري، ويموه استمراريته بالوعود النفطية حيث لا تغطي الانتاجية في مقابل التكلفة وحصص الشركاء وتدني الأسعار العالمية تلك الاستحقاقات الكبيرة قيد الانتظار في الداخل والخارج وأقلها رواتب المعلمين. هذا القطاع الكبير في السودان، غير المتجانس مع نظام الانقاذ والتجمع معاً، يتخذ حال عدم المشاركة والتعامل بسلبية قاتلة مع كليهما الانقاذ والتجمع وينتظر ما يأتي به القدر الالهي، فهو قطاع غير مشارك، لا في الانتخابات ولا حتى في المنتديات السياسية وقل أن يقرأ الصحف أو يستمع للبرامج التلفزيونية، فقط ينظر لما يحدث بأعين تائهة وبطون جائعة وشعور بعمق المأساة التي تتداخل مع أنات الثكالى من الأمهات اللاتي يندبن مصير فلذات أكبادهن في الجنوب في حين يبشرهن النظام بدخولهم الجنة وزواجهم من الحور العين. وحتى التوالي السياسي الذي اعتبرته "ثغرة في حائط مسدود" "الحياة" 10 و11 و12 تشرين الأول/ اكتوبر 1997 والذي بوشر بتطبيق تعدديته التنظيمية في 6/1/1999، لم تغفر لنا هذه القواعد الشعبية الواسعة توالينا معه وتسجيلنا لتنظيماتنا فيه. فهي إذ لم تمض لتقول ما قاله فينا السيد الصادق المهدي بأننا أذناب التوالي ومؤخرة النظام من دبر إلا أنها بخّست تحليلاتنا وتقديراتنا التي بموجبها تفاعلنا مع هذا التوالي، متسائلة: هل يصدق معكم من ظل يكذب عشراً من السنوات؟!. وهل تأملون في انتخابات يملك المؤتمر الوطني الحاكم ناصياتها بامكانيات الدولة وهيمنة الولاة وأجهزة الأمن؟!. فما أنتم - والقول موجه لنا سوى بضعة من واجهات تجمل صورة النظام سياسياً الى حين. ثم ينتهي القول: إن كنتم تدّعون الوطنية وقلوبكم لنا وللبلد فأسقطوا النظام أو كونوا كمثلنا بانتظار ما يأتي به الله. ما دفع الانقاذ الى التوالي السياسي وهذه الحرية النسبية أكبر من إرادة الانقاذ الذاتية، فهناك اعتبارات موضوعية تجعل من التوالي السياسي حقاً - وان كان جزئياً - وليس منحة. وإقرار الانقاذ للتوالي السياسي عقلانية مفروضة وليس خياراً ذاتياً أفرزته طبيعة الانقاذ ونهجه. بل هناك من يرفض التوالي من داخل الانقاذ ويعتبره ردة عن الثوابت، ويحاول هذا النفر جهده إعلامياً وسياسياً ذبح التوالي، غير أن متابعة الاحادية غدت مستحيلة ولن تفرز إلا أسلوباً آخر من المعارضة. * كاتب سوداني.