أوروبا ومصائر الشرق الأدنى تأليف الأب الدكتور جوزيف حجار بالفرنسية نشر مؤسسة طلاس - دمشق 1998 شَغل الشرق الأدنى أوروبا في القرن التاسع عشر وشُغِل بها. فإن المسألة الشرقية التي ذُرّ قرنها في القرن الثامن عشر، أصبحت سلاحاً - مخفياً حيناً ظاهراً حيناً آخر - تستعمله الدول الأوروبية لتقسيم أملاك الدولة العثمانية. ومع تقدم عقود هذا القرن دقت المناكب بالمناكب وتقاطعت الأساليب واحتد النزاع. وكان البريطانيون والفرنسيون والبروسيون قبل أن تتوحد المانيا سنة 1871 والروس يلجأون الى كل وسيلة لتثبيت وجودهم بتكثيف جهودهم تبشيراً وسياسة معاهدات وبناء سكك الحديد والتطلع حتى نحو الاستيلاء على أملاك الدولة العثمانية. وتبادلت الدول وثائق - معاهدات واتفاقات وانذارات - كانت تحشر في الأرشيف بعد أن تقوم بمهمتها. وتزاحم المبشرون انجيليين وكاثوليكاً في بلاد الشام، ولعلها كانت الجزء المقصود بشكل خاص، وكتب المبشرون تقارير عن أعمالهم وهم يشكرون الرب أن أعانهم، لكنهم لعلهم لم يكونوا دوماً يعملون من أجل الرب. وجمعت تقاريرهم ورسائلهم في مظانها للعودة اليها إذا اقتضى الأمر. وأقبل التجار على بلاد الشام ومصر وسواهما بائعين مصنوعاتهم مشترين المواد الخام التي كان القطران ينتجانها، أو التي كانت تنقل اليهما من الشرق البعيد. وتذكر المهندسون أنه فيما عفى من الدهر كان ثمة سبيل لوصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر ولو بِلَفٍّ ودوران، ففكروا بأن تقوم الهندسة الحديثة بتجنب اللف والدوران وحفر قناة مباشرة بين البحرين. والتاجر والمهندس كانا يعدان الحسابات والتقارير ويرسمان الخطط. وكل هذا الذي يُدوَّن على الورق أو يصور كان يحفظ للعودة اليه ان لزم الأمر. ولم تكن الدول ولا الجمعيات التبشيرية ولا التجار ولا المهندسون هم وحدهم الذين عنوا بأمر المنطقة. فقد كان فيها من قبل مسيحيون تعنى البابوية بأمرهم وتهتم روسيا بشأن البعض الآخر. ومن هنا كان هناك الأرشيفان البابوي والروسي. ثم جاء المبشرون الأمريكان ومعهم ولهم تقاريرهم وآراؤهم. هذه الوثائق، وسواها أنواع أخرى، عني بها الباحثون خلال القرن العشرين ولو أنه كان ثمة بداءة أسبق فقرأوها ونقلوها وفسّروها واختلفوا في التفسير كالاختلاف في تفسير أي وثيقة إذا كانت قد كتبت بأسلوب الساسة المعوج. والحبل على الجرار. فالبحوث والدراسات قائمة قاعدة والتأليف نشيط وتنوع التفسير مستمر، والخلاف بين المفسرين لا يخمد له أوار، وقد لا تهدأ لخلافات الباحثين نار. وكان ممن ألقى بدلوه بين الدلاء، الأب الدكتور جوزيف حجار، الذي يعبدالله بقلبه ويضع عقله في تصرف درس التاريخ. فهو متعبد في محرابين، لكنهما عنده لا يختلفان كما قد يختلفان عند غيره. ذلك أنه في بحثه التاريخ يحاول الوصول الى الحقيقة - ومثل هذه المحاولة هي عبادة وتعبد. نصف قرن ونيف والعينان تنبشان في الأرشيف في بريطانيا وفرنسا والمانيا والفاتيكان لجمع الوثائق ونقلها بالخط قبل أيام التصوير، فإذا تم الجمع كان التقميش وكانت المقارنات والمقابلات وكانت الدراسات تخرج من قلم الأب حجار بحوثاً ومقالات ومن فمه محاضرات تدور في أصلها حول ما كان يدور للشرق الأدنى في القرن التاسع عشر ويرتّب. ثم يتسع العمل فإذا ما كان دراسات جزئية يجتمع فيصبح كلاً متكاملاً. ويخرج أخيراً مجموعاً في تسعة مجلدات تضم نحو ستة آلاف صفحة من القطع الكبير والحرف الصغير موزعة على النحو التالي: مجلد واحد يتناول أيام محمد علي باشا" وثلاثة مجلدات بحث فيها المؤلف أيام نابليون الثالث وتوجهاته الشرقية" ومجلدان عن بسمارك وتطلعاته الشرقية" ومجلدان يتقصى فيهما المؤلف القومية العربية السورية بين تركيا الفتاة والقوى الأوروبية" وأخيراً مجلد واحد عن الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية. الكتاب كله موضوع بالفرنسية فقراءته متيسرة لمن يعرف هذه اللغة. لم أقرأ المجلدات كلها. فمعرفتي بالفرنسية معرفة قارىء بسيط أشبه بحبو الطفل، ومعنى هذا أنني قد أحتاج الى سنوات كي أتمها. لكنني نجحت في أن آتي على قسم كبير من المجلد الأول، ولذلك فإنني سأتحدث عنه بعض الشيء. اتخذ الأب حجار سنة 1815 نقطة انطلاق لبدء قصته الطويلة. وهذا الاختيار لا بد أن يكون موضع تولي محمد علي باشا شؤون مصر؟ جربت أن أبحث عن السبب في اختيار هذه السنة بالذات. والذي اهتديت اليه هو أن المؤلف اتخذ أوروبا نقطة انطلاق لبحث موضوعه. فالكتاب اسمه "أوروبا ومصائر الشرق الأدنى". وقد حسب أنه حتى سنة 1815 كانت أوروبا مشغولة بالحروب التي أثارها نابليون. وقد انتهت هذه في تلك السنة لما اندحر نابليون في ووترلو. وعندها، كما يقول العامة، فضي القرد لمعط الجلد". والقرد هنا هو أوروبا والجلد الذي اتجهت الى معطه هو الشرق الأدنى، أو على الأصح الشرق العربي مع التركيز على بلاد الشام. قد يكون هذا مبرراً، لكنني أختلف مع الأب حجار في ذلك، إذ كان هذا هو السبب في الاختيار. فالواقع أن حملة بونابرت على مصر، سنة 1798، هي التي يجب أن تكون نقطة الانطلاق. لكن لنترك هذه القضية جانباً، ولننظر في المجلد الأول من هذا العمل الضخم، ولنر ما يمكن أن يستفاد منه. ان هذا الجزء من الكتاب لا يتحدث بالتفصيل عن المعارك التي دارت رحاها بين محمد علي والسلطان. انه يكتفي بذكرها. لكنه يركز على النقاط الأساسية في رأيه التالية: أولاً - السياسة الأوروبية، وخصوصاً البريطانية والفرنسية، بالنسبة لمحمد علي والسلطان ومحاولة الأول أن يفيد من المنافسة بينهما. لكن الأمر كان أبعد مما استطاع محمد علي أن يقوم به، وانتهى به الأمر أن خسر كل ما كان قد ربحه تقريباً. فالاستعداد الحربي والتنظيم الذي أدخله ليجعل من مصر دولة قوية تقوم على أرض انتزعها عسكرياً من الحكم التركي، آل الى خيبة الآمال. ويبدو أنه فات محمد علي أن أوروبا، وخصوصاً بريطانيا وفرنسا، لن تسمح بقيام دولة قوية في رقعة كانت تعتبرها منطقة نفوذ لها. إذ كيف تقبل هاتان الدولتان، وهما اللتان كانتا تنظران الى ضعف الدولة العثمانية بشيء من الاطمئنان كي تنعما بما يجره هذا الضعف عليهما من منافع، فتكون هذه الدولة الجديدة حجر عثرة في سبيل تنفيذ ما لديهما من مخططات ظاهرة ومستترة. ثانياً - النشاط الكبير الذي قامت به المؤسسات التبشيرية الإنجيلية والكاثوليكية والأرثوذكسية الروسية ولو أن هذا كان ضعيفاً في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. وبلفت نظرنا الى انشاء مطرانية بريطانيا - بروسيّة في القدس للتمكين لانتشار التبشير الإنجيلي في فلسطين. والحق أن هذه القضية، التي تشغل جزءاً كبيراً من هذا المجلد، موضحة الى درجة كبيرة، وموثقة على نحو ما نجده في الكتاب بأكمله. ويشير بهذه المناسبة الى بعثة روسية أرثوذكسية الى رأس الكنيسة الكاثوليكية الغربية اللاتينية في القدس ص 460 - 482. ويتناول تقوّي البطريركية اللاتينية في القدس بشيء من التفصيل. ويتحدث عن الخصومة بين السياسي الفرنسي غيزو واليسوعيين بخصوص العمل التبشيري، الأمر الذي انتهى بنجاح اليسوعيين أن يكونوا ذراع الحماية الفرنسية الخفية في لبنان. كما أنه يتحدث عن قدوم المبشرين الأميركان الى بلاد الشام. ثالثاً - يولي المؤلف الحركة اليهودية في فلسطين كثيراً من العناية، وتدور أقواله هنا حول نقطتين الأولى هي أثر مثل هذه العودة في الحياة الاقتصادية والسياسية بالنسبة لفلسطين ص 326 - 352" والثانية هي مصير القدس، الذي على ما يبدو، كان يخطط لها أن تصبح مدينة حرة بضمانات دولية ما أشبه الليالي ببعضها - ألم يكن هذا في قرار تقسيم فلسطين الذي أقرته الأممالمتحدة سنة 1947؟ - يتحدث المؤلف عن هذه المسألة والمفاوضات التي جرت بشأنها في الصفحات 352 - 373. رابعاً - استحداث مركز لقاصد رسولي في استانبول، وهذا أمر مهم بالنسبة لحماية المسيحيين الكاثوليك خصوصاً وأنه تبع ذلك زرع "قنصليات" بابوية في أنحاء الإمبراطورية العثمانية. الكتاب وضع بالفرنسية. في جلسة انعقدت مصادفة في دمشق، كان الأب حجار حاضراً فيها، وكان ثمة فئة من أهل الفكر والمعرفة بالتاريخ، اقترح أحدهم، بعد أن سمع عن الكتاب، أن يترجم الكتاب الى العربية. لو أن بلادنا فيها مكتبات عامة يتمكن القراء، حتى في البلدات الصغيرة والقرى الكبيرة، من اللجوء اليها للإفادة من مثل هذا الكتاب، لكنت من أشد المتحمسين لمثل هذه الفكرة. لكن ترجمة مثل هذا الكتاب الضخم الى اللغة العربية عمل لا يقوم به الأفراد الأب حجار شيء آخر. لكن الذي ارتأيته أنا، ولا أزال عند رأيي، هو أن يلخص هذا الكتاب المجلدات التسعة في كتاب في جزءين يمكن أن يفيد منهما الكثيرون. أما أصحاب الاختصاص، وما أكثرهم عدداً في ديارنا، فيمكن أن يعودوا الى الأصل الفرنسي، خصوصاً وأنهم يعنون بشكل خاص بالمصادر التي رجع اليها المؤلف. ليس في هذا ضير. انه ادعى الى نشر الفائدة. وقد حدث مثل هذا لكتاب انكليزي ضخم نشر في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين هو كتاب طوينبي "دراسة التاريخ". فقد صدر الكتاب على دفعتين في عشرة مجلدات. وهذه لن يقرأها إلا أهل الاختصاص. فعمد سومرست، بموافقة المؤلف، الى تلخيص المجلدات العشرة في جزءين. وكان أميناً في عمله فنقل الأفكار وتجنب التفصيل. الى مثل هذا أدعو.