بعد نحو عامين من عمل نقيب الغطاسين المحترفين في لبنان محمد السارجي في البحر اللبناني، غطساً وبحثاً وتصويراً وتوثيقاً، لاوضاعه التي يرثى لها بفعل الصيد بالديناميت وانواع الدمار الذي الحقه لبنانيون به، تمكن السارجي، وهو مخرج تلفزيوني، من اكتشاف معالم مدينة صيدون الغارقة في البحر على بعد نحو كيلومتر من شاطئ المدينة الحالية. وقال ل"الحياة" ان الاكتشاف "ثروة حضارية وتاريخية وأثرية سيملأ فراغ حقبة مهمة من تاريخ صيدا"، مؤكداً ان المدينة القديمة "موجودة في ارض عمرها آلاف السنين لم توطأ ولم يُعبث بها". وأظهر السارجي في فيلم صوّره بقايا منازل وقواعدها وأجراناً وساحات مرصوفة بالحجارة وآباراً كبيرة منحوتة في الصخر يصل عمقها الى 15 متراً وهي في شكل قمع لجمع مياه المطر. وشرح السارجي المكتشفات معتبراً ان صيدون هي امتداد للجزيرة الصغيرة الباقية قبالة المدينة وتسمى "الزيرة"، وكانت على ما يبدو جزيرة كبيرة جداً تبلغ مساحتها نحو عشرة اضعاف المساحة الحالية. والمكتشفات الغارقة على عمق خمسة امتار تتوزع على النحو الآتي: في الجانب الجنوبي، توجد حيطان ذات صخور ضخمة بعضها كبير جداً وتظهر تحتها ساحة كأنها مركز قصر أو بلاط، ربما كانت هيكل عشتروت، وقربها ثمة ارض فيها معالم واضحة جداً لبقايا ابنية حجارتها لا تزال مرصوفة بعضها لصق بعض وفيها درج ينحدر نحو الاسفل. ولهذه المنطقة من الجهة الجنوبية حرف بارتفاع ثلاثة امتار او اربعة مما يشير الى ان هذه المنطقة غرقت بأبنيتها كاملة الممتدة ابتداء من الجنوب لتصل الى الجنوب الشرقي. من ناحية الغرب الجنوبي هناك بقايا بناء وقواعد منازل معظمها جدران سمك الواحد منها نحو 70 سنتمتراً، وفي بعض الاماكن ثمة اكوام حجارة مغطاة بالاعشاب البحرية هي على الاغلب بيوت غرقت وبقيت حيث وقعت، كما يوجد في داخل بعض البيوت اجران ماء. في ناحية الغرب الشمالي، توجد آبار كثيرة لجمع مياه الامطار اضافة الى كثير من البرك المتعددة الاحجام وأجران مختلفة. وهناك منازل بين آبار الماء لا تزال قواعدها ظاهرة بوضوح. وبين هذه الآبار ثمة بئر منحوت في جبل على شكل قمع يصل عمقه في بعض الاماكن الى 20 متراً وفي قعره غرف يصل عرضها الى نحو ثمانية امتار بطول عشرين متراً. لهذه الغرف فتحة قطرها متر كانت تغطى صيفاً بحجارة لحجب حرارة الشمس عنها تفادياً للتبخر. وفي الناحية الشرقية هناك ساحة مرصوفة ومتدرجة من الاعلى الى الاسفل في اتجاه الشاطئ تغطي الرمال اسفلها. ويتوقع ان تكون قريبة مما كان سهولاً وهضاباً زراعية. ووجد في هذه المنطقة عمود رخام طوله نحو ثلاثة امتار. وفي ناحية الشمال الشرقي ثمة اكوام حجارة بعضها ضخم جداً تبدو كأنها منازل تهاوت بسبب زلزال لكن الحجارة بقيت في امكنتها على رغم عدم وجود اي شيء يدعمها، وهذا ما يدل الى انه كان هناك شيء كالطين او الخشب ليحملها وعلى مر السنين تلاشى وبقيت الحجارة وحدها. وفي الشمال ثمة حجارة تدل الى بقايا بناء وهي اعمق من بقية المناطق وفي حاجة الى درس لمعرفة ما اذا كانت قد وقعت الى الاسفل بعمق اكبر من بقية الجوانب الاخرى. وقال السارجي: "هناك اعمال ضخمة وجبارة يتطلب انجازها عشرات السنين"، وأكد "ان المدينة القديمة كانت جزيرة بعيدة عن الشاطئ، بحسب المراجع التاريخية، وفيها حياة كاملة ومستقلة اذ تُذهل الآبار من يراها وهي تبرهن على قدرة حافزيها على حفظ مياه المطر وبالتالي كانوا يحتاجونها للزراعة". واضاف "ان عمق البئر البالغ 15 متراً يثبت ان الجزيرة كانت مرتفعة جداً عن سطح البحر والآبار بعيدة عنها ايضا كي لا تتلوث بالمياه المالحة". واكد ان "الاكتشاف سيثبت حقيقة تاريخية مهمة من تاريخ صيدون". واوضح انه يقوم منذ عامين بتسجيل مسلسل عن عالم البحر المتوسط يتناول فيه على طول الشاطئ اللبناني "لنظهر ما فيه لناحية البيئة والظواهر الغريبة. اضافة الى عملنا على اثبات نظرية تفيد ان الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط غارق في الماء وليس فقط ساحله الشمالي"، وتابع "عملنا عامين على هذه المنطقة، من دون ان نلمس حجراً، وكنا كلما اكتشفنا شيئاً صورناه وعرضناه على مؤرخين وباحثين، الى ان اصبحنا مقتنعين ان هذه صيدون". وحذّر من العبث في هذه المنطقة "كما هو حاصل في مدينة صور اذ ثمة مدينة ايضاً غارقة ودمرت كل المعالم فيها من اجل قطع صغيرة من الذهب"، مؤكداً"ان صيدون لم تمس بعد وان اعضاء نقابة الغطاسين والقوى الامنية ساهرون على حمايتها". واشار الى ان "هناك اكتشافات سنعلن عنها لاحقاً". وقال ان "جمعية صيدا للتراث التي تترأسها النائبة بهية الحريري، وهو عضو فيها، ابلغت المسؤولين في الدولة بالامر، ولم يأتنا رد بعد لناحية التنقيب في هذه المنطقة التي نعتقد انها غنية. وفي النقابة معنا هناك غواصون محترفون خبراء في الآثار يمكنهم القيام بهذا العمل، لكننا نحتاج الى اشراف الدولة". واعتبر ان "المنطقة اذا نقبّت واظهرت معالمها قد تسهم في سياحة الغطس وتكون محط الانظار، اسوة بمدينة الاسكندرية التي تقصد من كل العالم للسياحة والغطس". وكان السارجي ينسق لناحية الوثائق التاريخية والابحاث مع الدكتور يوسف حوراني الذي ساق ستة ادلة هي: 1- كتب اقدم مؤرخ فينيقي سانخونياتون في الالف الثاني قبل الميلاد، "صيدون ابنة البحر". 2- كتب سنحريب والد اسرحدون "كانت هناك صيدون العظيمة وصيدون الصغيرة". 3- كتب اشمون عازار الثاني على ناووسيه بعد اكثر من عشرين عاماً على سقوط صيدون الاولى عام 675 قبل الميلاد، "انهم بنوا بيتاً لعشتار عشتروت في صيدون ارض البحر". 4- فاخر يود عشتار حفيد اشمون عازار بانه "بنى معبداً في صيدون البحر". 5- كتب ملك الاشوريين اسرحدون "عبد ملكوت ملك صيدون، ومن دون اي احترام لمركزي سيداً، ومن دون ان ينفذ اوامري الشخصية" رمى جانباً طاعته للاله اشور، واثقاً من ان البحر القوي سيحميه. واما صيدا، مدينته المحصنة كالقلعة، والتي تقع في وسط البحر، فقد دمرتها دماراً كاملاً وكأن عاصفة قد مرت من فوقها. ولقد دمرت حيطانها وقواعدها ورميت بها في البحر. ولقد القيت القبض على عبد ملكوت، ملكها الذي هرب امام هجومي في البحر كالسمكة في البحر العالي، وقطعت رأسه وحملت معي غنائم الحرب: زوجته واولاده وكل ما في قصره من الذهب والفضة والحجارة الكريمة واللباس المصنوع من اقمشة ذات الوان مختلفة وجلود الاسود والعاج وكل ما له قيمة اخذته من قصره بكميات كبيرة جداً". 6- نقل سترابو عن بوزيدانيوس قوله "ان مدينة فوق صيدون قد ابتلعتها الارض بفعل هزة ارضية وكذلك ما يقارب ثلثي مدينة صيدون قد غرق تحت الماء لكن ليس دفعة واحدة ولهذا لم تحدث خسائر كبيرة في حياة الناس"، مرجحاً ان "يكون هذا الحدث قد حصل عام 146 قبل الميلاد". وقال الدكتو حوراني ل"الحياة" ان "القرائن المكتشفة عن مدينة صيدون ليست سوى اثباتات تؤكد صحة النصوص الواردة عنها سواء في التراث الاغريقي ام في التراث الاشوري". واضاف "ان الجغرافي سترابو نقل عن الفيلسوف الآفامي نسبة الى آفاميا بوزيدانيوس ان صيدا غرق ثلثاها في البحر خلال حادثة طبيعية. وهذه الحادثة نفسها جعلت الارض فوق صيدا تنشق وتبتلع بلدة بأكملها. وما يثبت لنا حدوث ذلك ان الباحث يذكر ان المدينة غرقت تدريجاً فلهذا لم تحدث فيها خسائر بشرية مما يعني انه شاهدها عياناً او نقل ما رواه عن شاهد عيان". وتابع "في الوقت نفسه نقرأ ان هناك فرقة من الجيش كانت تسير على الشاطئ خلال حرب بين تريفون الآفامي وديمتريوس الثاني نحو 143 قبل الميلاد، فقد طغى البحر بموجة مدّ عالية جرفت هذه الفرقة باكملها. وهنا ارجح ان هذه الاشارة تزامنت مع غرق ثلثي مدينة صيدا". واشار الى ان "قبل هذا التاريخ نقرأ نصوصاً اشورية تشير الى وجود مدينتين لصيدون صغرى وكبرى يُفترض ان احداها في قلب البحر، والا لما كان هناك سبب للفصل بينهما في هذا التعريف. كما ان اسرحدون دمر صيدون ورمى حجارتها في البحر وهو يقول: انها كانت داخل البحر. هذه الاشارة تساندها نصوص فينيقية تقول: ان اشمون عازار بنى بيتاً لعشتارت الالهة في صيدون ارض البحر وذلك بعد اسرحدون بنحو 120 عاماً". وقال "التعريف هنا بارض البحر نفسره اليوم بصيدون البحرية داخل الجزيرة. هذه النصوص جعلتنا نفترض ان احياء واسعة من مدينة صيدون غرقت". واضاف "اقنعتني ابحاثي التاريخية بهذه النظرية وهي ان عدداً لا بأس به من مدن الساحل اللبناني القديمة لا تزال، كلها او بعضها، تحت الماء لان هناك اشارات لمدن لم يبق لها اثر اليوم مثل اوزو جنوب مدينة صور ويرموتا قرب صيدون وهي مدن كنعانية تعود الى الالف الثاني قبل الميلاد". واشاد بالتعاون مع المخرج الغطاس محمد السارجي معتبراً ان "لا بد من استكمال هذه الابحاث لان ما اكتشف الى الآن ليس سوى مقدمة نأمل ان تلقى دعماً وطنياً لمتابعة البحث سواء في مدينة صيدا ام في مناطق اخرى يفترض وجود آثار فيها وغدت لنا فكرة وافية عنها". واعتبر ان "هذا الاكتشاف يفيد النشاطات السياحية على المدى البعيد ويمكننا استقطاب انظار المهتمين في المجال الايركيولوجي في العالم للاطلاع على الحضارة القديمة الموجودة على شواطئنا"، مبدياً "اسفه لان عشرات البعثات الاثرية موجودة في دول مجاورة بينما لا نجد عندنا سوى بعثتين، فرنسية في عكار والمانية تأتي في نشاطات موسمية الى كامد اللوز في البقاع". مشيراً الى ان "على الدولة ان تتبنى هذه النشاطات وتعتمد اللبنانيين لانهم ادرى بمزاج بحرهم وارضهم وتراثهم ولدينا فريق من الغواصين المحترفين حاملي الشهادات الذين تجاوزوا مرحلة الهواية".