توجهت الى بغداد في منتصف شهر أيار مايو 1999 ضمن بعثة تحقيق للجنة العربية لحقوق الانسان من اجل الاطلاع على الوضع في ظل الحصار. وصلنا العاصمة العراقية ليلاً بعد سفر استغرق قرابة 12 ساعة عبر "ممر الوليد" على الحدود السورية - العراقية، في سيارة اجرة خاصة، لأنها وسيلة النقل العام الوحيدة بين البلدين. في طريقي كانت الصور تمر في مخيلتي غير واضحة بسبب شبه الانقطاع الذي يعيشه العراق عن العالم. وهذا لا يمكن ان يعطي صورة كافية عما آلت اليه عاصمة "الف ليلة وليلة" ومركز الخلافة العباسية ومدينة الازدهار العربي الاسلامي قبل قرابة ألف عام. المدينة التي احتضنت نخبة شعراء هذا القرن وتعرفنا من رحابها على التاريخ العربي ما قبل الاسلامي في اعمال جواد علي، واكتشفنا اسرار التاريخ الاجتماعي المشرقي في جهود علي الوردي، وباشرنا قراءة التاريخ الاقتصادي العربي بأعمال عبدالعزيز الدوري. على رغم متابعتي للوضع من بعيد، اندهشت بما رأيت للوهلة الأولى. فما عدا آثار الضربات الاخيرة على بغداد في كانون الأول ديسمبر الماضي لم يكن يظهر اي اثر واضح على المباني لما عرفته هذه المدينة من تدمير مكثف في شتاء 1991. لكن وراء المظهر الخارجي يبقى العراق اليوم، باستعارة وصف بعض المراقبين له، اشبه بمعسكر احتجاز واسع ومنسي ومحروم من وسائل الحياة في المدى المنظور. فالمستشفيات تصارع لتدبير امورها بسبب قلة الأدوية، اذ لا يؤمن اتفاق "النفط مقابل الغذاء" الا جزءاً زهيداً منها. ويتم اجراء العمليات الجراحية ومنها الولادة القيصرية من دون مخدر، وتفتقد المختبرات ومعدات كثيرة كتلك المتعلقة بالانعاش مثلاً لقطع الغيار وتكتظ اجنحة المستشفيات بالأطفال المحتضرين. في "مستشفى صدام" للأطفال التي تستقبل 1500 مراجع يومياً، يموت كل يوم ثلاثة أطفال اي بمعدل 85 طفلاً في الشهر، تنطلق جنازتهم اسبوعياً منها. اثناء زيارتنا لهذا المستشفى كان صراخ الاطفال يصم الآذان بينما يحاول اهلهم التخفيف عنهم والاهتمام بهم بما أوتوا من قوة وصبر وأمل. لم استطع تحمل رؤية اطفال يصارعون الألم في انتظار الموت في مكان ليس لهم فيه خيار وأصبحوا فيه ضحايا بامتياز، فاعتذرت من الطبيب المرافق وخرجت شبه هاربة. ما زال صوت مدير المستشفى يرن في أذني وهو يشرح عجزه عن تأمين متطلبات المعالجة الأساسية. كان يشكو من "نقص حاد بالأدوية والمضادات الحيوية حتى ان معدات من نوع خيوط العمليات الصوندات غير متوافرة. فما العمل ازاء امراض نتجت عن سوء التغذية ونقص المناعة؟ هناك الإسهال الحاد والمزمن، الأمراض الانتقالية، التهاب الكبد، الحصبة، النكاف، التهاب السحايا الدماغية، الكوليرا، امراض سرطان الدم... الخ ولا من جمعيات او مؤسسات تمد يد المساعدة، عدا تلك التي تأتي من طريق "منظمة الكنائس العالمية" و"كليبر" اذ نحصل منها احياناً على مساعدات وأدوية وشراشف، لكنها كلها لا تغطي الا نسبة قليلة من الاحتياجات. مذكرة التفاهم لم تؤمن سوى تغطية 20 في المئة من الاحتياجات. هناك ايضاً نقص في الغذاء ونعتمد على البروتينات الحيوانية. هناك انقطاع في التيار الكهربائي ما يسبب تلف اللقاحات التي هي اصلاً قليلة. لدينا مشكلة في تشخيص الأمراض ونعتمد على جهاز سكانر واحد ما زال يعمل". المخيف ايضاً هو ما أصاب البنى الاجتماعية من تفكك والحياة العائلية من تمزق على رغم الدور الذي تحاول ان تلعبه الأسرة في حماية افرادها وتخفيف الصدمات عنهم. لكن كيف يمكن الاحتفاظ بعلاقة متوازنة بين الأهل والاطفال من شأنها ان تساعد هؤلاء على ان ينموا نمواً طبيعياً في ظل حال القلق العام والحزن والشعور بالظلم والمهانة التي يعاني منها المجتمع ولا من آفاق منظورة لتغيير الوضع الجاثم كالكابوس على الصدور؟ يضاف الى ذلك ارتفاع في نسبة وفيات الامهات اثناء الحمل والولادة وفي غياب الأب وعدم قيامه بدوره تجاه افراد عائلته. والتسول اصبح ظاهرة مقلقة لأن العائلات التي باتت تعتمد على اطفالها لتأمين مواردها المعيشية في ازدياد مستمر. ونتج عن حال الحصار زيادة كبيرة في نسب البطالة والعنف الاجتماعي والسرقة وجنوح الاحداث والبغاء والانتحار وما شابه من علامات انهيار في النسيج الاجتماعي. ان العلاقة جدلية بين ازدياد نسبة الامراض العقلية وتصاعد القلق بشأن المستقبل وفقدان الحوافز بسبب الآثار التراكمية للحرمان المستمر وانهيار التماسك النفسي للعراقيين. فهناك شرائح واسعة من الاطفال العراقيين الذين اخذوا يكبرون وهم معزولون عن بقية العالم. والاطفال والاحداث الذين يشكلون اكثر من نصف مجتمعهم هم اشد المتأثرين بالوضع. فالحصار يعطل قدراتهم الذهنية ويضيق فرص تشغيلهم، بما في ذلك من تأثير على حصانتهم الاخلاقية والنفسية. الى ذلك، لا يستطيع الشباب والشابات في هذه الظروف الإقدام على الزواج وفتح بيوت، اذ تزداد ظاهرة العنوسة بشكل مقلق. اضافة الى شكوى عامة من التدهور الثقافي والعملي وارتفاع نسبة التسرب من المدارس. فكيف يمكن ان يطلب التلميذ او الطالب الاهتمام بالدراسة والتركيز على التحصيل العلمي وهو لا يرى جدوى لما يفعله، بل ويصعب عليه استحضار كل امكاناته الذهنية بسبب القلق النفسي وسوء التغذية وأمراض العيون وأمراض السرطان وغيره. كما ويحرم من ادوات اقتناء المعرفة من الكتب والوسائل الايضاحية الحديثة والتقنية الى الدفاتر وأقلام الرصاص؟ شرحت مديرة "مدرسة الكرخ للبنات" لنا انه قبل الحصار كان النظام التربوي وصل الى مستوى متقدم مع قانون مجانية التعليم وإلزاميته للجنسين حتى 16 من العمر، وبدأ هذا النظام يفقد مستواه بسبب التسرب في المدرسين والطلبة وبسبب تصدع البنى الأساسية التي تأثرت بفرض الحصار. وأصبحت تفرض بعض الرسوم لتوفير الأشياء الرئيسية ويتم استعادة الكتب المدرسية من التلاميذ ثم يعاد توزيعها بنسبة 50 في المئة لعدم تمكن وزارة التربية من طباعة اكثر من نصف احتياجات المدارس. وتجبر البطالة وانخفاض الرواتب حملة الشهادات الى ترك وظائفهم والهجرة الى خارج البلد او البحث عن وظائف اخرى تدرّ دخلاً افضل او إضافياً كسائقي سيارات مثلاً. فحسب شهادة أستاذ جامعي "كان راتب الاستاذ الجامعي 600 دولار قبل الحصار، اما اليوم فهو لا يعدو 15 دولاراً. لذلك عليه ان يزيد عمله ويشتغل علاوة عن الفترات الصباحية في الفترات المسائية كي يضاعف الرقم بما يسمح له بالبقاء نظيفاً ومحافظاً على كرامته ... اصبحت هجرة العقول كبيرة والغالبية التي تأخذ طريق عمان ومنهم من يعبر الحدود عن طريق "التسرب" للشمال هي من حملة الشهادات. وهذا هو ما يريدونه لنا: افراغ هذا البلد من عقوله. وزعت الولاياتالمتحدة واستراليا ونيوزيلندا وكندا استمارات على اساتذة الجامعات العراقية في عمان لطلب الهجرة". ويقدر اليوم عدد العراقيين الذين هاجروا وهجّروا الى الخارج بحوالي مليونين ونصف شخص الى ثلاثة ملايين. قبل فرض العقوبات الاقتصادية من قبل الأممالمتحدة على العراق في آب اغسطس 1990 وتبني القرار 661 كان البلد يعتمد على استيراد حاجاته الغذائية بنسبة 70 في المئة. مع هذه العقوبات الإلزامية التي لا مثيل لها، وهي استمرار للحرب بشكل آخر وشملت كل جوانب حياة الانسان باستثناء التجهيزات المعدة للأغراض الطبية والمواد الغذائية، يمكن ان نتصور الانهيار في مقدرة العراق على اطعام شعبه. فمعدل السعرات الحرارية التي يحصل عليها الفرد الواحد يومياً انخفض من 3120 سعرة قبل الحرب الى 1039 سعرة في عام 94 - 95، وارتفع معدل اسعار السلع الأساسية في المحلات الى 850 مرة أكثر بين 1990 و1995، في الوقت الذي تعمل المخازن المركزية بأقل من 20 في المئة من طاقاتها السابقة. وأدى تطبيق الحصة الغذائية للقرار 986 في 1997 الى انخفاض في اسعار المواد الغذائية الموجودة في الحصة التموينية التي هي مؤلفة من الحبوب والطحين والرز والسمن والحليب والشاي والسكر بسعر 100 دينار لعائلة من 5 اشخاص. لكن المواد غير الواردة في الحصة كالبيض واللحم بقيت مرتفعة السعر. ومع تطبيق مجلس الأمن في شباط فبراير 1998 قراره 1153 الذي رفع سقف المبيعات من النفط العراقي من بليونين الى 5.2 بليون دولار، اظهرت مسوحات الوضع الغذائي من قبل برنامج الغذاء العالمي تغييراً بسيطاً في الوضع الغذائي، لكن انماط تغذية الرضّع لم تتحسن وظل الاطفال وصغار البالغين عرضة لسوء التغذية. بمعنى انه وان ساهم البرنامج الانساني في منع التدهور المتواصل في بعض المجالات، الا ان استيرادات الغذاء وحدها لا تكفي لمعالجة مشاكل سوء التغذية في غياب الجهود نحو اعادة تأهيل البنى التحتية فيما يتعلق بالعناية الصحية والمياه والصرف الصحي. أدى تدفق الأدوية والتجهيزات الطبية بموجب القرار 986 الى زيادة في توافر الادوية والتجهيزات للمؤسسات الصحية وللمواطنين بما حسن الوضع الصحي نوعاً ما. لكن لم يحصل تحسن كبير في البيئة التي تقدم فيها العناية الصحية بسبب عدم تجديد المعدات الطبية الأساسية ومخاطر الامراض المنقولة عبر المياه والنقص في المواصلات والاتصالات وغيره. كذلك، ان انقطاع التيار الكهربائي الذي يمكن ان يستمر لعشر ساعات يومياً يؤثر على الجهود الانسانية مهما كانت. ان أية قراءة لوضع المجتمع تظهر ان الفئات الاكثر تعرضاً لنتائج العقوبات الاقتصادية هي الفئات المستضعفة من نساء وأطفال. ومن مساخر الدهر ان هذه الفئات هي التي تتمتع، نظرياً، بحماية خاصة في القوانين والاعراف الشرقية والدولية. فالحق في الحياة هو "الحق الأعلى الذي لا يسمح بالمساس به حتى في ظروف الطوارئ العامة" لجنة حقوق الانسان في الأممالمتحدة. ولا تعدم الشرعة الدولية لحقوق الانسان من التأكيد على حقوق الصحة ومستوى المعيشة اللائق ومياه الشرب النظيفة والحد الادنى للغذاء التي اسهم الحصار في انتهاكها. وتنص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل على "ان لكل طفل حقاً اساسياً في الحياة" داعية كل الدول لتأمين الحد الاعلى الممكن لبقاء وتطور الطفل و"لاتخاذ الاجراءات المناسبة لتقليل الوفيات بين الرضع والاطفال". الاستنتاج الأساسي لأي مراقب محايد هو ان الخسائر الانسانية التي تلحق بالمدنيين من آثار العقوبات الاقتصادية منذ تسع سنوات تبقى باهظة الثمن قياساً بالفائدة المتوخاة منها. وعواقبها ستبقى بالتأكيد لسنين طويلة عبر اجيال تشوه نموها النفسي والمعرفي والمجتمعي، ما يعيدنا الى مناقشة ليس فحسب مفهوم العقوبة الاقتصادية، وإنما وبشكل اساسي العلاقة بين الاجزاء والمتضرر الرئيسي منه ومهمات مجلس الأمن وصلاحياته. * باحثة لبنانية في علم النفس، وأمينة عامة للجنة العربية لحقوق الانسان.