ان العراق اليوم كما وصفه بعض المراقبين، وكما رأيناه، أشبه بمعسكر احتجاز واسع، منسي من العالم ومحروم من وسائل الحياة على المدى المنظور. ذلك بسبب العقوبات الالزامية التي تعد الأكثر شمولاً لم يسبق لها مثيل بتاريخ العقوبات. اتخذتها الولاياتالمتحدة منذ 2 آب اغسطس 1990 ثم قوتها بقرار مجلس الأمن 661 في 6 اب الذي تضمن اعلان المقاطعة التجارية والمالية والاقتصادية والعسكرية الشاملة. وما زال هذا القرار ساري المفعول الى اليوم. وفرضت الاجراءات العقابية حظراً شاملاً على كل صادرات العراق ومستورداته من البضائع والخدمات كافة، مجمدة الارصدة العراقية في الخارج. وبضغط من الولاياتالمتحدة تبنى مجلس الأمن في 25 آب القرار 665 وأنشأ حصاراً بحرياً لتقوية فاعلية نظام العقوبات حيث أجاز استخدام القوة لغرض احترام الحظر على العراق طبقاً للقرار 661. وبعد شهر شدد من الحظر وقرر تطبيق القرار 661 ليشمل كل وسائط النقل بما فيها الطائرات. وحيث ان "الحظر" في هذه الحال يعد اجراء حرب ويتطلب تخويلاً محدداً بمقتضى المادة 42 من ميثاق الأممالمتحدة، وتمّ التغلب على العقبة القانونية بالمراوغة واللجوء الى مفهوم "المنع". كذلك اتخذت اجراءات لمنع الوكالات الدولية من تقديم المساعدات الضرورية ومن التحقيق في الازمة الصحية المتفاقمة على رغم ان القرار 666 الصادر في 4 ايلول سبتمبر 1990 أجازها وطلب نقل وتوزيع المساعدات الانسانية الى العراق والكويت عن طريق الأممالمتحدة واللجنة الدولية للصليب الاحمر. أجهز الحصار الذي هو شكل آخر للحرب غير المسلحة والصامتة والمضنية على هذا البلد بشكل مروع. فالذين توفوا نتيجته من الشعب العراقي أكثر من الذين قضوا بسبب العمليات الحربية، اضافة الى ان البنى التحتية دمرت بشكل شبه كامل بسبب العمليات العسكرية، كان النقل البحري والجوي قد منع وتوقفت بسبب الحظر أعمال الاعمار والصيانة وخطط التنمية. وتدهور نتيجة لذلك مستوى المعيشة بشكل حاد عما كان عليه قبل 1990 وانخفض الناتج المحلي الاجمالي بحدود الثلثين في 1991 نتيجة انخفاض إنتاج النفط بنسبة 85 في المئة وبسبب تدمير قطاعي الصناعة والخدمات. لم يعد هناك مخزون من الغذاء، وتضرر حصاد الحبوب نتيجة تدمير شبكة الري والبزل وعدم توافر الاجزاء الاحتياطية للصيانة وتوقف الحصول على الأسمدة والمبيدات التي كانت تستورد. كما لم يعد بالامكان توفير الحليب للاطفال ما عدا المرضى منهم وبموجب وصفة طبية. كثيرون من الموظفين لم يستطيعوا الحصول على رواتبهم بالاضافة لتوقف النظام المصرفي بأغلبيته، وللتضخم الشديد ازدادت اسعار مواد غذائية ضرورية بما يعلو عن ألف في المئة. كذلك لم يعد بمستطاع السلطات ان تدعم مربي الدواجن حيث ان المختبر الوحيد المنتج للقاحات البيطرية في مكافحة الامراض التي تصيبها دمر بالقصف. وتسبب نفاد المواد من مراكز التوزيع بعدم حصول عائلات كثيرة على حصصها التموينية، حيث كانت السلطات العراقية قد طبقت بعد عدة ايام من بداية الحصار نظام توزيع الحصص مدعمة اسعار المواد الاساسية. وهذا الاجراء منع حدوث مجاعة إذ كان يحصل الفرد شهرياً على حصة غذائية مؤلفة من 8 كلغ طحين وكلغ واحد من الرز و5،1 كلغ سكر و50 غرام شاي وكلغ من البقوليات و50 غرام زيت. بعض هذه الحصص خفف بعد 4 سنوات لتواصل تدهور الوضع الاقتصادي. كان العراق قبل الحظر يعتمد على استيراد حاجاته الغذائية بنسبة 70 في المئة ويخصص نسبة 34 في المئة للغذاء من اجمالي استيراده أي بمعدل 3 بلايين دولار، وفي حين كان يستورد 200 الف طن شهرياً من الحبوب لم يسمح له سوى باستيراد مقدار النصف خلال ثمانية شهور بعد نهاية الحرب. ظهر نتيجة لكل هذا انتشار واسع لسوء التغذية نال خصوصاً الاطفال دون الخامسة من العمر. وحسب المصادر العراقية، توفي خلال السنة الاولى من الحصار زهاء 11 الف شخص ماتوا جوعاً كما ان 14 الف طفل ماتوا بسبب عدم توافر الأدوية. لم يوقع العراق مع الاممالمتحدة اتفاقاً يسمح بتقديم مساعدات انسانية قبل تشرين الاول اكتوبر 1992 حين تقرر تقديم 200 مليون دولار من الغذاء والدواء والمساعدات المستعجلة نصفها للمنطقة الشمالية. وكان واضحاً ان هذا الاجراء لا يهدف سوى اغراضاً سياسية اذ ان احتياجات البلد تتطلب بلايين الدولارات لإيفائها. كما تبين انه حتى نيسان ابريل 1993 أنفقت 5،41 فقط من مئة مليون من التبرعات أنفقت على البرنامج الانساني بينما صرف الباقي على لجنة التعويضات ولجنة أسلحة الدمار الشامل واعادة الممتلكات الكويتية ولجنة تخطيط الحدود. بلغ حجم التضخم في نهاية 1994 24 ألف في المئة سنوياً، وفي الحين الذي تقدر فيه حاجة الفرد كحد أدنى يومياً ب2306 سعرة حرارية، انخفض معدل السعرات الحرارية من 3120 سعرة قبل الحرب الى 1039 سعرة في عام 94-95. بالمقابل، ارتفع معدل اسعار السلع الاساسية في المحلات الى 850 مرة اكثر بين 1990 و1995. أما المخازن المركزية فألغيت والمعامل المتبقية تحتاج لمواد أولية وطاقة ومواطن له قدرة شرائية. وأين لها بذلك مع تدني الأجور وتسريح قطاع ضخم من العمال والموظفين وتضخم البطالة. فالتباينات تعمقت بين فئات الشعب، كما ظهرت أسواق مرتجلة على أرصفة بغداد بائعوها ممن كانوا ينتمون للطبقة المتوسطة. بضاعتهم هي مكتباتهم الخاصة ومدخراتهم وأمتعتهم الشخصية من القطع الثمينة وأواني المطبخ والملابس وغيرها. فالبطاقة التموينية لا تحتوي الا على الاساسيات من طحين وسكر ورز وزيت وحليب للاطفال دون السنة واحياناً على بيض ودجاجة بالاضافة للشاي والمساحيق والصابون. وهي إن منعت من حدوث مجاعة، لا تكفي العائلة طوال الشهر كما لم تستطع ان تحد من زيادة نسبة سوء التغذية. فالحصة التموينية اليوم لم تعد توفر سوى ثلث نسبة السعرات الحرارية والبروتين مقارنة بما كان يحصل عليه الفرد قبل الحصار بسبب تناقص كمية الحبوب الممكن توفيرها. تفتقر السلة الغذائية الى عدد من الاملاح المعدنية والفيتامينات خصوصاً الحديد وفيتامينات "أ" و"ث". كذلك لا يتم الاعتماد على البروتينات الحيوانية حيث ان اسعار اللحوم والاسماك أغلى من القدرة الشرائية لمعظم العائلات العراقية. مما يجعل النظام الغذائي مفتقراً للحامض الأميني الضروري للنمو. هذا الوضع عرض للخطر 5،3 مليون شخص نصفهم أطفال وأكثر من مائتي ألف امرأة حامل أو مرضع، متسبباً بالتالي في ولادة الكثير من الاطفال المعوقين. صحيح ان تطبيق الحصة الغذائية للقرار 986 في 1997 قد أدى لانخفاض في اسعار المواد الغذائية الموجودة في الحصة التموينية، لكن المواد غير الواردة في الحصة كالبيض واللحم بقيت مرتفعة السعر والدخل المتوسط للفرد لا يسمح له بشراء هذه المواد. لقد أظهرت المسوحات التي أجريت ان البرنامج الانساني الذي طبق بموجب القرار 986 في 1995 وهو ممول بشكل تام من عائدات بيع النفط ولا يشكل بالتالي مساعدات انسانية أتاح تغييراً بسيطاً في الوضع الغذائي، لكن أنماط تغذية الرضع قد تدهورت وظل الاطفال وصغار البالغين عرضة لسوء التغذية. بمعنى انه وان ساهم البرنامج الانساني بمنع التدهور المتواصل في بعض المجالات الا ان مستوردات الغذاء وحدها لا تكفي لمعالجة مشاكل سوء التغذية في غياب الجهود نحو اعادة تأهيل البنى التحتية في ما يتعلق بالعناية الصحية والمياه والصرف الصحي. الوضع الاجتماعي ان الخطير في الاثار السلبية للحصار هو طابعها التراكمي وامتداد تأثيرها على كل القطاعات الاخرى. وأدى ذلك الى خلل كبير في النسج الاقتصادية والاجتماعية وفي الصحة النفسية والجسدية للشعب العراقي. ان تسريح ما يقارب ثلثي القوى العاملة نتيجة توقف المشاريع في القطاعات الحكومية والأهلية سجلت زيادة كبيرة في نسب البطالة، ما ساهم بتمزق الحياة العائلية وأكثر من ظواهر العنف الاجتماعي والرشوة والسرقة والتهريب والمضاربات والانتحار وجنوح الاحداث والبغاء وما شابه ذلك من علامات انهيار وتفكك اجتماعي. وارتفعت نسبة وفيات الامهات اثناء الحمل والولادة وبدأت العائلات تشكو من غياب الأب وعدم قيامه بدوره. في حين ان الضغط الاقتصادي على ربّات الأسر قد ارتفع ملزماً إياهن بتأمين البدائل لمستلزمات الحياة وتمضية وقتهن في اعمال تدبير أمور العائلة وتأمين الغذاء والتقتير وضغط النفقات. تمّ ذلك على حساب انعتاقهن ومشاركتهن في الحياة السياسية وتسلمهن الوظائف العامة وتحقيق أنفسهن. هذا في جو من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والعاطفي ومن الاستغلال المضاعف وامتهان الكرامة واستشراء العنف الاجتماعي وتصدع القيم الاخلاقية وانتعاش التزمت الديني والروابط التقليدية والولاء القبلي. تحملن عبء العقوبات بشكل أعنف عند وفاة الزوج أو الشقيق أو عند انهيار الزواج وفي زيادة حالات العنوسة. والامهات عادة ما يجعن كي يطعمن أطفالهن عندما يعجزن عن تأمين ما يكفي من الاحتياجات. فكيف الحال عندما تكون المرأة حامل أو مرضع في وضع من سوء التغذية المستفحل؟ زادت مشاكل الحمل والتعرض للأمراض ولفقر الدم، وبغياب موانع الحمل ازداد الاجهاض والعمليات القيصرية التي تتم من دون مخدر احياناً. تعاني المرأة مثل سائر المجتمع إن لم يكن أكثر من نتائج التدهور الثقافي والعلمي وارتفاع نسب رسوب أطفالها في المدارس. وبات عدد العائلات التي اصبحت مجبرة على الاعتماد على أطفالها لتأمين مواردها المعيشية كبيراً. والتسرب الذي يشمل كل سنة حوالي 130 ألف طالب وطالبة، ويعود بجزء كبير منه لعدم توفر الامكانيات لإكمال التعليم، تأثر بانتشار الامراض ومشاكل العيون وامراض السرطان. وازدادت مظاهر ضعف التركيز والإعياء والكسل، الى جانب ضعف الالتزام بالقيم الاخلاقية واللجوء للغش والرشوة والتزوير. وتقول شهادة لمختصة في علم النفس ما مفاده ان الاطفال المصابين بسوء التغذية يفقدون الوعي في الصف، والجوع يجعل احدهم يسرق الآخر ويضطر المدرسون لارسالهم الى البيت حيث لا يستطيعون الجلوس منتصبين. أشارت دراسة أجريت سنة 1993 في محافظة بغداد تناولت عينة من 2000 طفل وطفلة من 50 مدرسة ابتدائية تتراوح أعمارهم بين 6 و15 سنة لمعاناة الاطفال في التركيز والانتباه والاستيعاب والتذكر والفهم والى ارتفاع نسبة عدم اداء الواجبات المدرسية وعدم تحمل المسؤولية والهروب من المدرسة. ذلك بالاضافة لازدياد حالات السرقة بنسبة أكثر من 200 في المئة محتلة المرتبة الاولى بين الظواهر النفسية التي برزت في ظروف الحصار، خصوصاً سرقة النقود والمأكولات والمستلزمات المدرسية بسبب الحرمان المادي والغذائي وشعور الطفل بالحاجة للإشباع الفوري لحاجته. كما ازدادت حدة اساءة معاملة الأسرة للطفل والمشاكل الأسرية بين الأهل التي غالباً ما تؤدي الى جنوح الاطفال وشعورهم بالحرمان النفسي وعدم الاستقرار وغيره. أظهرت الدراسة هذه ايضاً ان نسبة 36 في المئة من العينة يأتون الى المدرسة من دون ان يكونوا قد تناولوا طعام الفطور في حين ان 30 في المئة من الذين يبدأون دوامهم بعد الظهر لم يتناولوا وجبة الغذاء. و10 في المئة لم يتناولوا وجبتي طعام تباعاً. وأشار الاطفال المعنيين بالدراسة ان السبب هو عدم كفاية الطعام لدى أسرهم وسوء نوعية الطعام الذي يقدّم لهم، حيث ان 76 في المئة منهم ذهبوا الى المدرسة دون ان يحملوا معهم سندويشاً لتعويض الفطور. أما الذين تناولوا فطوراً فقد اقتصر طعام 58 في المئة منهم على كوب شاي بدون أو مع شيء من الخبز. قبل الحصار كان التعليم مجانياً وإلزامياً لكلا الجنسين حتى 16 من العمر. فعلاوة على تدمير رياض الاطفال والمدارس والجامعات خلال الحرب، لم يتحقق طوال الحصار إنجاز أية بناية مدرسية. وفقدت مستلزمات العملية التربوية بشكل حاد من طبع الكتب المدرسية وتوفير القرطاسية واللوازم الاخرى اذ تقدر هذه الأضرار لعام 1997 فقط بقيمة 450 بليون دينار تقريباً. فأقلام الرصاص مثلاً دخلت لائحة الممنوعات بسبب ما تحويه من مادة الغرافيت وارتفع سعرها أكثر من خمسين ضعفاً. وفي المدارس يتم استعادة الكتب في نهاية السنة الدراسية وتنقى منها نسبة 50 في المئة ليعاد توزيعها السنة المقبلة، كما تفرض بعض الرسوم لتوفير المستلزمات التربوية الرئيسية. وانخفضت بنسبة 90 في المئة كميات طبع الكتب والصحف والدوريات ومجلات الاطفال كما توقفت طباعة الورق لدوائر الدولة بنسبة 60 في المئة بسبب انقطاع توريد الورق بأنواعه. لم يتوقف الامر على هذا، إذ أثر الحصار على كل ما له علاقة بالثقافة والفن من قريب أو بعيد من أفلام ومسرحيات وموسيقى وفولكلور وفن تشكيلي. ذلك بسبب تدمير وتعطيل وعدم توافر ما يسمح بالإنتاج في هذه المجالات بما يشمل التلفزيون والإذاعة وغيرهما. هذا الى جانب تقويض عمليات الاتصال بالعالم الخارجي جواً وبراً وبحراً وتحجيم مشاركة هذا البلد في المؤتمرات والمعارض الدولية وعرقلة تواصله وتفاعله الثقافي. يذكر ان مواقع العراق الأثرية القديمة التي تمثل حضارته العريقة ومتاحفه تعرّضت لاضرار جسيمة من جراء القصف وصعوبات الصيانة والترميم، كما وسرقت مجموعة آثار لا تقدر بثمن من مواقع كثيرة. سقط على سبيل المثال بسبب القصف بعض الآجر من طاق كسرى أكبر وأقدم قوس مشيد من الآجر في العالم، حيث نصبتها على مقربة منه مدفعية مضادة للطائرات فبات يهدد بالانهيار. كما ونهبت ودمرت في المحافظات 8 متاحف وفقدت 8500 قطعة اثرية وحوالي ألفي مخطوطة ثمينة. وقعت السرقات في كثير من المواقع النائية اوروك، نفر، تل أم العقارب، تل جوخة كما أشير الى ان اصحاب المجموعات الخاصة في الولاياتالمتحدة يحصلون على الاثار العراقية. ما استدعى احتجاج العراق الذي لم يسترجع الا القليل من آثاره المنهوبة. شرائح واسعة من الاطفال العراقيين أخذوا يكبرون وهم معزولون عن بقية العالم. والاطفال خصوصاً بين سن الخامسة والخامسة عشر هم أكثر المتأثرين بالوضع، اذ ارتفعت حالات الانتحار بينهم. فمن أهداف الحصار تدمير الصحة النفسية والجسدية للأطفال والشبيبة العراقيين الذين يشكلون نسبة 60 في المئة من المجتمع وتعطيل قدراتهم الذهنية وخنق طاقاتهم الابداعية بدلاً من ان يكون منهم من يخدم الانسانية. كما ان ضيق فرص تشغيلهم وهدر طاقاتهم وعدم توفير العمل لهم ضمن إمكاناتهم يؤثر على حصانتهم الأخلاقية والنفسية مهما كانت. وهم في هذه الظروف لا يستطيعون الاقدام بسهولة على الزواج وفتح بيوت وتكوين عائلات. من جهة اخرى، تؤدي البطالة وانخفاض الرواتب بحملة الشهادات الى ترك وظائفهم والهجرة الى خارج البلد أو للبحث عن وظائف اخرى تدر دخلاً أفضل أو اضافي كسائقي تكسي مثلاً. فحسب شهادة مدرس جامعي: اذا كان راتب الاستاذ الجامعي 600 دولار في الشهر قبل الحصار هو اليوم لا يعدو 15 دولاراً. ولذا عليه ان يزيد عمله من الفترات الصباحية الى فترات مسائية ايضاً كي يضاعف الرقم بما يسمح له بالبقاء نظيفاً ومحافظاً على كرامته. واصبحت هجرة العقول كبيرة والأغلبية التي تأخذ طريق عمان هي من حملة الشهادات، وهذا ما يريدونه لنا: إفراغ هذا البلد من عقوله. فقد وزعت الولاياتالمتحدة واستراليا ونيوزيلندا وكندا استمارات على اساتذة الجامعة العراقيين في عمان لطلب الهجرة. الى تأثير الحصار على الهجرة خارج العراق، توجد حوافز داخلية لها كالسياسة التسلطية وانعدام الحريات وعدم توفر المستلزمات الضرورية للبحث الاكاديمي وبخاصة الحرية الفكرية، ناهيكم عن بعض العراقيل الادارية والبيروقراطية واستخدام معايير الولاء قبل الكفاءة في التقويم وفي المناصب العليا. استمرت في ظل الحصار حملات التنكيل بالمعارضة والتصفيات الجسدية للخصوم كما تشير له تقارير لمنظمات حقوق الانسان الدولية. وعليه، يقدر عدد الذين هاجروا وهجّروا بحوالي مليونين ونصف مليون شخص، ومنهم من يعبر الحدود عن طريق "التسرب" عبر الشمال نتيجة العراقيل التي وضعت لمنع الهجرة. الوضع الصحي أثرت العقوبات عقب تدمير المنشآت الطبية بشكل كبير على العراقيين وبشكل خاص على الاطفال والرضع. ففي حين كان معدل وفيات الاطفال الرضع 47 حالة لكل ألف ولادة حية بين الاعوام 84-89 اصبحت النسبة 108 وفيات بين الاعوام 94-99 حسب تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر في تموز يوليو 1999 والذي تضمن مسحاً لوفيات الاطفال والامهات في جميع أنحاء العراق. تضاعفت كذلك وفيات الاطفال تحت سن الخامسة من 56 حالة لكل الف ولادة حية الى 131 خلال الاعوام نفسها. ويشير التقرير الى ان اسباب التردي هذا تعود لنقص المواد الغذائية والدوائية وازدياد حالات الاصابة بالامراض الانتقالية وعدم توفر المستلزمات الكافية لمعالجة هذه الامراض. اضافة الى عدم توفر وسائل معالجة ووقاية النساء الحوامل من الامراض التي تصيب الاطفال. وأظهرت المسوحات ارتفاع عدد المواليد الذين يقل وزنهم عن 5،2 كلغ الى 8،24 في المئة سنة 1998 بسبب سوء التغذية التي من مؤشراتها توقف النمو والوزن الناقص والهزال. كما ان امراضاً انتقالية كان قد تم القضاء عليها في العراق وكان يمكن منع حدوثها مثل أمراض شلل الاطفال والكوليرا والجرب والتيفوئيد والحصبة وذات الرئة والتهاب الكبد الفيروسي والملاريا والخناق قد عاودت الانتشار بسبب النقص الكبير في اللقاحات المضادة التي كانت تستورد. واصبحت الامراض البسيطة نسبياً قاتلة، كما ذكرت حالات موت اطفال رضع بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن الحاضنات، بينما ينمو آخرون وهم مصابون بالشلل الارتجافي بسبب عدم كفاية الاوكسيجين. وارتفعت نسبة امراض المعدة والامعاء وجفاف الماء في الجسم وسوء التغذية. وارتفع عدد المرضى النفسيين والمصابين بضغط الدم وبمرض السكري والامراض الخطيرة، منها امراض القلب والسرطان وغيره التي لم تعد تلقى العلاج اللازم. كما وانخفضت نوعية اداء العاملين في المستشفيات وخفض عددهم بسبب الضغط والارهاق وتردي الرواتب. وكان العراق قبل الحصار يستورد من الأدوية بقيمة 500 مليون دولار سنوياً ما عدا التجهيزات الطبية الاخرى. مع فرض العقوبات الاقتصادية تدهور الوضع الصحي بشكل كارثي حيث كان محظوراً على العراق شراء واستيراد أية أدوية ومعدات طبية. ورغم الاستثناء "عدا التجهيزات للاغراض الطبية حصراً للقرار 661 فقد رفضت شركات أدوية كثيرة بيع منتجاتها للعراق اثر التهديد الاميركي لها". حتى انه تمّ احتجاز شحنات أدوية ومنتجات طبية وحليب الاطفال كان العراق قد دفع ثمنها قبل آب 1990. حظر على العراق استيراد قطع غيار المعدات والحاضنات ووحدات العناية المركزة ورقائق أشعة اكس والحبر والورق من جملة ما منع. وأصبحت المستشفيات التي لم تغلق تعمل بأقل من ربع طاقتها العادية معتمدة اعتماداً كلياً على التبرعات غير المنتظمة التي تؤمنها المنظمات الخيرية. كما وتحولت "لخزانات للعدوى" بسبب عدم توفر مواد التعقيم والتجهيزات الجراحية وتوقف المختبرات وندرة الأدوية بالاضافة لقلة الغذاء وتلوث الماء وانقطاع الكهرباء وتوقف وسائل النقل وبرنامج التلقيح وغيره. رغم التدهور المخيف في الوضع الصحي وارتفاع معدلات الوفيات ورغم تقارير ونداءات أطراف عدة من وقت لآخر ما زالت العقوبات قائمة. وعلى الرغم من تباين الارقام بحسب المصادر، يمكن القول انه توفي خلال السنوات التسع الفائتة ما يقارب المليون ونصف المليون عراقي أكثرهم من الاطفال. فالمستشفيات ما برحت تصارع لتدبير أمورها حيث لم تؤمن اتفاقية النفط مقابل الدواء والغذاء الا جزءاً زهيداً من الخدمات الضرورية. وخفضت نسبة العمليات الجراحية حوالى 30 في المئة واضطر الجراحون لتأجيل 70 في المئة من الحالات التي تحتاج لتدخل جراحي ولاجراء البعض الآخر ومنها الولادة القيصرية من دون مخدر، والذي يدخل قائمة ممنوعات لجنة المقاطعة. اما المختبرات فتفتقد لمحاليل خاصة، مما خفض في نسبة الفحوصات المختبرية التي يحتاجها المريض لاجراء العمليات الجراحية. لقد توقفت عن العمل معظم الاجهزة الطبية الخاصة مثلاً بمعالجة امراض العيون والقلب والكلي بسبب فقدان ادواتها الاحتياطية. وتمتلىء أجنحة المستشفيات بالأطفال المحتضرين. فالأطفال المصابون بفقر الدم ومرض السكري مثلاً يموتون بسبب ندرة العقاقير. وما جدوى المستشفيات عندما تفتقر للأدوية ولأبسط الاشياء من ضمادات ومعقمات وشراشف نظيفة؟ أطفال كثيرون يموتون كذلك من دون ان يتمكن أهلهم من إنقاذهم بسبب ابتعادهم عن المستشفيات أو لانهم لا يملكون ما يدفعون به ثمناً لأدوية. تشير الاحصاءات الى ارتفاع حاد في الامراض المرتبطة ليس فقط بالحال الغذائية وإنما ايضاً المنقولة عن طريق المياه الملوثة. فقد انخفضت الطاقة التشغيلية لمحطات تصفية مياه الشرب بشكل كبير، وتوقفت محطات تصريف المياه الثقيلة وشبكات تصريف مياه الامطار بسبب عطل المضخات وعدم توفر الأدوات الاحتياطية الخاصة بها. مما نتج عنه انخفاض في حصة الفرد من الماء الصافي من 320 لترا في اليوم الى 128ل. كذلك تدنت كمية ونوعية مياه الشرب بسبب تدمير المصانع التي كانت تنتج الكلور والشب وعدم توافر ما يكفي من هذه المواد لتصفيتها وتعقيمها، ما يهدد بغداد وباقي المدن العراقية خصوصاً في فصل الصيف حيث تصل الحرارة الى خمسين درجة مئوية. أما توقف محطات ضخ المياه الثقيلة نتيجة الحصار وعدم وجود الادوات الاحتياطية حوّل هذه المياه الى الانهار مباشرة. ما نتج عنه ذلك ارتفاع في عدد الامراض الخطرة التي سرعان ما انتشرت بين المواطنين. من ناحيته، ساعد الانخفاض الكبير في قدرة جمع النفايات وحرقها على انتشار الامراض الفتاكة. وأشارت تقارير الى ان حصص الحليب المجفف للأطفال دون السنة من العمر تمثل نصف الحاجة العادية، بما يجيز الامهات على خلط الحليب بماء الشرب الملوث جرثومياً الذي تنتج عنه بالتالي امراض ووفيات. ويذكر انه لا يمكن الاتكال على حليب الأم الذي لا يكفي بسبب سوء تغذيتهن ووطأة معاناتهن. أدى القرار 986 ابتداء من اذار مارس 1997 الى زيادة في الادوية والتجهيزات للمؤسسات الصحية وللمواطنين، بما حسن الوضع الصحي نوعاً ما. لكن لم يجر تحسن كبير في البيئة التي تقدم فيها العناية الصحية من عدم تجديد المعدات الطبية الاساسية ومن مخاطر الامراض المنقولة عبر المياه والنقص في المواصلات والاتصالات وغيره. كذلك ان إنقطاع التيار الكهربائي الذي يستمر ست ساعات يومياً في بغداد و12 ساعة في المحافظات يؤثر على الجهود الانسانية مهما كانت. الى هذا الجانب أشار تقرير، صدر في منتصف 1991 لفريق من علماء نفس الطفل من جامعة هارفارد المختصين بالحروب، ان أطفال العراق يعانون من مجموعة اضطرابات عاطفية وفكرية واشكالات في النوم والتركيز. وهم أكثر معاناة مما عداهم من اطفال حتى أولئك الذين يعيشون في مناطق صراع. واستنتجوا ان غالبيتهم سيعانون من مشاكل نفسية شديدة في حياتهم وطالبوا ببذل جهود وطنية ودولية واسعة لمساعدة أطفال العراق. ووصف خبير منهم بصدمات الاطفال أولئك الذين التقى بهم مرة ثانية بعد عدة أشهر من زيارته الأولى لهم انهم مصابون بصدمة شديدة وان مقدار معاناتهم لم ينقص منذ الكشف الاول: "فهم محاصرون داخل صدمتهم ومحاطون بما يذكرهم بما حدث بحيث يبدو الزمن كمن توقف بالنسبة لهم وتبدو أذهانهم مثل أرض من الحفر الذهنية والتدمير... ويتوقعون ان يحدث ما هو أسوأ". أبانت الدراسة التي أشير اليها أعلاه وأجريت في 1993 على 2000 طفل في محافظة بغداد ان حالات الدوخة والتشنجات العصبية والتعب والتقيؤ والارهاق والإغماء وآلام الرأس بسبب فقر الدم ونقص التغذية والشعور بالحرمان الغذائي والعاطفي قد تضاعفت نسبتها حوالى 200 في المئة في ظل الحصار. كذلك ارتفعت بالنسبة نفسها مشاعر الخوف والقلق بسبب تعرّض الطفل للإحباط والكبت والغضب والحزن واليأس والتهديد بالعقاب والحرمان من الغذاء وغيره. فغالباً ما يعبر الطفل عن قلقه بالبكاء والارق وفقدان الشهية. أما سرعة التهيج والغضب واللجوء للكذب والإحساس بالتهديد والخطر والعزلة والانطواء الاجتماعي وضعف الثقة بالنفس والأنانية في التعامل مع الآخرين وزيادة حدة السلوك العدواني والإغراق في النوم اثناء الدرس وبروز ظاهرة الخمول والاكتئاب كلها من المظاهر التي تضاعفت نسبتها في زمن الحصار. * الامينة العامة للجنة العربية لحقوق الانسان. زارت السيدة داغر بغداد في ايار مايو الماضي وكتبت تقريرها في ضوء تحقيقها عن أوضاع العراق.