كلما التقيت غريباً ظننت أنه الرجل الذي صادفته في حكايةٍ ما، في سيرة لم أنهِ سردها لأنني أخطأت خِتامَها، وكان عليّ، لكي أعثر لها على ختام، أن أعاود سردها بلغة أخرى وناس آخرين وأمكنة أخرى. غير أني سأسميه، من الآن فصاعداً، الغريب الذي صادفته في حكايتي ومعه آخرون لا أذكر الآن أسماءهم أو وجوههم أو لماذا جاؤوا الى الحكاية ثمّ غادروها. كان ذلك، منذ أعوام، في الحجرة التي وصفتها من قبل، ولا أدري إذا كان القارئ، وهو مثلي، عثر على وصفها في أوراقي التي بقيت، من بعدي، على الطاولة أو في أحد الأدراج. كان ذلك منذ أعوام حين قرأت في صحيفة لست، في العادة، من قرائها المخلصين، ان التحقيقات التي أجريت بهذا الشأن قد توصلت الى جلاء الملابسات التي أحاطت باختفاء السيِّد ب.ح، وهو عامل مطبعة في إحدى كبريات الصحف المحلية، في ظروف غامضة، ذات مساء من مطلع شهر آذار مارس الجاري، بعدما غادر مركز عمله في ساعة متأخرة من الليل. كان الخبر موجزاً في بضعة أسطر في زاوية الحوادث المتفرِّقة، ولا أذكر الآن إذا كانت السطور التالية التي تحدثت عن جثة رجل في العقد الخامس لم يتم التعرُّف الى صاحبها، هي تتمة الخبر أم أنها خبرٌ آخر مختلف تماماً ولا صلة له بالخبر الأول إلا مخيلتي التي أفسدتها قراءاتي الرخيصة. لكن المؤكد أنني لست واثقاً الآن من هذا كلِّه، وانني ربما اختلقت كل شيء في ساعة من ساعات ضجري الطويلة. كان ينبغي أن ألتقي غريباً ما يثير ارتيابي في البداية، ثم أطمئن اليه قبل أن نتبادل بعض العبارات الغريبة التي لا تعني شيئاً لكنها تمنح القارئ متسعاً من الوقت للتفكير. كان ينبغي أن ألتقي غريباً ما. وكان الغريب، في حكايتي، رجلاً دمثاً، طويل القامة، حليق الذقن، على مشارف الخمسين، وإن بدا، لمكرٍ غامض في عينيه، أصغر سنَّاً. وما بلغني منه، في ما بعد، أكدّ لي أنه لم يختر أن يكون هناك، حيث التقيته، في مطلع الحكاية، وأنه لو قيض له أن يختار لاثر أن يختار مجرد عابر سبيل في رواية أجنبية، أو ربّان سفينة في حكاية للأطفال، أو مجرّد متفرِّج في صالة سينما، معتمة وقديمة. وما بلغني منه، في ما بعد، جعلني حائراً، متوجِّساً، إذ كيف لي أن أتدبَّر كلّ هذا وحدي، خصوصاً أن الأمور لا تجري، في العادة، على هذا النحو، وأنني، بصراحة، لم أختر، أنا أيضاً، أن أكون هناك حيث التقيته، في مطلع الحكاية، وظننت، لوهلةٍ ما، أنها مكيدة أخرى من المكائد التي تصنعها مخيلتي في ساعة من ساعات الضجر. أربكني ما بلغني منه، وكان عليَّ أن أجد وسيلةً للخروج من المأزق التقني الذي أوقعني به اعتراف الرجل بأنه كان مجرد خطأ في التقنية والأسلوب، وأنه إذ يصحبني في نزهتي الليلية هذه فلأنه لا يملك أن يختلق بدايات مختلفة، أو أن يحرف السرد عن سياقه. لذا تابعنا سيرنا، كما جاء في الحكاية، ورحت أسأله عن أمور لن يدركها سوى القارئ في ما بعد، فلا أجد سبباً لذكرها هاهنا، وحين أدركنا المُنعطف الذي يجعل الاتجاه سبيلين مختلفين ودَّعني وودعته، وافترقنا، فتابعت نزهتي الليلية هل كانت نزهة؟ وتابع طريقه لم أدرِ، بالضبط، ما الغرض من سيره ليلاً في الطرقات الموحشة، سوى أن يلتقيني في مطلع الحكاية، ويخبرني معتذراً، أن خطأً ما جعله في الحكاية الخطأ، وأنّه لا بد له أن يتابع طريقه.... افترقنا، أنا والغريب، إذاً عند المنعطف وتابعت نزهتي الليلية أو أي أمر آخر، من هذا القبيل، كنت بصدده قبل أن ألتقي الغريب الذي اتضح أنه ليس غريبي... افترقنا إذاً، فتنبهت الى أمر أحسب أنه جوهري لكي لا يستخفَّ بي القارئ في ما بعد ليسَ لأن اغفاله قد يؤدي الى ضعضعة في السياق أو الى ثغرة في السرد، فهذه أمور من صلب الأدب، بل لأنّه الأمر الذي دونه لا يستقيم سَردٌ أو سياقٌ ولا يكون قول ما يقال، هنا، واجباً أو ضرورياً. وكان عليَّ أن أسأل: هل تكفي نزهتي الليلية، العادية، الروتينية لأنني مُجبر على السير في ساعةٍ متأخرة من الليل، من مكان عملي الى بيتي، أي مسافة بضعة كيلومترات، في شوارع خالية من المارة والسيارات وآهلة بالكلاب الشاردة...، لأن تكون ذريعة حكاية أسردها الآن على الورق، وأدرك، يقيناً، أنها ستحفظ بين أوراقي على الطاولة أو في أحد الأدراج، لكي يعثر عليها أحدٌ ما، في ما بعد، لعلها زوجتي أو الخادمة، لتجد، بعد قراءتها، أن لا بداية لها ولا خاتمة، وأن أخطاء غير لغوية ضعضعت سياقها وأن الأشخاص الذين ورد ذكرهم فيها غادروها طوعاً عند أول منعطف، أحدهم ليتابع نزهته الليلية، وثانيهم ليتابع طريقه، وأن القرينة الوحيدة على واقعية أحداثها سطورٌ في زاوية الحوادث المتفرقة، ليس من المؤكد أنها جاءت في سياق خبر واحدٍ تام، أم أنه توليف، بسبب الغفلة، لسطور وعناصر من خبرين إمّا أن يكونا خبرين منفصلين وإما أن يكونا، لإهمال طباعي، خبراً واحداً لا يصلح أن يكون قرينة على شيء لاختلاط عناصره. هذا ما حصل. ولا بدَّ من أن الأمر اختلط أيضاً على المؤلف، إذ لم يسبق أن قرأت أو قرأ أحدٌ من قبل حكاية تقتصر على واقعة روتينية نزهة ليلية يرفض أشخاصها أن يتابعوا سرد تفاصيلها لأنها، أولاً، مملّة، ولأنها، ثانياًَ، ليست الحكاية التي ينبغي أن يسردوا تفاصيلها... لكن ما حصل، على أهميته، لا يبرر توقف الحكاية، لأنها بدأت وورد ذكر مطلعها في أكثر من موضع، ولا يبرر انقطاع السرد. لذا وجب العثور على قرائن جديدة غير مختلقة، وعلى أشخاص يسهمون طوعاً في سرد تفاصيلها، وعلى مؤلِّف يجمع القرائن وروايات الأشخاص ويدوِّنها، من دون أخطاء بحبرٍ سائل أسود على ورقٍ أبيض مستطيل، ويحرص أن تكون لها بداية وخاتمة. ووجب أن تكون بداية البداية على نحو مختلف، مثلاً: كان كلما التقيت غريباً ظننت أنّه... لأن المطلع الذي لا يبدأ ب"كان" لا يصلحُ مطلعاً لحكاية وإلاّ جازف المؤلِّف، والمفترض أنّه خبير ومحترف، في أن يؤدي ذلك الى اختلاط الأمر على القارئ أي قارئ فيحسب أن الحكاية سيرة ذاتية، وأن أشخاصها، طلباً للدقّةِ يسردون وقائعها المملّة ولا يختار أحدٌ منهم أن يكون كما يريد أن يكون أو كما لا يريد أن يكون، أو كما لا يريد أن لا يكون. وجب إذاً أن تكون بداية البداية، كما في حكايتي، "كان كلّما التقيت غريباً..." ولا بأس من بعض الأغلاط اللغوية إذا "كان" لا بدّ من ذلك فالشائع عن الرواة ومؤلفي الحكايات أنهم يستعملون ما يستعمل من اللغة في جاري تعبيرها، من دون أن يستنفدوا أوجه استعمالها، فإذا تبقى منها ما تبقى صنع منها آخرون أدباً. وحكاية هؤلاء مختلفة تتطلب استطراداً طويلاً ومملاًّ لسنا بصدده الآن... وجب إذاً وهذا تكرار الرواة أن يُشار الى الوقائع ب"كان" فيعرف، دون شك أو ريبة، أنَّها محض اختلاق وأن مزاعم الغرباء وأخبار الصحف والنزهات الليلية حتى النزهات الليلية هي مجرد مزاعم وذرائع محسوبة لكي تبدأ الحكاية بدايتها ولكي يُتاح لها، في ما بعد، أن تنتهي بخاتمة. ولذا وهذا استدراك كان ينبغي أن أوضح، كمؤلف، منذ البداية، أن الخبر الذي نشرته إحدى الصحف في باب الحوادث المتفرقة لم يكن خبرين اختلطت، لإهمال طباعي، سطورهما، بل كان خبرين منفصلين اختلطا في الذاكرة الواهنة لعامل مطبعة متعب خرج من مكان عمله في ساعةٍ متأخرة من الليل قاصداً بيته الذي يبعد بضعة كيلومترات كما أوضحنا لكنّه، لسببٍ ما، لم يصل وهذه حكاية أخرى وصادف غريباً لم يُرِد أن يكون غريباً فأوهمه أنه، على جاري عادته، إنما يقوم بنزهته الليلية الروتينية طرداً لأملاح جسمه ونسب الكولسترول الخاصة بالمؤلفين المرتفعة منه. أمَّا البقية فلا بدّ أن القارئ تابع تفاصيلها قبل أن يطرأ استدراك مطوّل... كان الخبرُ خبرين: ملابسات الاختفاء أنظر ما سبق وخبر العثور على جثة. وليس في صياغتهما، قبل ارتكاب الخطأ الطباعي، ما يشي بأيةِ صلة بينهما، وان كان الربط بينهما، إذا شاء القارئ، ممكناً فهو ليس ضرورياً وواجباً على الإطلاق. عامل مطبعة يختفي في ظروفٍ غامضة، وبجانب الخبر الذي يخبر عن تتمّة اختفائه، خبرٌ آخر عن واقعة جرت في طرف آخر من المدينة وفي ساعة أخرى ولرجلٍ آخر عن واقعة روتينية، هي أيضاً، تتردد مثيلاتها في الصحف وفي الحياة اليومية. وفي حين أن "النزهة الليلية"، كواقعة، لا تأتي الصحف على ذكرها وبالتالي لا يتردد ذكرها غير الوارد أصلاً، فيها فإنها قد تتردد في الحياة اليومية على نحوٍ منفر وممل. ويقول الخبر: أن هوية صاحب الجثة لم تُعرف. في حين أن الحرفين الأولين من اسم عامل المطبعة هما ب. ح. وإذا افترضنا أن هناك مئة ألف شخص من سكان المدينة يبدأ اسمهم بالحرفين ب.ح. فإنّ احتمال أن يكون ب.ح. هو ب.ح. هو احتمال واحد من مئة ألف. أما احتمال أن يكون من لم تعرف هويته أحداً فهو احتمال واحد من مجمل تعداد سكان المدينة مهما كان وهو يفوق المئة آلاف بكثير، هذا إذا كان من سكان المدينة" أما إذا لم يكن من سكان المدينة فهو لم تعرف هويته... فيصبح الاحتمال واحداً من عدد سكان العالم... إذاً، لا صلة منطقية واحدة بين الرجلين المعنيين في الخبرين، فما الذي جعلهما واحداً، أو احتمال أن يكونا واحداً، في مطلع الحكاية، حكايتي، التي توقفت ريثما ينهي المؤلف هذا الاستطراد؟ لا أحد يعرف. حتَّى المؤلف الذي وجد نفسه مرغماً على استخدام بعض المواد الخبرية لكي يوهم القارئ بواقعية ما يرويه، فاستخدم مادة الخبر الذي اختاره بمحض المصادفة من باب الحوادث المتفرقة في صحيفة لا يقرأها عادة وهذا إفراطٌ في توخي المجانية ثمَّ اتضح لم يتضح بالدليل القاطع وإنما مجرد تخمين أن الخبر المذكور هو، في الحقيقة، تداخلٌ بين سطور خبرين منفصلين ومختلفين نتيجة لإهمال طباعي تبعه إهمال في التدقيق فكان ما كان... أي الحكاية. وبما أن الأمر لا يتعدى الخطأ الطباعي والتخمين الروائي وجب التقيد بالممكن مهما كان اتساع احتمالاته، وكان على المؤلِّف أن يفترض أن الهوية المجهولة، في واحدة من احتمالاتها البعيدة، قد تكون تعني ب.ح. فهي إذاً في قراءةٍ ما، ولو كانت قراءة واحدة لقارئ واحد من مئة مليون ب.ح. أمَّا الوقائع المحتملة فهي التالية: حين افترق الراوي والغريب فتابع الأول نزهته فيما تابع الثاني طريقه عند المنعطف فَقَدَ ليلُ المدينة المقفر أثرهما. فلم يسلك الراوي الذي ثبت أنه ب.ح. على ما تقول الصحيفة الزُّقاق المنحدر قليلاً باتجاه العمارة التي يشغل، هو وزوجته وابنه، الشقة الجنوبية من طبقتها الخامسة. ولم يتلفت، على جاري عادته، من حوله تحسُّباً لزمرةِ الكلاب التي تلجأ الى مدخل العمارة في مثل هذه الساعة من الليل. لم يُنر لمبة الفناء، ولم يصعد الدرج متثاقلاً لأن المصعد معطّل ولم يفتح باب شقّته بحذر شديد. ولم يدخل. ولم يرتمِ متهالكاً على الكنبة أمام التلفزيون. ولم يتثاءب مطوّلاً قبل أن ينهض مجدداً ويخلع ثيابه ويندسّ في الفراش الدافىء الى جانب... ولم ينم. كان يسير مُتعباً حين التقيته وبدا متوجِّساً، خائفاً حين دنوتُ منه، لكنه اطمأن اليَّ وحين سألته، قال سأصحبك بعض الطريق. قال إنه ذاهب الى بيته وانه عامل مطبعة وأنه، في أوقات فراغه، يهوى تأليف القصص. وأنه يُدعى ب.ح. وأنّه أمضى ليلة مضنية في عَمَلِه إثر خطأ ارتكبه سهواً في باب الحوادث المتفرقة، فقد اتضح له، بعد فوات الأوان، أنَّه اضطر الى لصقِ تتمةٍ أخرى لخبرٍ بدا له ناقصاً. ولأنه فقد أصول الخبرين، لسببٍ ما، لم يتمكن من فصل الخبرين ببداية وخاتمة لكلٍّ منهما. حذف جزءٌ من هذا وأضيف جزء من ذاك، فأصبح خبراً واحداً. وأنَّه، آخر الأمر، أقنع نفسه وهذا صحيح أن الخبر في صيغته المولَّفة أفضل بكثير، وأنَّه يجعل من الواقعة العادية، لغزاً. وقال: لن تصدق هذا. تخيل أنَّ الخبر عن عامل مطبعة يُدعى ب.ح. وعلمتُ من تفصيلٍ أهملته في ما بعد أنّه يهوى، في أوقات فراغه، تأليف القصص، وأنّه ألفَّ قصّة صدرت في كتاب عن عامل مطبعة يدعى ب.ح. اختفى في ظروفٍ غامضة ذات مساء من مطلع شهر آذار مارس بعد أن غادر مكان عمله قاصداً بيته... تخيّل. كأنها حكاية.