سياحة الغطس تحت الماء، واكتناه أسرار البحار والمحيطات، كانت على الدوام من الرياضات المائية التي تشدّ المرء سواء كان سائحاً أو مقيماً في لبنان. وبسبب وجود مدن غارقة تحت الماء فضلاً عن جمال وروعة المخلوقات المائية من حيوانية ونباتية وآبار المياه الحلوة والساخنة، أمسى الشاطئ اللبناني مقصداً لغطاسين محترفين وهواة ينشدون تصوير ما هدمته الزلازل التي ضربت الساحل اللبناني على مدى العصور! وإذا كان الساحل الجنوبي هو الأغنى على امتداد الشاطئ اللبناني الذي يبلغ طوله 225 كلم من العبدة شمالاً إلى الناقورة على الحدود مع فلسطينالمحتلةجنوباً، فقد عمل نقيب الغطاسين اللبنانيين محمد السارجي (إبن البحر) مع غطاسي نقابته بالتعاون مع الدكتور يوسف الحوراني على سبر غور الأعماق ودراستها، وصولاً إلى استكشاف الآثار المائية، ومحاولة إيجاد رياضة شيقة لا بل سياحة غطس ممتعة تحت الماء. وها نحن في هذا التحقيق نسلّط الضوء على مدينة «يرموتا» الغارقة تحت الماء (قبالة شاطئ بلدة الزهراني التي تبعد عن العاصمة بيروت 70 كلم) منذ الآف السنين حيث نستعين بصور ودراسات السارجي والحوراني للحديث عنها. ويمكن لأيّ كان التواصل مع نقيب الغواصين لزيارتها! ومن «البيت الأزرق» على شاطئ بلدة الصرفند الجنوبية الذي يتخذه السارجي منطلقاً لاستكشافاته البحرية كانت بداية الرحلة، حيث يخبرنا أنّ اكتشاف مدينة «يرموتا» تمّ في نيسان (أبريل) 2001 بعد عامين من عمليات الغوص والتوثيق. وتمّ تحديد الموقع الذي بدأت فيه أعمال الغوص في عام 1999 بناء على دراسة تاريخية قام بها الباحث في التاريخ القديم الدكتور يوسف الحوراني الذي تولى أيضاً الدراسات التاريخية التي أدت إلى اكتشاف مدينة صيدون الفينيقية في قاع بحر صيدا في عام 1999. واختيار الموقع كان من الإنجازات المهمة خصوصاً أن ما تبقى من مراجع تاريخية لم يقدم أية دلالات جغرافية مباشرة على مكان المدينة التي اختفى اسمها من الذكر كلياً، ولولا وجود بعض المراجع التاريخية التي وردت في رسائل تل العمارنة (حوالي 1370 قبل الميلاد) لما علمنا بوجودها في الأساس. ففي هذه الرسائل التي كان يتبادلها حاكم مدينة جبيل آنذاك مع فرعون مصر يتكرر اسم المدينة ما يدل على أهميتها كمركز هام للمصريين. ومن الواضح أن موقع المدينة كان إلى الجنوب من بيروت إذ أن حاكم جبيل يبلغ الفرعون المصري عن منع حاكم بيروت سفنه من الوصول إلى يرموتا. وهذا دليل أيضاً على أن يرموتا كانت تقع على الشاطئ ويصل أليها الناس عبر السفن. والمنطقة التي حددها الدكتور الحوراني في الزهراني هي تلك المعروفة ب «تل البراك» وتقع جنوب مصب نهر الزهراني. وهي غنية بآثارها الإنشائية الباقية إلى يومنا هذا. وما تبقى من آثار تحت سطح الماء يقع مقابل «تل البراك» بالتحديد، وكذلك إلى الشمال وصولاً إلى الزهراني وإلى الجنوب وصولاً إلى الصرفند. كانت «يرموتا» متأثرة بعادات وتقاليد وديانات المصريين نتيجة تواصلهم اليومي مع مصر الفرعونية. وهذا واضح من خلال التماثيل التي اكتشفت في قاع البحر، وأبرزها تمثال «باستا» التي انتشرت عبادتها في مصر بعد عصر الهكسوس مع الأسرة الثانية والعشرين خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ولهذا التمثال رأس يشبه رأس الأسد وله ما يشبه جذع الإنسان. وحتى بعد آلاف السنين من وجوده في قاع البحر ما زلنا نرى بوضوح بعض معالمه، وبالأخص في الرأس مثل الأذن والأنف والفم. ويوجد هذا التمثال على مسافة تبعد حوالى 250 متراً عن الشاطئ وعلى عمق 5 أمتار تحت سطح الماء. وهناك تمثال آخر، على مسافة لا تزيد على 50 متراً من تمثال «باستا»، لحيوان غير محدد لكن عنقه الطويل يقربه من الآلهة المصرية «ست». ومن الواضح أن هذا التمثال كان منحوتاً من حجارة عدة وضعت فوق بعضها البعض، وعندما هوى التمثال بقيت حجارته شبه متماسكة. أما التمثال الثالث فما يزال غير محدد الهوية، لكنه يشبه في وضعه العمودي رأس أفعى الكوبرا (للكوبرا دلالة ما في المعتقدات المصرية القديمة). واللافت أن هذه التماثيل تقع على مقربة من بعضها البعض وكأنها كانت تزين إحدى الساحات العامة في المدينة. وقد يتكهن بعضهم بأن وجودها في المكان الذي وجدت فيه هو لسبب آخر لا علاقة له بالمدينة، كغرق باخرة على سبيل المثال. لكن في قاع البحر في هذه المنطقة توجد طبقة أرضية تبدو وكأنها من الباطون القديم وقد بنيت بشكل ساحات واسعة زينت بهذه التماثيل، ولربما بأخرى لم يتم الكشف عنها حتى الآن. كذلك هناك العشرات من الحجارة المنحوتة، لكن أبرزها مجموعة من ثلاثة حجارة أضخمها في القاع وأصغرها في الأعلى، وهي مثقوبة من الوسط وتشبه إلى حد كبير هرماً فرعونياً. وهناك منطقة أخرى تبدو وكأنها كانت «مبلطة» تكاد الطحالب البحرية تخفي معالمها كلياً، وعليها عدد كبير من الصخور المنحوتة التي تشبه إناء أو كوب ماء ضخماً. والمؤسف أن هذه التماثيل والحجارة المنحوتة تتعرض للتآكل والذوبان بفعل العوامل الطبيعية الناتجة عن وجودها في مياه البحر المالحة. ومن المؤكد بأنها ستتآكل، أو على الأقل تتغير ملامحها جزئياً أو كلياً أو تختفي تحت طبقة من الطحالب والترسبات الكلسية والحشائش البحرية. أما الآثار الواقعة مقابل «تل البراك» مباشرة فتنتشر على مساحة واسعة في كل الاتجاهات. والساحات التي تبدو وكأنها صبت بنوع من الإسمنت القديم تغطي قسماً كبيرة من المنطقة. وبالقرب منها أو بمحاذاتها توجد كتل صخرية ضخمة يُعتقد بأنها بقايا أبنية قديمة هوت نتيجة الهزات الأرضية. وبسبب وجودها في قاع البحر المتميز بنسبة ملوحة مرتفعة أضحت متماسكة وكأنها جسد واحد. وأهم ما تحتويه هذه الجهة هو الطرقات المبنية من حجارة متراصة، أبرزها ما أطلق عليه اسم «الطريق الرئيسية» لكونها تأخذ الاتجاه الغربي- الشرقي وكأنها كانت تبدأ من «تل البراك» الأثري وتتجه غرباً نحو الساحات والأحياء السكنية. ومن الضروري الإشارة إلى أنه كانت هناك جزيرة تفصل بين المنطقتين، مساحتها حوالى الألفين متر مربع. وقد تحولت الآن إلى رصيف لميناء الصيادين في الصرفند. وتم هذا التحويل أثناء الحرب الأهلية اللبنانية بسبب حاجة الصيادين آنذاك إلى ميناء واسع تكون مياهه عميقة نسبياً. المهم أن هذه الجزيرة كانت موقعاً سياحياً مهماً لأبناء المنطقة الذين كانوا يتوافدون إليها للاستجمام والصيد والسباحة، خصوصاً أن عمق المياه الواقعة بينها وبين الشاطئ الذي كان يبعد حوالى الثلاثين متراً عنها، يتفاوت ما بين الستة إلى الثمانية أمتار. وكانت المياه الصافية والنظيفة تسمح برؤية الصخور الضخمة الموجودة في قاع البحر.