كان صاحبنا أول "إنسي" يخطر ببالي، وأنا أفكر في الثقافة والمثقف، فقد كان مثالاً متجسداً، لما يجب ألا يكون عليه المثقف، ومثلاً حياً للعدمية الثقافية، وانفصام الثقافة عن كل فعل إيجابي في مُجْريات الحياة وقضايا المجتمع. وأريد أن أنصف الرجل وهو صديق أعتز بصداقته، وإن اختلفت مع موقفه من الحياة والثقافة، فأقول: انه إنسان أليف لطيف، ومحدث لبق، خفيف الظل وملاحظ لمّاح حذق ذو فراسة في الناس والأفكار. وهذه صفات يعرفها عنه من يألفهم ويأنس إليهم من أصدقائه ومعارفه، أما بالنسبة للآخرين فهو سر مغلق يذكرونه - إن فعلوا - فيذكرون خجله وتلعثمه. وصاحبنا قارئ نهم، يحبس نفسه على القراءة ويصطبر عليها، على نَحْوٍ بطولي. كان ينقطع عن المحاضرات أياماً ثم يخرج علينا وقد طالت لحيته، و"طفح" شاربه على شفتيه واحمرت عيناه واخْشَوْشَن من طول الصمت صوته، فإذا سألناه عن تغيبه قال: "وصلتني مجموعة كتب جديدة فأردت أن أقرأها قبل أن أودعها رفوفَها". وكنا نسافر إلى القاهرة معاً فيقضي نهاره ينقب في أكداس الكتب حول سور الازبكية أو في مكتبات القاهرة الخاصة منها والعامة. وأعترف بأن قراءته كانت شاملة. كان يقرأ كتب الفقه والفلسفة والتاريخ والموسيقى والفلك والرواية والشعر وعمارة المدن القديمة والسياسة والاقتصاد. وحتى علم الحشرات وكل ما تقع يداه عليه. كنت أسأله كلما قرأ علي شيئا من ملاحظاته أو تعليقاته على ما يقرأ - وقليلاً ما كان يفعل - لماذا لا تنشر ما تكتب؟ كان يجيب: أنا أكتب لأقرأ نفسي وأحفظ عليها توازنها وانتظام أفكارها. أما الآخرون فلا يعنيني أن يقرأوا لي أو أن ينتبهوا حتى إلى وجودي، وربما كان من الخير للعالم أن ينقص ثرثارا واحدا. كان يعتقد أن المثقفين حقاً لا أثر كبير لهم في مجتمعهم أو عصرهم أو مجريات الحياة من حولهم. وأن أهمية المثقف اسطورة صنعها بعض الثرثارين من أنصاف المثقفين، وهم الذين يروجون لها، ويتحدثون عنها، ويملأون الدنيا ضجيجاً حولها. أما الذين يصنعون التاريخ حقاً ويؤثرون في الحياة فهم السياسيون والعسكريون ورجال الأعمال والخبازون والنساء وجمع من أنصاف المفكرين، وأثمانهم. كان يعتقد أن الحياة تجري لمستقر لها وأن الكلام فيها والثرثرة حولها والخوض في شؤونها لا يبدئ ولا يعيد ولذلك فالصمت والانعزال هما خير ما ينصح بهما العاقل أصدقاءه العقلاء ان كانوا يسمعون. قلت له منذ أيام: مجلة .... تعد موضوعا عن المثقفين ودورهم في الحياة والمجتمع، فلماذا لا تذهب معي لنعلن موقفك؟ وستلقى أذناً صاغية؟ قال: سآوي إلى ركن صامت لأقرأ ما يكتبون، وإن كنت أعتقد، أنني قد قرأته مراراً وتكراراً، منذ عهد قديم.