في كتاب «سيناء المدخل الشرقي لمصر» الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أتاح لنا المؤلف عباس مصطفى عمّار فرص التعرف على أهمية شبه جزيرة سيناء كطريق للمواصلات، وكمعبر للموجات البشرية المُصاحبة لحروب الفرنجة في المشرق العربي، والمُؤدية الى الفشل، وذلك في الثلث الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي (1096-1291). الأمر الذي دفع بأرباب الحروب الى طرح اسئلة عن الأسباب الكامنة وراء الهزيمة لتصحيح مسارات الهجمات في حال قررت قيادات أوروبا العودة الى سياسة الحملات. اذاً ثمّة أسئلة كثيرة سببتها الهزيمة المشرقية لأوروبا، ودفعتها الى البحث عن اجابات شافية لأسباب خسائرها، فأقدمت الكنيسة البابوية آنذاك على تكليف المؤرخ مارينو سانتو مهمّة البحث عن الإجابات الخافية عن القادة الأوروبيين، وعلى قاعدة الإجابة عن سؤالين أساسيين وهما: لماذا فشلت الحملات؟ وما هي الاقتراحات الواجب اتباعها للوصول الى النصر، لا الى الهزيمة؟ بعد جهد بحثي، وضع «سانتو» مؤلفه الموسوعي، والذي يقع في 13 مجلداً، وفيه يشرح أدق التفاصيل التي جرت في فترات الحروب، وصولاً الى تقديم اقتراحات عملية لقادة الدول الأوروبية تُوضح أسباب الفشل، وتضع خططاً لتجنب السقوط مرّة أخرى. ويعتبر عباس مصطفى عمّار المُجلد الأخير لموسوعة سانتو بمثابة بيت القصيد، أو المعالجة الأهم لسيل الأسئلة المطروحة على المؤرخ، لأنه يمنح العوامل الجغرافية - البشرية بعداً كافياً في أسباب الهزيمة. وأخطر ما تضمنه الجزء الأخير من الموسوعة، وفق رأي عمار هو في تحديد سانتو السبب الرئيس للفشل المُتمثل في مسار الحملات التي تركزت جغرافياً على احتلال ساحل بلاد الشام للوصول برّاً الى القدس، وأهملت موقع مصر الاستراتيجي، ودورها، ووزنها الديموغرافي. من هنا كشف سانتو عن أهمية مصر كقاعدة جغرافية - ديموغرافية للمنطقة، والتي تحتوي على أكبر خزّان بشري يُغذّي بلاد الشام باحتياط من الجيوش القادرة على الحماية، أو التصدي، أو قيادة المواجهة. وبناءً عليه قدّم سانتو مشروعه المتضمن اقتراحات عملية ونصائح مفيدة للكنيسة، ولقادة أوروبا، في حال قرروا المواجهة من جديد، والتي ركّزت على دور الجغرافيا المصرية، لذلك اقترح عليهم اعطاء مصر الأولوية فتنطلق الهجمات من سيناء لاحتلال فلسطين والسيطرة على القدس. كان مشروع سانتو ينتظر فرصة ما، ولم يمض وقت طويل حتى أتته الفرصة، عندما بدأت موازين القوى تتبدل لمصلحة أوروبا بعد أن وهن العرب والمسلمون، واتجهت الهجمات الأوروبية نحو مصر التزاماً بنصائح سانتو بغية السيطرة على المدخل الغربي الى الشرق الذي يفتح الطريق الى سيناءوفلسطين وساحل بلاد الشام، وبدأت الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) بهدف قطع الطريق بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند وآسيا. لقد أرشد سانتو أوروبا الى مصر باعتبارها مفتاحاً للدخول الى بلاد الشام، وكانت سيناء بوابة هذا الممر الذهبي لذلك بات الاهتمام بسيناء كجغرافيا يعكس اهتماماً متزايداً، لا باعتبارها اقليماً من أقاليم مصر فحسب بل ممراً اجبارياً مغرياً لأصحاب الحروب والغزوات، اذ شهدت شبه الجزيرة في الزمن القديم، وفي العصور الوسطى، وفي التاريخ الحديث، هجمات جيوش منظمة، كما أن مصر نفسها قديماً كثيراً ما اتخذت من سيناء طريقاً لتوسعها الخارجي وكانت، كما يذكر عمّار، كلما اشتد بأسها تمدّ نفوذها وتسيطر على بلاد الشام. وهناك نقطة مهمة أشار اليها الكاتب لتأكيد أهمية سيناء من الناحية الحربية، من خلال اعطاء شبه الجزيرة مركزاً حربياً ممتازاً ومتقدماً لم يكن لها من قبل، لأن الدفاع عن مصر كان يتمّ من خلال برزخ السويس، وحفر القناة قدّ غيّر من هذا الموقع كليّاً، وجعل من الذين يهتمون بسلامة القناة ينظرون كما يقول الكاتب الى حدود سيناءالشرقية كمنطقة للدفاع عن القناة، وهكذا زادت أهمية سيناء الحربية وأصبح الإنكليز ينظرون اليها كمنطقة لا غنى عنها لتأمين القناة، باعتبارها الشريان المهم في الجسم الأمني للدولة العظمى. وفي شرحه المستفيض عن أهمية سيناء موقعاً وممراً، يعيد الكاتب عباس عمّار ما بدأه المؤرخ مارينو سانتو، ولكن بنيات وأهداف مختلفة يلفت فيها الانتباه مجدداً الى اقليم مصري حيوي يضمه البحر الأحمر الى شرقي دلتا النيل، وشمال غربي بلاد العرب، وإلى الغرب والجنوب الغربي لشرق الأردنوفلسطين وسوريا، ويجعله نقطة اتصال ما بين الجنوب الغربي لقارة آسيا، والشمال الشرقي لقارة أفريقيا. في استعادة ذاكرة الصورة الحيوية لشبه جزيرة سيناء في كتاب عباس مصطفى عمّار إضاءة كاملة على حقبة تاريخية وجدت في سيناء حياة كاملة من الأمن، الى التجارة، فالثروة الطبيعية، وأهمية كبرى، باعتبارها حلقة مهمة من حلقات الاتصال بين مصر وما يجاورها من بلاد الشرقين الأوسط والأدنى، وباعتبارها مدخلاً رئيساً استخدمه الغزاة دخولاً وخروجاً، واتخذته الموجات المختلفة معبراً لها الى الوادي الخصيب. * كاتب لبناني