يظن الزائر الذي يصعد درجات مبنى جيفرسون، أحد المباني الأربعة التي تشكل مكتبة الكونغرس، أنه يدخل متحفاً. وفي داخل القاعة الكبرى، وبعد البحث، يسحرنا جمال المكان: البلاط الرخامي، أعمال الفريسك، الفسيفساء، التماثيل، الزجاج المعشق، وصف الأعمدة والسقف... لم يُترك تفصيل رهن الصدفة. ونشعر على الفور بالوسائل التي وظفتها السلطات الفيديرالية لإعطاء الولاياتالمتحدة مؤسسة، المستوى الذي يمثله الكتاب في وجدان البشرية. ونتساءل أين تختبئ الأعمال، والمخطوطات والخرائط البالغ عددها 147 مليوناً والتي يؤويها هذا المكان الرفيع الشأن! يستضيف الطابق الأول من مبنى جيفرسون معرضاً أثرياً جنباً إلى جنب مع معرض مخطوطات قديمة. تتسم الواجهات بالفخامة، ولا يخترق النور الخافت الأشياء، متيحاً في الوقت نفسه قراءة الملاحظات التفسيرية المرفقة بها. ونكتشف بدهشة الوثائق المؤسسة للولايات المتحدة، ومن ثم مكتبة صغيرة، هي مكتبة توماس جيفرسون الذي وقع في 26 كانون الثاني (يناير) 1802 على القانون الذي أرسى دور مكتبة الكونغرس ومهماتها، التي منحت المكتبة الصغيرة مجموعتها الخاصة المؤلفة من 6487 كتاباً، عندما أَضرمت القوات البريطانية النيران في الكابيتول وأحرقت المؤلفات الموجودة فيه والبالغ عددها 3 آلاف... إلا أن المشهد الأعظم من «العرض» قد يكمن في غرفة القراءة الرئيسة، بقبتها الرائعة التي ترتفع 50 متراً عن الأرض وباقتباساتها الأدبية المحفورة في الدائرة الرخامية المطلة على غرفة قراءة، ثمانية الجوانب ونيّرة، حيث يتوافد الباحثون المجتهدون لمطالعة المؤلفات الموضوعة في خدمتهم. وباستطاعة أي شخص تجاوز السادسة عشرة من عمره ويحمل بطاقة هوية القارئ المعتمدة (بطاقة تعريف القارئ) الدخول، ولكن وحدهم أعضاء الكونغرس وفرقاؤهم، بالإضافة إلى بعض المسؤولين الحكوميين وأعضاء المحكمة العليا ومساعديهم، يمكنهم استعارة الكتب. أرقام تحبس الأنفاس! ما كان من المقدر أساساً لهذه المكتبة أن تتحول إلى «هيكل» الكتاب العالمي». فعند تأسيسها في 24 نيسان (أبريل) 1800 على يد الرئيس جون آدامز، لم تكن المكتبة تملك في البداية سوى موازنة بقيمة 5 آلاف دولار مخصصة للاستحواذ على كتب مفيدة للكونغرس. ولم تكن مجموعتها الأولى تضم أكثر من 740 كتاباً و3 خرائط، تم شراؤها من لندن عام 1801: يا له من بؤس! أما اليوم، فتصيبك الأرقام بالدوار، فالمكتبة تملك موازنة بقيمة 600 مليون دولار وتستخدم 3700 موظف يعملون في مبناها الممتد على 350 ألف متر مربع والمؤلفة من 532 ميلاً من الرفوف! هذا وتحتوي، من ضمن جملة أمور أخرى، على 33 مليون كتاب، وصحيفة ومطبوعات أخرى بمجمل اللغات (أي ما يوازي ضعفي محفوظات المكتبة الوطنية في فرنسا)، بالإضافة إلى 61.4 مليون مخطوطة، و12.5 مليون صورة، و5.3 مليون مخطط وخريطة للعالم و5.5 مليون أسطوانة... كما أنها تؤوي كنوزاً حقيقية مثل بيبل غوتنبرغ، و5600 كتاب يعود إلى أوائل عصر الطباعة، ومخطوطات من العصور الوسطى كتشريعات جوستنيان (القرن الثالث عشر)، والقانون العرفي النورماندي المرفق بالصور (حوالى العام 1500)، أو نسخ نادرة لمؤلفين يونانيين (هيرودوت...)، ولاتينيين (لوكريسيوس)، وفرنسيين (أعمال ديكارت، وبوسويه ومونتسكيو، والنسخة الأولى الكاملة لموسوعة ديدرو) وأدباء من عصر النهضة (كوبرنيكوس وفازاري). تحتوي المكتبة على خرائط قديمة، كالنسخة الأولى من كتاب «جغرافيا بطليموس» الذي نُشر في البندقية عام 1475، وتسجيلات أصوات أكثر من ألف شاعر وروائي يقرأون مؤلفاتهم الخاصة! إلا أن تلك المؤسسة العريقة ليست بالضرورة بمنأى عن الانتقادات، إذ إن التصنيف الذي تعتمده لا يحظى بالإجماع، وسياسة الاستحواذ تفتقر أحياناً إلى التناسق، كما أن بعض الثغرات تبعث على الأسف، ولا سيما تلك المتعلقة بالعالم العربي، الذي يحظى بتمثيل ضعيف بالمقارنة بالقارة الأوروبية أو الأميركتين. وعلى عكس القناعة السائدة، لا تحتفظ مكتبة الكونغرس بكل مقتنياتها، فمن أصل 22 ألف وثيقة يتم الحصول عليها يومياً، يُحتفظ بعشرة آلاف منها فقط، وتوزع البقية على مكتبات أخرى وعلى المدارس... شاملة وحديثة تتسم مكتبة الكونغرس بالشمولية، فهي تعد «مكتب الولاياتالمتحدة لحقوق التأليف والنشر» الخاص بالوديعة القانونية وتسجيل براءات الاختراع أو حقوق التأليف والنشر (يمكن القيام بهذا التسجيل عبر الشبكة)، و»خدمة المكتبة الوطنية للمكفوفين والمعاقين جسدياً»، التي تنتج وثائق سمعية وبطريقة «برايل» للأشخاص الذين يعانون مشاكل في النظر، بالإضافة إلى «خدمة بحوث الكونغرس» المخصصة لأعضاء المجلس، و»مكتبة الكونغرس القانونية» التي تزود بمعلومات قانونية. وعلى الرغم من أن تلك المؤسسة العريقة قائمة منذ القرن التاسع عشر، إلا أنها عرفت كيف تواكب الحداثة، فهي اعتمدت نظام «مارك» للفهرسة، وهو معيار تواصل (تم العمل على تحسينه من دون توقف منذ إنشائه) يهدف إلى تبادل المعطيات البيبليوغرافية، وباتت اليوم في طليعة التقدم التكنولوجي في مجال الترقيم - وهي نعمة بالنسبة إلى مكتبة تفتقر إلى المساحة! هذا ويمكن الاطلاع على كتالوغ المكتبة المذهل على الشبكة، كما أن العديد من المحفوظات موضوعة في خدمة مستخدمي الإنترنت، على غرار «الجوك بوكس الوطني» الذي يقدم مجاناً تسجيلات أصلية لأغانٍ قديمة، أو «الذاكرة الأميركية» التي تضم 5 ملايين وثيقة حول التراث الأميركي، صادرة عن 90 مجموعة! وفي نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2005، أطلقت المكتبة مشروع «المكتبة الرقمية العالمية» الرامي إلى حفظ الكتب وغيرها من وسائل المعلومات الخاصة بمختلف الثقافات العالمية، بطريقة رقمية. ويذكر أن المشروع يضم أكثر من 600 وثيقة استثنائية تتعلق بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا (من ضمنها نسخ فريدة من القرآن أو مخطوطات نادرة حول العلوم العربية)، وكلها وثائق يمكن الاطلاع عليها بكل حرية. حركة دائمة لحسن الحظ أن مكتبة الكونغرس ليست «مقبرة» كتب، بل هي مكان لطيف وحافل بالحياة. فهي تشهد تنظيم حفلات موسيقية (في «قاعة كوليدج» و»جناح ويتال») وجلسات قراءة عامة بصورة منتظمة. ففي 15 أيار (مايو) الماضي، قابلت الفائزة بجائزة نوبل للأدب هيرتا مولر قراءها في مبنى جيمس ماديسون. كما أن المكتبة تستضيف عدداً من العروض على مدار السنة، تتناول مواضيع مختلفة تتراوح بين علم النباتات والموسيقى. وفي آذار (مارس) الفائت، اختيرت للاحتفال بالذكرى المئوية الثالثة لولادة روسو. وفي السادس والعشرين من أيلول (سبتمبر) وفي إطار برنامج اختيار يريفان عاصمة عالمية للكتاب للعام 2012 وبمناسبة الذكرى المئوية الخامسة لطباعة الكتاب الأول المطبوع باللغة الأرمينية (بعنوان «اورباتا كيرك» أو «كتاب الجمعة» وقد أصدره هاغوب ميغابارت)، أقيم معرض جميل للغاية بعنوان «لمعرفة الحكمة والتعليم: التقليد الأدبي الأرميني في مكتبة الكونغرس» ضم مؤلفات أرمينية نادرة جداً تسلط الضوء على حيوية الشعب الأرميني الذي لم يتوقف شتاته، أكان في البندقية أم في القدس، عن الكتابة والنشر... وفي 22 و23 أيلول (سبتمبر) الفائت، استضافت مهرجاناً وطنياً للكتاب بحضور كتاب مشهورين من قبيل مايكل كونيلي، أو ماريو فارغاس يوسا، أو تي. سي. بويل، أو جيرالدين بروكس أو باتريسيا كورنويل.