المعرض الفني المشترك الذي يقام حالياً في صالات مؤسسة انطونيو ماتسوتا في مدينة ميلانو لكل من "عبقري" السينما الايطالية الراحل فيديريكو فيلليني، والفنان المسرحي الكبير داريو فو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1998، يشكل تجاوزاً لجغرافية العمل السينمائي والمسرحي. ويدخل الى الروح الانسانية ايقاعاً جديداً. وتتحوّل عين المتلقي الى عناق مع ما تشيعه مكونات المكان، فتبزغ الألوان الحارة لكل من الفنانين على تضاريس اللوحات البيضاء وكأنها حنين راقص لمعانقة أعمالهما السينمائية والمسرحية، وما لهذه الاعمال وتلك من ابعاد معاصرة، ومن شاعرية تلوح من خلال شفافية الاشكال الجميلة التي سكنت تلك اللوحات. ويدرك المشاهد عبر عشرات الاعمال الفنية المعروضة ما يريد كل منهما ان يقوله من خلال شخصيات تملأ فضاء اللوحات وتحيل المكان الذي يرسمه الفنانان الى فرح يأسر الانسان من كل الجهات. للوهلة الاولى تبدو تخطيطات "المايسترو" فيلليني وكأنها تنتمي الى تلك العوالم المدهشة التي حوتها افلامه الشهيرة مثل "أنا أتذكر" و"الحياة حلوة" و"ثمانية ونصف" و"مدينة النساء" و"السفينة تبحر" و"كازانوفا" و"بروفة الاوركسترا" و"ضوء القمر" وغيرها من الافلام التي يجري الحديث عنها دائماً كفعاليات ابداعية تستقطب كيان الفنان. اذ تبدو تخطيطاته الصغيرة التي نفذت لتكون بمثابة "سكيتشات" لمشاهد افلامه قبل البدء بتنفيذها سينمائياً. بقيت تديم نفسها بدأب وصرامة واخلاص، حتى انها اليوم تكاد تستفز مشهد الابداع التشكيلي الايطالي الذي أخذ خلال السنوات القليلة الماضية في الضمور. فحساسية اللون عند المايسترو، تصفو، وتشف في معظم التخطيطات الصغيرة المعروضة والتي تعرّف المتلقي بما يمكن وصفه بعمل الالوان فيها وبتلك الفراغات التي تنشأ في أماكن متفرقة. فراغات قد يجدها البعض عفوية، لكنها مدروسة، تمتلك روح المشاكسة الطفولية وإلحاحها وأنانيتها ورغباتها في الاعلان عن نفسها وقد اشتهر بها هذا الفنان الكبير واتخذها كمبدأ لتكريس ابتكاراته الخالصة وهي التي جمعت مواهب عدة أطلقها في بوتقة السينما. فهو اصلاً جاء من عالم الرسوم المتحركة، ومجلات الضحك التي برع في إنجاز رسوم وتخطيطات كثيرة لها سرعان ما وجدت طريقها للنشر، لقد بدأ حياته العملية كرسام لمثل هذه المجلات، فرافقته هذه العادة الى العمل السينمائي، فانكب على رسم وتخطيط شخصيات أشرطته وديكوراتها وأكسسواراتها، وأجسادها الممتلئة، وحركاتها المضحكة. وقدم فيلليني من عالم الصحافة الذي علّمه الاختزال والإيجاز وتعدد مستويات القص ومقاربة الشخصيات الاكثر غرابة وتراكباً وقد جعلها محوراً مركزياً لواحد من أهم أفلامه هو الحياة حلوة لا دولشافيتا الذي قدّمه عام 1959. لقد غرف هذا السينمائي الخالد من الارياف كل ما تزخر به من صور وخيالات وبساطة وواقع، وهو كان عاش مع جدته التي هي أهم شخصية في حياته كما يقول، ولم يكن يستطيع ان يتصور حياته من دونها. انها الجدة الاكثر قرباً الى منبع الالهام، الجدة التي تعلم من خلالها مشاهدة الحياة وألوانها. لذلك نراه في معظم افلامه ولوحاته يحاول جمع كل شيء في شيء حتى لكأن أفلامه ولوحاته تكوّن مرجعاً ضخماً لصور ومشاهد لم تكن تتعامل معها السينما الايطالية في كل تاريخها، لان اسلوبه أو حياكته للمشهد، وللشخصيات، جعل منه المبدع دونما منازع، ليس في ايطاليا وحدها وانما في عموم بلدان اوروبا الغربية. وقد انعكست على اعماله الفنية عوالم الموسيقى الشعبية ومشعوذي السيرك، ولاعبي الاكروباتيك، ونافخي النيران، ورجال العصابات المحلية، ومرتزقة الفن، وعشرات النماذج الاخرى. كل هؤلاء وجدوا سبيلهم الى عين فيلليني وذاكرته ليبثهم بغزارة احتفالية اخاذة في مجمل نشاطاته الفنية وخاصة في افلامه الاولى مثل "الشيخ الابيض" الذي قدمه عام 1952 وفيه اول استعارة واضحة لتجربته القديمة الاولى كرسام ماهر. ولد فيلليني في مدينة ديميني السياحية التي تقع على شواطىء البحر الادرياتيكي عام 1920 وغادرها الى مدينة روما عام 1940 ليعمل في الصحافة، ولكنه سرعان ما تحوّل الى كتابة السيناريو، ثم مساعد مخرج لرائد الواقعية الايطالية الجديدة روسيلليني. وظل فيلليني يسجل مظاهر الكذب والخداع لهذا العصر، فهو يصور هذا المجتمع وكأنه مشهد جنائزي كما لو كان نقياً وصافياً في الظاهر، الا انه لا يعدو ان يكون مثل لوحات القرون الوسطى، كأنه يرقص مع الموت من دون ان يراه أحد، وهذه اللوحات التي تمثل كوميديا انسانية هي مزيج يشبه رسوم الفنان الاسباني غويا وقصص كافكا والتي يتحوّل فيها بعض الرجال الى وحوش من دون ان يشعر المرء بذلك. لقد كان هذا المبدع احد الاستثناءات السينمائية الفريدة التي لا يمكن ان يتماثل مع اقرانه من الكبار السينمائيين. ظل حتى النهاية أميناً لايطاليته، ولم يعبر حدودها أو تاريخها أو رموزها، ولكن ايضاً من دون ان يتخلى لحظة عن شمولية قناعاته من الانسان والحياة والموت والغربة والذاكرة والتاريخ، وغيرها من القضايا التي كان يضعها في اطار سينمائي مشوب بالتهكم والسخرية. فيلليني الفنان المبدع الذي كان ولعاً على ما يبدو بالمشي ليلاً في شوارع روما، كان دائماً الى جانب هذه المدينة العريقة الرائعة الجمال، تفرد بأسلوبه في السينما وفي الرسم، ولم يكن يخفي امتعاضه من وقائع حياته وحياة بلاده، حين يميل الى تغليب العلامات الواضحة في لوحاته عبر الضربات السريعة العنيفة. ذلك ان الفن لديه يظل غير بعيد عن عملية انعكاس مباشرة كهذه، فثمة الفكرة الى جانب الخبرة وتراكم التجربة يمكنها ان تواصل فعلها في التحريض على مقارعة القبح والقسوة في عالمنا. لقد خسر الجمهور فيلليني ولكنه لحسن الحظ سيجلس مرات ومرات يشاهد افلامه ويتطلع الى اعماله التشكيلية لكي ينجز قراءات متجددة لفكر رجل فنان تحول الى كائن أكبر من سيرته وفردانيته. لوحات داريو فو في لوحات داريو فو، تظهر لغته وحواراته المسرحية النقدية التي يستخدمها كأداة لايصال مضامينه النقدية المتصادمة مع الواقع الايطالي الذي يصفه على الدوام ب"الواقع المنخور بالمرض". وفي اعماله التشكيلية المتعددة، نقف أمام فنان تشكيلي يمتلك ادواته الفنية والحرفية المقتدرة في بناء معمار اللوحة الفنية التقليدية، فهو من ذوي المواهب العالية والمهارة العظيمة، والمعرفة الكبيرة والخبرة الممتازة، ومشبع بالروح التفاؤلية المحبة للحياة والناس. وهو يزاوج بين قوة الاسطورة والثورة بغية نقد الواقع بسخرية حادة تجعل من بعض اعماله الفنية التشكيلية ذات ابعاد كاريكاتورية في أحيان كثيرة. انه على الدوام يزاوج بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والعبث، حتى اصبحت هذه الحالة واحدة من خصاله السلوكية العادية. وتميز منذ طفولته بروح المداعبة واثارة المواقف المضحكة، فقد ولد عام 1926 لأب كان عاملاً في السكك الحديد ملتزماً بالقضايا الاجتماعية ومناهضاً للفاشية، ويزاول النشاط المسرحي في فرقة هاوية استخدمت المسرح كوسيلة تربوية وتحريضية. وقد زرع في روح ابنه الرغبة في الاقتراب من المسرح منذ الصغر إذ بنى له مسرحاً صغير للدمى في باحة الدار. أدرك داريو فو ما للاسطورة الشعبية في العلاقات الإنسانية الراهنة من دور كبير في بناء السلوك والايديولوجية. ولهذا فهو حاول ربط أعماله المسرحية والتشكيلية بالحكاية التراثية الرحبة والمترامية الاطراف، معتمداً على معرفته الواسعة والدقيقة في الجوانب التراثية والفكرية التي انتجها ولا يزال المسرح الشعبي الايطالي. انه ينتقد الواقع من خلال نقده الساخر والعميق للفكر الاسطوري، وهو يدرك بان نقده هذا يأخذ شكله من خلال ما يطالب به من تغيير في عملية النمو الاجتماعي. ولقد وصفه الناقد الفرنسي "برنارد دورات" قائلاً: "ان داريو فو عمل ليكون أكبر حملة الملهاة الخارقة، وبه اصبحت الحركة المسرحية تمتلك كل وضوحها". في أعماله التشكيلية المعروضة والتي يقول عنها بانها "تشبيهات ورموز متهكمة ملونة اعتبرها تتمات ساخرة لاعمالي المسرحية" يبدو وكأنه دارس ومحلل نقدي ساخر، لا يقدم معارف تاريخية معينة، بل يدأب على كيفية ايقاظ الرغبة في التغيير. فهو يرى الأشياء التي تقف على المسرح أو في الحياة اليومية بعينين غير مغمضتين، ويقدم كل ما يراه على شكل أناشيد لونية حارة صارخة تبدو وفي أحيان كثيرة كأنها متعارضة، تبعاً لاستخداماته اللونية المتنوعة على سطح اللوحة الواحدة. فهو يطرح من خلال هذه اللوحات ظواهر معاشة في ايطاليا مثل ظاهرة العنف والسلطة والحرية والجنس والطبقية، والفضائح السياسية والاخلاقية... الخ. يرسم داريو فو بحركاته المرنة التلقائية غير المتصنعة عوالم مدهشة على خشبة المسرح، ويعكس كل ذلك على سطوح اعماله التشكيلية، ليتحرى كل مسارات الاسئلة التي ظلّت تشغله كفنان قدير أدرك بوعي كبير ماهية الترابط ما بين القدرات الابداعية والسمات الرهيفة للواقع الايطالي. لقد استفاد داريو فو من تجربته الدراسية ايام شبابه للرسم والديكور في أكاديمية الفنون الجميلة في ميلانو، وكذلك للمعمار، الا انه أبدى أولى خطواته في العمل في الاذاعة الايطالية ومسرح المنوعات، اذ كان يقدم برنامجاً يعتمد على رواية الحكايات الشعبية، وهو البرنامج الذي فتح الطريق أمامه من اجل تأكيد قدراته كراو للحكايات. وقد انعكست اثار هذه التجربة على مسرحه لاحقاً، وحملت نتاجاته الفنية التشكيلية آثاراً مماثلة، فأصبح كل ملصق جداري وكل لوحة من لوحاته الفنية يجسدان حدثاً أو موقفاً أو حركة مسرحية تنطوي على الرمز كأداة ضرورية وظفها داريو فو، ليجعل من لوحاته جزءاً متمماً يتابع المشاهد من خلاله الكثير من الادوار المسرحية غير المرئية. وتحوي اعماله التشكيلية صورة القناع الذي يضعه شخوص هذه اللوحات على وجوههم. وهو يحاول التأكيد على تلك النصوص الشعبية التي كان يكتبها والتي سماها "الكوميديا". فالقناع يخفي الانحطاط والرياء الاجتماعيين. وتميّزت تلك النصوص بنوع من البناء النصي الشبيه ببناء مقاطع الكلاون المهرج الكوميدي الذي يزاول فنه في السيرك والساحات العامة من خلال التمثيل الايمائي.س يركز داريو فو على الجسد الانساني الذي رسمه في معظم اللوحات شبه عارٍ، باعتباره أكمل مخلوقات الطبيعة. وعلى اعتبار ان الجمال يكمن في طبيعة الاشياء ذاتها، ومهمة الفنان من وجهة نظره تنحصر في تقليد الطبيعة. فالعالم رائع في جوهره العميق، والجمال موجود في كل تشعباته، وما على الفن الا الكشف عن قوانين الجمال، والاعلاء من شخصية الانسان والتعبير عن ايمانه بلا محدودية طاقاته الخلاقة وبغده الافضل.