"من المؤكد أنني لا أصدق ما أقرأ لأنه مطبوع ليس غير" هذه العبارة جاءت على لسان المخرج الايطالي "فيلليني" فيما يشبه السيرة الذاتية، قبل وفاته بسنوات، أي جاءت على لسانه عندما أصبح قامة شامخة في الفن السينمائي، ولهذا تُسمع العبارة في حقل التأويل الجمالي، بصدى مُبالغ فيه، فقط لأن "فيلليني" هو قائلها، وليست لأنها عبارة تحمل عمقاً جمالياً بصرف النظر عن قائلها. هناك عادة انه عندما يصل فنان في جنسه الفني، إلى ذروة عالية، ويتضخم اسمه ويرتفع عن حق، كمنطاد هوائي، يُصبح لزاماً عليه تحت ضغط الأداة الإعلامية في أرقى صورها، أن يقول كلمته في الفنون الأخرى. تلك الكلمة تخرج من "فيلليني" بثقة زائدة، لتأخذ شكل الحكم المُبرم على فن آخر. ويبدو أن الجميع يتلهف إلى هذا الحكم، ويأخذونه مأخذ الحكم الجمالي العميق. في حين أنه حكم يجب أن يؤخذ مأخذ الحكم الطفولي البريء من فنان كبير دُفع إلى أن يقول كلمته في فن آخر، ما كان له أن يقولها قبل ثلاثين سنة، حتى لو كان يشعر بها منذ بداياته الأولى، لكنها البساطة والجرأة والثقة والشيخوخة أيضاً. يقصد "فيلليني" بالمطبوع الذي لا يصدقه لكونه مطبوعاً، الأدب بإطلاقه. هذا الحكم صادم ومحزن بشكل مؤسف، لكنه حكم فنان كبير، ويجب تأويله ومده الى أقصى مداه، حتى نصل إلى معان هدّامة تخريبية، تمس الأسطورة العذراء الغافلة في خدرها القائلة بوحدة الفنون. هذا الحكم يعني بكلمات أكثر جفافاً، أن الأجناس الفنية معزولة عن بعضها البعض، وليست هناك روابط عميقة تنظمها في عقد واحد يسمى بوحدة الفنون. إن نظرية وحدة الأجناس الفنية الكلاسيكية المُمثلة في العبارة المشهورة "العين ترى والأذن تسمع"، نظرية ساذجة. أنت تتعلم الموسيقى من الموسيقى، والفن التشكيلي من الفن التشكيلي. إذن فالعين ترى والأذن تسمع. قد نصف موسيقى "سترافنسكي" بكلمات أدبية، وقد نطلق على سينما "تاركوفسكي" سينما الشعر. لكنّ هذا لا يعني شيئاً. قد تكون وحدة الأجناس الفنية مفيدة للناشئ الهاوي لكنها للمحترفين لا تعني شيئاً. بالطبع لم يكن "فيلليني" مدركاً فداحة تأويل عبارته، لأنه ببساطة لا يفهم الأدب، بل لا يقدره، وله الحق في ذلك فقط، لأنه "فيلليني". أما لو كانت قامته في السينما قصيرة، لبدت كلماته عن الأدب مُجحفة وسخيفة ولا تستحق التأويل. سنذهب الآن الى المطبوع، إلى الأدب، لنستعير عبارة من أحد أساطينه، وهو "ياسوناري كاواباتا" الذي لا يقل شموخاً في جنسه الفني، عن شموخ "فيلليني" في السينما. وحظ "فيلليني" السيء، أن عبارة "كاواباتا" تُدلل على معرفة "فيلليني" السطحية بكل ما هو مطبوع، أي بكل ما هو أدب. يقول "كاواباتا" على لسان شخصية الكاتب الروائي "أوكي" في رواية "حزن وجمال": "فحين ظهر عمل "أوكي" الأول، في إحدى المجلات، أدهشه فرق التأثير بين المخطوطة المكتوبة بالقلم وحروف المطبعة الصغيرة. وحين اكتسب تجربة أكبر في مهنته ككاتب، توقع بشكل طبيعي، أمام مخطوطته، التأثير الذي ستحدثه حروف المطبعة. وكانت المقاطع التي تبدو في خطه، غير ذات معنى، وبلا قيمة كبيرة، كانت تظهر بمظهر مختلف تماماً إذ هي مطبوعة. ألم يكن ذلك يعني أنه قد تعلم مهنته؟ كان غالباً ما يقول للكتّاب الشبّان: "ادفعوا الى الطبع شيئاً كتبتموه. إنه مختلف تماماً عن المخطوط، وسيدهشكم أن تروا ما سوف يعلمكم هذا". أعتقد أنه لو قُدّر ل "كاواباتا" أن يقول كلمته في المرئي، أي السينما، لما كانت أحسن حظاً في حكمها الجمالي، عن كلمة "فيلليني" في الأدب. إن المفارقة العبثية في نظرية وحدة الفنون الكلاسيكية، لا ينكشف زيفها، وهذا هو المفارق والمضحك في آن، إلا من خلال الأحكام الطفولية لفنانين كبار لا تؤرقهم نظرية عزلة الأجناس الفنية، بل قد تكون هذه الأحكام، أُطلقت بشكل جزافي مرح، تحت وطأة الحرية المُسكرة العابثة، وهي لهذا السبب عينه تستحق التأويل. وقد يلاحظ القارئ أن كاتب السطور السابقة، يشتغل بالأدب والسينما، أي يشتغل بجنسين فنيين لا توجد روابط عميقة بينهما حسب نظريته في عزلة الأجناس الفنية. فكيف له حق التأويل الجمالي؟ أم هو ما زال في طور النشوء والهواية؟ وحتى لو كان في مرحلة الناشئ الهاوي، أليست الهواية هي عشاوة وحدة الفنون الوردية؟ روائي وسينمائي مصري كاتب سيناريو "عفاريت الاسفلت" و"جنة الشياطين".