الكتاب: ذاكرة النار/ الوجوه والأقنعة المؤلف: إدواردو كاليانو المترجم: أسامة إسبر الناشر: دار الطليعة الجديدة - دمشق 1999 كتاب "الوجوه والأقنعة" هو الجزء الثاني من ثلاثية "ذاكرة النار": 1- سفر التكوين. 2- الوجوه والأقنعة. 3- قرن الريح، ويضم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، المرحلة التي تسمى بمرحلة النهوض القومي في أميركا اللاتينية وحصول بلدانها على استقلال لم يكتب له النجاح، والتي يحار كاليانو من أي صلصال شاق ومن أية اغتصابات ولدت. وإذا كانت "ذاكرة النار" عصية على التصنيف حسب مقاييس ضباط جمارك الأدب، على حد تعبير المؤلف، فهي في الحقيقة تتضمن في نسيج رائع كل تلك الأجناس منسوجة مع بعضها بحيث لا يمكننا الفصل بين جنس أدبي وآخر. وعلاوة على ذلك، يبني كاليانو كل قطعة من هذا الموزاييك الهائل على أساس توثيقي صلب. والمقصود هنا بكلمة "ملحمة" معنى يخالف المعنى اليوناني. ففي الكتاب نصوص متقطعة ومنفصلة زمنياً، لكنها إذا نُظر اليها ككل نلمح فيها ترابطاً يتحرك في دمه وخلاياه الضحايا أولاً والثوار الذين هزموا شرّ هزيمة أمثال بوليفار وسان مارتن وتوباك آمارو... وغيرهم من التجار والفاتحين والمرابين وصانعي العالم الجديد الذي يسلط عليه الكتاب الضوء، عبر استحضار الميثولوجيا الهندية الحمراء، وهي ميثولوجيا تكتسب قيمتها من كونها ميثولوجيا هامشية لم يكتب لها الحظ أن تدخل في الوعي الذي صاغته الاغتيالات بأشكالها كافة. ومن ثم تبدأ القصة مع رحلة كولومبوس. بالنسبة الى الجزء الأول الذي هو "سفر التكوين" فإنه مليء بنزيف الضحايا الذين تحولوا الى وقود لاسبانيا والبرتغال وفي ما بعد الدول الغربية الاستعمارية. كما يغطي اكتشاف العالم الجديد وإبادة الهنود واستنزاف موارد القارة الأميركية اللاتينية "بجدل حيوي بين النهب من أجل الإبادة وبين الإبادة من أجل النهب"، وتحويل الأرض الجديدة الى متحف تتحلل فيه براهين التاريخ الممدد بأبهة الدم والمساومات التي أخذت شكل طقوس لا بد منها على مسرح اللاهوت الاستعماري. ففكرة "استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة" التي شيّدها الخونة واللصوص وقطاع الطرق والهاربون من العدالة قامت على جسد مقبرة جماعية. الجزء الثالث، وهو "قرن الريح"، فيه تنحسر القوى التي كانت مهيمنة على القارة مع بزوغ الولاياتالمتحدة الأميركية كأقوى دولة في العالم، لتعيد شكل ترتيب سيطرتها على أميركا اللاتينية بعد انتصار الكولنيالية التقليدية. معلومات تاريخية تشكل محتوى عمل يعتمد اللغة الأدبية بأعلى أشكالها شعراً ونثراً ومسرحاً. مادته وثائقية بحتة. أي التاريخ مصاغاً بلغة الأدب، التاريخ المحرر من وجهة نظر القوة ومن الوثائق الجامدة ومن المتاحف ومن المصادر الرسمية. انه تاريخ يتشكل ويحدث من جديد على الورق. إذ لا يمكن معرفة الى أي جنس أدبي ينتمي كتاب كاليانو هذا. أهو قصة؟ أم ملحمة؟ أم تاريخ؟ أم سيرة ذاتية؟ أم مقطوعات أدبية متفرقة؟ أم هو هذه الأشياء كلها؟ ذلك لم يؤرق المؤلف، لأنه لا يؤمن بالحدود التي تفصل بين الأجناس الأدبية. للكتاب أهمية تنبع من مسألتين: أولاً لغته الأدبية الرفيعة جداً. وثانياً أنه يكشف وحشية الغرب الاستعماري تجاه شعوب العالم الأخرى، وتمثل أعلى أشكال التراجيديا التاريخية في نهب الغرب وجريمته المنظمة للاستيلاء على موارد تلك القارة. تتقاطع "ذاكرة النار" في جانب من جوانبها مع رواية "المريض الانكليزي" لمايكل أونداتجي لكونها تمثل نقداً جريئاً، ومن وجهة نظر عالم ثالثية لجرائم الغرب الاستعماري، واعتمادها على قراءة الوثائق الدقيقة على رغم تحليقها المكثف في عوالم الخيال. وهذا يقودنا الى مسألة مهمة في التأليف الأدبي، وأعني بذلك مصادر المؤلف: هل يكفي من أجل كتابة عمل روائي في هذا العصر، بالتحديد، أن نعتمد على رؤيتنا الذاتية؟ فمثل هذه الأعمال تعيد النظر في وظيفة المؤلف إبداعياً: انه يتعامل مع الوثائق والمواد والمرجعيات المتاحة ليغني من خلالها رؤيته، وبالتالي تستند الشخصيات أو العمل الروائي على خلفية صلبة تنقذ عالمه من اشراك اللغة روائياً. "كان البيوريتانيون يحصون السكان ب"الأرواح"، لكن جيفرسون أحصاهم ب"افراد النوع البشري". ان السود متساوون تقريباً داخل النوع، يمتلكون ذاكرات جيدة، لكنهم يفتقدون للخيال ولا يستطيع ذكاؤهم الفقير أن يفهم اقليدس أبداً. بشَّرَ ارستقراطي فيرجينيا، جيفرسون، بالديموقراطية، ديموقراطية المالكين، وحرية الفكر والدين، لكنه دافع عن تراتبية الجنس واللون. لم تدخل في خططه التربوية النساء أو الهنود أو السود. شجب جيفرسون الرق وكان وسيبقى مالكاً للعبيد. كانت النساء الخلاسيات تجذبنه أكثر من النساء البيض لكن فقدان النقاء العرقي كان يرعبه. واعتقد ان تمازج الدماء هو أسوأ الاغراءات التي تزعج المستعمرين البيض". يكتب كاليانو وفي هنه قارة بأكملها، ذلك لأنه ذهن مليء بتاريخ هذه القارة ومونديالاتها ومواقعها وجميع تفاصيلها الجزئية حتى الفولكلورية منها من شعر شعبي ورقصات وتقاليد راسخة رسوخ الزمان... الخ. فرأس كاليانو وُضِعَ له موضع خاص في أدب أميركا اللاتينية، لأنه نجح في أن يكتب بجسد القارة كلها، وإذا آمنّا بمقولة بورخيس بأن المؤلف هو عبارة عن فتحة أو ممر لنص تكتبه قوى كونية، نستطيع أن نقول ان كاليانو هو القناة التي تبث قارة أميركا اللاتينية نصوصها منها.